لا يكاد يرد اسم كافور الإخشيدي في مناسبة ما أو في معرض بحث تاريخي أو دراسة أكاديمية، حتى يتداعى إلى ذهن المستمع أو القارئ ذلك الهجاء المقذع الذي نظمه المتنبي بحق كافور، والذي ضمَّنه العديد من النقائص الخَلقية والخُلقية بحقه، حتى تكاد تلك القصيدة الهجائية أن تكون خلاصة ما يعرفه معظم الناس عن هذا الحاكم، الذي شمل حكمه مصر والشام ومناطق أخرى، وامتدت سنوات حكمه لتربو عن العشرين.
بل إنه يقع في أذهان كثيرين أن تلك النعوت التي تحط من قدر كافور، وما ورد في تلك القصيدة من وصف لسوء أخلاقه وتعامله، هي حقيقة مؤكدة لا مجال للبحث في صحتها مادام أن المتنبي (العظيم) – مالئ الدنيا وشاغل الناس في زمنه وفي كل زمان – هو قائلها.
كفى بكَ داءً أن ترى الموت شافيا
وحسـب الـمـنـايـا أن يكن أمـانيــا
لكننا – وقبل أن نناقش صحة تلك النعوت والصفات التي أسبغها المتنبي على كافور- نجد أنفسنا أمام سؤال ينبغي طرحه، ومفاده: هل كان رأي المتنبي بكافور رأيًا مستقرًّا منذ البداية، لم يحد عنه أو يأتي من خلال أشعاره بما يناقضه؟
الواقع أن المتنبي ابتدأ بمدح كافور، وإطلاق الحميد من الصفات عليه وبقصائد عدة، لكن تحوله بعد ذلك سببه امتناع كافور عن منح المتنبي ما جاء من أجله، رغم إجزال العطاء له من أموالٍ وأراضٍ وجوارٍ وخيولٍ؛ إذ كان المتنبي يطمح إلى أمرٍ آخر سبق أن صرح به في القصيدة التي دخل بها على كافور عند وصوله مصر، والتي مطلعها:
كفى بكَ داءً أن ترى الموت شافيا .. وحسـب الـمـنـايـا أن يكن أمـانيــا
وفيها:
وغـيـر كـثـيـر أن يزورك راجـل .. فـيـرجـع مـلـكًـا للعـراقـيـن والـيـا
إذًا، فما يريده المتنبي من كافور واضح وصريح، لكن عدم تلبية ذلك الطلب بعينه – ربما – كان السبب الرئيس الذي جعل المتنبي ينقلب من المديح إلى الهجاء.. وهكذا تحول كافور من:
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده .. وكل سـحـاب لا أخص الغواديا
ليصبح في حالة الهجاء:
ما يقبض الموت نفسًا من نفوسهمُ .. إلا وفـي يـــده مـن نـتـنـهــا عـود
وتحول الموقف من كافور من:
إذا كسب الناس المعالي بالندى .. فإنك تعـطي في نداك المعـاليـا
ليكون في حالة الهجاء:
جوعان يأكل من زادي ويمسكني .. حتى يقال عظـيـم الـقدر مقـصـود
وهكذا تتحول الصفات والأخلاق والأوصاف إلى نقيضها مما هو معروف ومحفوظ عند الناس!. لكن، أين الحقيقة في ذلك؟ وكيف كانت صفات وأخلاق كافور في تعامله مع المحيطين حوله، وهو الحاكم والسيد المتربع على عرش الدولة الإخشيدية لثلاثة وعشرين عامًا؟
الهجاء المقذع من المتنبي لشخص كافور، صحيح أنه يرجع بجزء معتبر منه لعدم تلبية ما كان يطمح إليه الشاعر من وفادته عليه، لكنني أظن أن هناك سببًا نفسيًّا لدى الشاعر، مردُّه إلى أن كافورًا – وهو العبد الرقيق المخصي الأمي، الذي كان يباع في سوق النخاسة، الدميم مشقوق الشفة – يصل إلى ذلك المنصب الرفيع
حسب المؤرخين، دون خلاف تقريبًا، فإن كافورًا الحاكم كان ممن يقربون العلماء والأدباء ورجال الدين، يسمع رأيهم ويجزل العطاء لهم، كان لين العريكة محبوبًا عمومًا من رعيته، ينظر بنفسه في قضاء حوائج الناس والفصل في مظالمهم.. بالمختصر، كان بمقاييس تلك الأيام حاكمًا معتدلًا مقرّبًا لقلوب رعيته، على عكس الصورة التي تركها تأثير ذلك الهجاء المقذع الذي طاله من المتنبي!. ألم أقل لكم إنها جناية المتنبي عليه؟
لكنني أميل إلى رأي أودّ لو يتاح له أن يناقَش من قبل بعض النقاد والمهتمين، خلاصته أن ذلك الهجاء المقذع من المتنبي لشخص كافور، صحيح أنه يرجع بجزء معتبر منه لعدم تلبية ما كان يطمح إليه الشاعر من وفادته عليه، لكنني أظن أن هناك سببًا نفسيًّا لدى الشاعر، مردُّه إلى أن كافورًا – وهو العبد الرقيق المخصي الأمي، الذي كان يباع في سوق النخاسة، الدميم مشقوق الشفة – يصل إلى ذلك المنصب الرفيع، ويتاح له أن يكون على رأس الدولة الإخشيدية كل تلك السنوات الطوال، في حين أنه – أي المتنبي – المعتد بنفسه، المفاخر بشعره وأدبه ومعرفته، لا يطول ولو بعضًا مما طاله ذلك العبد الآبق، الذي لا يصح شراؤه في سوق النخاسة إلا والعصا معه.
نعم، أعتقد أنها حالة نفسية تملكت الشاعر مقرونة بالسخط والغيرة والحقد على كافور، أخرجت كل ذلك الهجاء المرّ المقذع، ليكون عبر الزمان انتقامًا من الشاعر تجاه من يظن أنه تبوأ من المناصب ما هو أحق به.. إنه الانتقام الذي تحول ليكون جناية مستمرة مع توالي الأيام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.