شعار قسم مدونات

الطوفان والوطنية الزائفة

إسرائيل ما عادت قادرة على الاستمرار بالمواجهة بعد أن أصبحت دولة منبوذة ومارقة وخارجة على القانون الدولي إلا بدعم الولايات المتحدة (الفرنسية)

لا تزال آلة القتل الإسرائيلية ماضيةً في القتل والدمار والتشريد وتنفيذ مخططها، فلن يهدأ لها بال إلّا عندما تضمن أنّ اتفاق أوسلو الذي أقرّ بإقامة دولة فلسطينية لن يرى النور، وأنّ إسرائيل استعادت صورتها الأسطورية وصورة جيشها الذي رسمته خلال عقودٍ عدة.

ولكن علينا إدراك حقيقة واضحة اليوم، هي أنّنا اليوم لا نحارب إسرائيل فحسب؛ فإسرائيل قد سقطت في اللحظات الأولى من 7 أكتوبر/تشرين الأول، إنّما نحارب آلة البطش الغربية وقيمها المتوحشة، وأنّ إسرائيل ما عادت قادرة على الاستمرار بالمواجهة، بعد أن أصبحت دولة منبوذة ومارقة وخارجة على القانون الدولي، وما استمرارها إلّا بفضل الدعم الأميركي غير المحدود والصمت العربي الرهيب.

لا أريد أن أطيل في الحديث في هذا الموضوع، ولكنني في هذه المقالة أريد أن أتناول مفهوم الهُوية الوطنية الزائفة، التي ساهمت في حالة الانقسام العربي تجاه هذه القضية، رغم أنّ "طوفان الأقصى" أعطى النخب العربية فرصةً ذهبية للعودة مجددًا إلى المسرح السياسي – أقله إقليميًّا – وبشكلٍ قوي واستثنائي، إلّا أنّهم رفضوا تلك الفرصة، وآثروا البقاء كأسرى للقرارات الخارجية، والهوية الوطنية الزائفة.

ثمّ إنّ هناك سؤالًا يراودني، وأنا متأكد من أنّه يراود أفئدة الملايين من الناس؛ إذ كيف لتسعة ملايين إنسان تقريبًا جيء بهم من الشتات الأوروبي أن يتحكموا في 400 مليون إنسانٍ يعيشون في الشرق الأوسط؛ وأصبحوا رهينة قرارات هؤلاء الصهاينة ومخطّطاتهم وإجرامهم؟ هذا السؤال سوف يأخذنا في تشريح القضية من المنطلق الهوياتي، ومدى تأثيرها في تمزيق القضية الفلسطينية.

اليابان نموذج لكيفية تعاطي القوى الغربية مع خصومها، وعملية تجريد هويتهم من أصالتها

الهندسة الأميركية للهوية اليابانية

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سنة 1945، واستسلام اليابان إثر إلقاء قنبلتين ذريّتين، بدأت الإدارة الأميركية بالعمل الدؤوب من أجل تفكيك الهوية اليابانية، وتطويعها للحضارة الغربية، وتهذيبها وجعلها مسالمة.

إعلان

وتولى الجنرال دوغلاس ماكارثر إدارة هذا الملف، وكان مخطط ماكارثر يهدف إلى تطويع الهوية اليابانية بعد أن كانت عصيّة على الفكر الاستعماري في عهد ميجي، لذلك – ومن هذا المنطلق – بدأت عملية الهدم للقواعد الأساسية للثقافة اللاهوتية اليابانية الشنتوية بتنزيل الإمبراطور وتخفيضه من درجة إله إلى درجة إنسان برتبة إمبراطور، وتمّت إزالة حالة التنزيه والقدسية عنه، فلقد تم تصويره بجانب ماك آرثر للدلالة على إنسانيته البحتة، وأنّه ليس حفيد آلهة الشمس، وهي ضربة قاصمةٌ للمعتقدات الشنتوية، وللوعي التاريخي الياباني، وللثقافة الميجية التي حاربت المسيحية والبوذية.

ثم جاؤوا بدستورٍ جديد يكرس هذه الفِكَر؛ كقواعد أساسية للهوية اليابانية الجديدة، ونظامها المعرفي السياسي والقانوني، والهدف من هذا هو العبث بالهوية اليابانية، وخلع مخالبها وأنيابها من أجل إحكام السيطرة عليها، وتطويعها ضمن الرؤية الأميركية، ما شكّل صدمةً لليابانيين.

إن اليابان نموذج لكيفية تعاطي القوى الغربية مع خصومها، وعملية تجريد هويتهم من أصالتها.

أضحت الوطنية هُوية صُلبة تهدف إلى سلخ الجماعة التي تسكن إدارة سياسية معينة عن الجماعة الكبرى، وتقدم مصالحها الضيقة على المصالح الإستراتيجية، وفي الحقيقة – وليس الواقع – فهي الانتماء إلى الأرض والتاريخ، وإلى سلطة شرعية اكتسبت شرعيتها ومشروعيتها من الناس

الهندسة الغربية للهوية الحضارية الإسلامية

أمّا في الواقع العربي والإسلامي، فالشواهد التاريخية مليئة بالأدلة التي تؤكد أنّ لوازم نهوض الأمة وشروط نهضتها تستوجب العودة إلى المفهوم الأصيل والهوية الحضارية، من أجل مواجهة التحديات التي تحيط بها من كل حَدَبٍ وصوب.

لقد تنبّه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني إلى أسس عوامل النهضة وأهمية إعادة الروابط أساسية، لذلك عمل على ربط الأمة جغرافيًّا من خلال السكة الحديد التي تهدف إلى ربط الحجاز – مهد الحضارة الإسلامية، والتي لها دلالةٌ دينية وتاريخية – مع العاصمة السياسية للدولة، مرورًا بقلب الدولة، أي البيئة الإستراتيجية للأمة. فهذه السكة تمثل الرابط المادي الذي يربط أوصال الأمة، يربط القرى بالحواضر، يربط البدو بالحضر، يربط العرب بالترك.

أمّا بشأن الرابط الوجداني والثقافي، فقام بتأسيس الجامعة الإسلامية التي تهدف إلى القفز فوق كل الفروق القومية والعرقية والإثنية، التي أضحت وقتذاك تنخر جسد الأمة، ولكن محاولته لم تنجح لأسبابٍ كثيرة. لقد كان مفهوم القومية والأفكار الوطنية قد تغلغل في الوعي والمجتمع العربي، وللأسف، فقد التقت الوطنية المزيفة مع الأفكار الاستعمارية، فتم نسف السكة الحديد والجامعة الإسلامية، واستبدلت الأمة بهويتها الحضارية هويتها القومية، ثم تخلت عنها لصالح الهوية الوطنية، وهذه الهوية قدمت مصالح النخب السياسية على مصالح الجماعة أو الأمة جمعاء.

هل الغرب الذي صدّر لنا هذه الهوية يعمل ضمن الحدود الوطنية؟ هل الولايات المتحدة الأميركية تعمل ضمن أجندة وطنية؟ طبعًا لا، فالغرب لا يعمل في الإطار الوطني إنما ضمن مفهومه الكوني والحضاري، ويسعى إلى تصدير ثقافته وهويته إلى العالم

مفهوم الوطنية الزائفة

بعد قراءة ما كتبته أعلاه، قد يذهب فكر البعض إلى أنّنا نحرّض على الوطنية، وأنّنا نعلن العداء والتنكّر لهذه القيمة، ولكن المشكلة أنّنا نتقلد ما لم نتمعن فيه كما يجب، كمن يدرس من دون أن يفهم ما يدرسه، فيتخرّج في المدرسة من دون أن يحمل رسالة المدرسة التي تريده أن يحملها فعلًا؛ فالوطنية لا تنحصر ضمن المصطلحات السلطوية الضيقة، والمتعلقة بالرؤية السياسية ونخبها والفِكَر السلطوية، وهي ليست الانتماء إلى الكيان السياسي وسلطته، فهي أعمّ وأعمق من ذلك بكثير.

إعلان

هكذا – للأسف – أضحت الوطنية هُوية صُلبة تهدف إلى سلخ الجماعة التي تسكن إدارة سياسية معينة عن الجماعة الكبرى، وتقدم مصالحها الضيقة على المصالح الإستراتيجية، وفي الحقيقة – وليس الواقع – فهي الانتماء إلى الأرض والتاريخ، وإلى سلطة شرعية اكتسبت شرعيتها ومشروعيتها من الناس، عبر أساليب ديمقراطية حديثة.. وهذا ما لم يحصل في بلادنا للأسف.

وأودّ أن أسأل، هل الغرب الذي صدّر لنا هذه الهوية يعمل ضمن الحدود الوطنية؟ هل الولايات المتحدة الأميركية تعمل ضمن أجندة وطنية؟ طبعًا لا، فالغرب لا يعمل في الإطار الوطني إنما ضمن مفهومه الكوني والحضاري، ويسعى إلى تصدير ثقافته وهويته إلى العالم.

لقد هاجمت الولايات المتحدة الأميركية أفغانستان والعراق، ودعمت إسرائيل دعمًا غير محدود، وكل هذا لم يكن ضمن المحددات الوطنية الصرفة، إنّما من منطلق رؤية كونية وسعي لتسيّد العالم عبر طرح رؤيتها الحضارية للعالم والحلم الأميركي (The American dream).

لقد قام الغرب عبر الاستشراق الفج بدراسة البيئة الاجتماعية وأُسس الروابط الثقافية في الشرق الأوسط؛ من أجل فهمها، ومن أجل العمل على تفكيكها إلى جزئيات غير قابلة للالتحام والانصهار مجددًا.. وهذا تمامًا ما قام به العقل الغربي في أثناء استعماره الدول العربية، فوقعت بلادنا فريسة الوطنية الزائفة؛ فهذه فلسطين تعاني اليوم ما تعانيه، ولم تتحرك البيئة الإستراتيجية التي تمّ العبث بها في منطقتنا؛ حيث تحولت فلسطين من قضية مركزية ومنطقة ذات أهمية جيوبوليتيكية إلى قضية هامشية، وأصبحت الهموم الوطنية أكثر أهمية من المصالح الإستراتيجية.

طبعًا، إنّ ذلك الصمت لا يمكن نسبته إلى الهوية الوطنية فحسب، ولكنْ لها أثارٌ كبيرةٌ جدًا؛ حيث قامت بتقزيم الأمة إلى دولٍ قُطرية، وشعوبٍ متخلفة في الثقافة والانتماء السياسي، واستغلت النخب العربية هذه الهوية لتدجين شعوبها عبر سلخهم عن الانتماء الحضاري، وقوقعتهم في الهوية الوطنية والمصالح الضيقة، وهذا التقوقع لن يحمي أحدًا من الافتراس عند اقتراب الذئاب.

عملت النخب العربية على ربط الهوية الوطنية بالهوية السياسية، أي بوجودهم، فأيّ اعتراض أو معارضة على هذا الرابط هو بالنسبة إليهم بمثابة خيانة للوطن!

إضافةً إلى ذلك، فلقد قامت الهوية الوطنية على مكافحة الدين وحصره في المجال الخاصّ، باعتباره عاملًا لا يساهم في الدمج الوطني، فالحداثيون العرب تكلموا كثيرًا في أن الدين عاملٌ أساسي ساهم في التراجع؛ ويجب أن ينحصر في المسائل الخاصة المتعلقة بالزواج والميراث وبعض القضايا الاجتماعية.. هكذا، حصلت اضطرابات وانقسامات بين المتديّنين وبين العلمانيّين والقوميّين.

لقد وقعنا في فخ الوطنية وهُويتها السياسية، التي معظمنا لا ينتمي إليها أو لا يؤمن بها، لأنّ النخب العربية الحاكمة لم تحقق طموحاتنا، ولم تكتسب الشرعية من خلال الديمقراطية، فالهُوية التي نحملها ليست إلّا هُوية سياسية، وهي تعبيرٌ فاقع عن الانتماء إلى السلطات السياسية العربية، التي باتت – بعد هذه الحرب – لا تمثل معظم تطلعات الشعوب، فلقد قدّمت تنازلاتٍ من دون أيّ مقابل.

فهذه مصر، وهي دولة الـ 100 مليون نسمة، وهي الدولة الكبرى من حيث الحضور والتاريخ والأهمية الديمغرافية والجغرافية، وتتمتع بأهمية جيوبوليتيكية، ورغم كل هذه الميزات، فإنها لم تسلم من مخالب الرأسمالية، ووقعت فريسة الديون.. والأردن حاله كذلك!. فهذه الوطنية والمصالح الضيقة حوّلت فلسطين إلى فريسةٍ سهلة في فم الصهيونية العالمية، التي هي امتداد للهوية الغربية الحضارية.

لقد عملت النخب العربية على ربط الهوية الوطنية بالهوية السياسية، أي بوجودهم، فأيّ اعتراض أو معارضة على هذا الرابط هو بالنسبة إليهم بمثابة خيانة للوطن!. وهنا، وجب علينا أن نفرّق بين الهوية السياسية الوطنية وبين الهوية الوطنية المرتبطة بالوعي التاريخي والأرض والمجتمع؛ فالرابط السياسي متغير ويتبدّل وفقًا لسياقاتٍ متنوعة، أمّا الأرض والتاريخ والمجتمع فهي عناصر ثابتة، وهي أصل الهوية الوطنية التي يتوجب علينا جميعًا التمسك بها والدفاع عنها، أمّا الهوية السياسية المرتبطة بأزلام السلطة ونخبهم فهي ما عادت تمثل تطلعاتنا، وقد أعلنت الطلاق مع مفهوم الأمة.. فلا يمكن لنا أن ننهض فرادى، فالوطنية أصبحت نزعةً تُستعمل  لأغراضٍ سلطوية.

لقد أسأنا فهم الوطنية؛ فالوطنية التي نعيشها اليومَ ما هي إلّا أداةٌ سلطوية مزقت أوصالنا، وبحثت عن المصالح الضيقة، وما لم ندركه هو أنّه إن اشتكت فلسطين من المرض، فالمرض سوف ينتشر في سائر المنطقة، ولن يميز بين هُوية وطنية سورية أو عراقية أو أردنية، ولن تفيد الهوية الوطنية في منع انتقال العدوى والمرض

ما هو أصل الوطنية؟ الوطنية والقومية جاءتا لإنقاذ المجتمع الأوروبي الغارق في الحروب الطائفية والدينية، التي لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، فكان مؤتمر وستفاليا سنة 1648 خشبة خلاصٍ لهم، وبوابة خروج من مأزق الصراع الديني إلى عصر القوميات.. هكذا، أسست هويتها لاحقًا، وهي مرادفة للدولة الحديثة والحداثة، لضبط المجتمع وجمعه على قواعد مشتركة وثقافة أحادية.

إعلان

ولكن في السياسة الخارجية كانت القومية الألمانية النازية – على سبيل المثال- هي الدافع العقائدي للتوسع، وكانت الفرنسية والسياسة الديغولية هي استمرار للاستعمار، وكانت الوطنية الأميركية هي الدافع نحو ثورة الأفكار والحلم الأميركي بالهيمنة على العالم كله، واحتواء الشيوعية ومحاربة الإسلام السياسي.

أمّا نحن، فقتلتنا السيادة الوطنية وتلك الأحلام المنسية؛ وتصارعنا مع من يحمل الثقافة نفسها والتاريخ، وينتمي إلى الأمة ذاتها؛ فالوطنية التركية والعلمانية نزعتا تركيا عن تاريخها العريق، وأصبحت لفترة زمينة معادية للعرب وللتاريخ الإسلامي، أمّا مصر فوقعت سابقًا فريسة الاشتراكية، وسبحت في فلك الشيوعية، ومن ثم انتقلت إلى المعسكر الرأسمالي، وأصبحت الدول العربية الإقليمية – ولا تزال حتى يومنا هذا- حلفاء للغرب.. هكذا، أصبحت الدول العربية مستوردة للأفكار الخارجية وأسيرة لها.

خلاصة القول، لقد أسأنا فهم الوطنية؛ فالوطنية التي نعيشها اليومَ ما هي إلّا أداةٌ سلطوية مزقت أوصالنا، وبحثت عن المصالح الضيقة، وما لم ندركه هو أنّه إن اشتكت فلسطين من المرض، فالمرض سوف ينتشر في سائر المنطقة، ولن يميز بين هُوية وطنية سورية أو عراقية أو أردنية، ولن تفيد الهوية الوطنية في منع انتقال العدوى والمرض؛ فإذا تعرض أيّ مجتمع للخطر، فالخطر سوف يكمل طريقه، وسوف يقفز فوق الهوية الوطنية، وينخر الجسد كله.

المانع الوحيد لانتشار المرض هو العودة إلى مفهوم الأمة وهويتها الحضارية، التي هي الدواء لمواجهة الصهيونية والتوحش الغربي والطائفية المتصلبة في مجتمعاتنا اليوم، ومكافحتها.

فلن تعود فلسطين وكل الدول التي سقطت – مثل العراق وسوريا – إلّا عندما نعود إلى رشدنا، ونتوقف عن الاستيراد الثقافي، ونعيد إنتاجنا الحضاري عبر إحياء الأمّة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان