شعار قسم مدونات

النبي وصناعة الموهوبين (1)

كان قائد الحرس النبوي الخاص، وقائد قوات الاستطلاع والمخابرات، حيث عَهِد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجلي يهود بني قينقاع، فكان هو الذي أجلاهم وأخذ أموالهم بعد نقضهم العقود (صورة بالذكاء الاصطناعي ـ الجزيرة/ميدجورني)
أبدع خالد بن الوليد بمواهبه الفريدة النادرة في القيادة العسكرية التي أحدثت الفرق في التاريخ الإنساني (الجزيرة/ميدجورني)

رسول الله – ﷺ – مدرسة متميزة في رعاية المواهب واكتشافها وتنميتها، وتوظيفها للارتقاء بالمجتمع، وتطوير العالم وإحداث التغيير الأفضل فيه؛ ولأن المواهب تصنع الفرق وتحدث النقلات الكبيرة في حياة الأمم، اهتم رسول الله – ﷺ – بالموهوبين من أوّل وهلة في الإسلام، وعبر كل مراحل العمل لبناء دولته ونشر رسالته في العالمين.

وفي هذا المقال نسلط الضوء على بعض النماذج المختصرة السريعة لتكون لنا هاديًا ومرشدًا في الاهتمام بالمواهب والموهوبين؛ لإعادة بناء أمتنا والأخذ بها إلى سبيل الريادة من جديد.

المواهب العقلية المتميزة تحسن استقبال الدعوة والاستجابة لها، وتحسن إدارة شؤونها والتحرك بها في مرحلة نشأتها الصعبة، التي تحتاج إلى الحكمة، وتخطي التهديدات الأمنية التي تتعرض لها

فهذه زوجته خديجة بنت خويلد، خيرة نساء عصرها، كريمة الأصل، صاحبة الأخلاق الراقية، ذات الشأن والمكانة والتأثير في المجتمع كله، من أفضل الرموز الاجتماعية في مكة المكرمة حسبًا ونسبًا وأخلاقًا ومالًا وثروةً، ومن رموز الاقتصاد الناجحة تجاريًّا؛ وهي ركن ركين بين أرباب الأعمال، وقامة مرموقة يحترمها الجميع، وقدوة متميزة ترنو إليها كل النساء.

وهذا أبو بكر الصديق الموهوب اجتماعيًا، نسّابة العرب، ركن ركين يحتاجه المجتمع المكي؛ فهو الخبير بالمجتمع بأكمله، بأصوله وفروعه وتاريخه وحاضره، ويجيد التعرف على عناصر الخير والشر فيه، ويمتلك الخريطة الاجتماعية بأكملها ويحسن التحرك فيها، وهو كذلك الموهوب اقتصاديًا، صاحب المال الكثير، يجيد توظيفه بكفاءة، فكم اشترى من العبيد والإماء ثم حررهم، وسخر المال لخدمة الدعوة!

إعلان

وهذا علي بن أبي طالب من خيرة فتيان قريش؛ نشأ في بيت القيادة الذي تتوجه إليه أنظار المجتمع، يتميز بالذكاء العالي، والقوة الجسدية، ومهارات الفروسية والقتال، تشرب المهارات القيادية منذ نعومة أظفاره، نموذج لفتيان عصره، ورمز من الرموز الناشئة المتميزة.

كان رسول الله – ﷺ – منذ اللحظات الأولى لتحركه بالرسالة ينتهج البحث عن الموهوبين، ويحسن اختيارهم وتوظيفهم، فيختار أفضل العناصر لحمل أفضل رسالة؛ فكان يهتم بأصحاب المواهب الفكرية المتميزة. وكان- كما تقول الروايات عن بدء الدعوة- "لا يدعو إلا من وثق بعقله"، فالمواهب العقلية المتميزة تحسن استقبال الدعوة والاستجابة لها، وتحسن إدارة شؤونها والتحرك بها في مرحلة نشأتها الصعبة، التي تحتاج إلى الحكمة، وتخطي التهديدات الأمنية التي تتعرض لها.

وكذلك كل دعوة في نشأتها، لا يُحسن حملها إلا هؤلاء، وينبغي أن تبتعد عن ضعاف القدرات العقلية، والسطحيين والسذج أو الحمقى، الذين يكونون سببًا في القضاء على الدعوة الناشئة في مهدها.

ولم تترك الدعوة الناشئة قبيلة من القبائل ولا شريحة من شرائح المجتمع إلا واختارت خيرة عناصرها الموهوبة؛ ورسولنا الحبيب – ﷺ – يتحرك في مكة ومعه أفضل خبراء علم الاجتماع، سيدنا أبوبكر الصديق الذي يمتلك خريطة المجتمع بكل تفاصيلها، فلم تتركز الدعوة في قبيلة دون قبيلة، فتتأثر بتناحر القبائل أو تتلون بلون قبلي خاص، فهي دعوة للجميع، بل دعوة لكل العالم.

والمتفحص في العناصر الموهوبة الأولى التي دعاها رسول الله – ﷺ – يجد أروع النماذج في كل المجالات؛ وكان في طليعتهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون، وأبوعبيدة بن الجراح، وأبوسلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن أبي الأرقم.. والحديث عنهم يعجز عنه مقال سريع مثل هذا؛ بل يحتاج إلى كتب لبسط تفاصيله الكثيرة.

إعلان

ولك أن تتخيل مكانة هذه الشخصيات الموهوبة ومدى تميزها وتأثيرها في المجتمع، فقد كانت الأم تهدهد طفلها لتعبر عن مدى حبها له بأن تقول له: "أحبك والرحمن حب قريش لعثمان".

اللافت للنظر في علم استثمار المواهب أن خالد بن الوليد أسلم بعد 20 عامًا من بدء الرسالة، وتولى القيادة العسكرية بعد أربعة أشهر من إسلامه، وسماه رسول الله "سيف الله المسلول"، وهذا يعكس مكانة الموهوب في الإسلام واحترام المهارات، وأن القيادة للأكفأ وليست للأقدم

وحسب كل مرحلة كان ﷺ حريصًا على انضمام العناصر الموهوبة التي تحسن حمل الرسالة؛ فمن لا يستجيب بالدعوة يركز عليه بالدعاء، ففي مرحلة كانت الدعوة فيها تحتاج إلى العزة والقوة المجتمعية، اهتم بالمواهب ذات الكاريزما القيادية المجتمعية التي تؤثر في الجميع، فكان يدعو: "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام"، فكان إسلام عمر بن الخطاب مرحلة فارقة؛ فالمواهب تصنع الفرق، فكان "عمر الفاروق" الذي أحدث بإسلامه الفرق بين الحق والباطل، وكان عمر عمومًا من أفضل الموهوبين في علم الإدارة في تاريخ الإنسانية، وإبداعاته الإدارية كانت النواة التي ارتكزت عليها أغلب القوانين الإدارية في العالم الحديث، ودراسة حياته ومواهبه القيادية تحتاج إلى رسائل الماجستير والدكتوراة والأبحاث العلمية.

ولما احتاج إلى قيادة عسكرية تصنع الفرق اهتم بدعوة أفضل القيادات العسكرية في تاريخ الإنسانية (خالد بن الوليد)؛ أرسل إليه رسالة عبر أخيه الوليد بن الوليد وقال له: "مثلك لا يتأخر عن الإسلام"!. واللافت للنظر في علم استثمار المواهب أن خالد بن الوليد أسلم بعد 20 عامًا من بدء الرسالة، وتولى القيادة العسكرية بعد أربعة أشهر من إسلامه، وسماه رسول الله "سيف الله المسلول"، وهذا يعكس مكانة الموهوب في الإسلام واحترام المهارات، وأن القيادة للأكفأ وليست للأقدم.

وقد أبدع خالد بمواهبه الفريدة النادرة في القيادة العسكرية، التي أحدثت الفرق في التاريخ الإنساني، وقاد قرابة مائة معركة لم ينهزم في واحدة منها، وهو نموذج للإبداع العسكري، يدرَّس في المدارس والكليات العسكرية في العالم، وتحضر فيه رسائل الماجستير والدكتوراه.

إعلان

لم يترك رسول الله مجالًا من مجالات التميز إلا واهتم به؛ ففي مجال الاهتمام بالمواهب الصوتية، ولأهمية تأثير الصوت الجميل في النفوس كوسيلة جذب وتأثير، وفي مرحلة البحث عن وسيلة إعلامية للدعوة للصلاة، رأى الصحابي الجليل عبدالله بن زيد رؤيا فيها الأذان الذي نعرفه، فقال له رسول الله – صلى الله عليه- : "فقم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتًا منك".

كان رسول الله – ﷺ – ذا عين فاحصة خبيرة مكتشفة، يُحسن التقاط الجواهر والعناصر الموهوبة في جميع المجالات، ويحسن إعدادها وتدريبها وتنميتها، ويحسن توظيفها واستثمارها لحمل الرسالة والتأثير في العالم

وفي شهر شوال من السنة الثامنة من الهجرة النبوية الشريفة، وفي طريق عودة رسول الله – ﷺ – من غزوة حنين، سمع مجموعة من الفتيان الكفرة يستهزئون بالأذان بصوت عالٍ، وكان أحدهم جميل الصوت، فأمر أصحابه بالإتيان بهم ليعرف صاحب الصوت الجميل، فإذا هو "أبو محذورة الجُمَحِي"، فدعاه رسول الله للإسلام ودعا له، وأعطاه صرة فيها نقود من فضة، ومسح على رأسه وجسمه، فهداه الله للإسلام، واختاره رسول الله من وقتها مؤذنًا لمكة المكرمة وهو ابن ست عشرة سنة، وهنا العبرة بالموهبة والمهارة وليست بالسن؛ كان اختيار أبي محذورة مؤذنًا للمسجد الحرام بعد واحد وعشرين عامًا من بدء الرسالة، وقبله مسلمون كثر لم يقل واحد منهم: لماذا تم اختيار هذا الفتى الصغير، ونحن أسلمنا من قبل أن يولد؟

وهكذا كان رسول الله – ﷺ – ذا عين فاحصة خبيرة مكتشفة، يُحسن التقاط الجواهر والعناصر الموهوبة في جميع المجالات، ويحسن إعدادها وتدريبها وتنميتها، ويحسن توظيفها واستثمارها؛ لحمل الرسالة والتأثير في العالم؛ وهذا ما أحدث الفرق في تاريخ الإنسانية وواقع العالم بانتشار الإسلام فيه في فترة وجيزة من الزمن، وهذا يدعو كل القادة والمربين الحريصين على بناء الأمة أن يركزوا على اكتشاف وتنمية وتوظيف الموهوبين للانطلاق من الكبوة، وبناء النهضة، وصناعة المجد، والريادة والتفوق.

في المقال التالي – بإذن الله تعالى – نتحدث عن نماذج من مجالات المواهب المتنوعة الشاملة، التي حرص عليها الرسول لبناء أرقى الدول في التاريخ.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان