تصرّ إسرائيل على تسويق حرب الإبادة في غزة على أنها حرب وجودية، يتوقف مصير الدولة والشعب اليهودي على خواتيمها. وتأسيسًا على ذلك، أطلقت يدها في القطاع قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا وتجويعًا للفلسطينيين؛ بحجة الدفاع عن النفس وملاحقة قادة حماس واستعادة الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى فصائل المقاومة؛ وشجّعتها على ذلك حالةٌ من التماهي المطلق في الغرب مع هذه السردية، وتبنٍّ أعمى لما أعقب ذلك من مواقف وتصريحات وأكاذيب، تلقفتها وسائل الإعلام وقدّمتها في كثير من الحالات للمتلقي غير الحذِق على أنها الحقيقة بعينها، ولا شيء غير الحقيقة.
وغداة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، سعت إسرائيل وذيولها إلى ترويج هذه السردية اللازمة، لإضفاء الشرعية على حملتها العسكرية المسعورة ضد الفلسطينيين، حتى وإن عنى ذلك نكرانَ الحقائق وتزويرَ التاريخ، والإمعان في تضليل الرأي العام.
لا غرابة، والحالُ هذه، أن تسمعَ أصواتًا متنفذة في بعض الدوائر الأكاديمية ومجموعات التفكير الغربية، بعضها وليس كلها، تروّج لهذا الخطاب في استوديوهات القنوات الإخبارية والمحطات الإذاعية، وفي أعمدة الصحف الكبرى، وتبحث له عن مستقرّ في الوعي الجمعي للغرب، وتدفع إلى تجذيره في المعجم السياسي للنخب ودوائر صنع القرار.
على أن مرتكزات هذا الخطاب تقوم على حُزمة من العناوين الأساسية، أجملها في ثلاث نقاط تساعد في فهم هذا الخطاب وتفكيك بنيته.
يحذر بن سوسان من سردية استئصالية، تقودها إيران وأذرعها في الشرق الأوسط، تردّد صداها في الشارع العربي، تنزع نحو تأصيل مقولة اقتلاع إسرائيل ومحوها من المنطقة، ويزيد على ذلك بالقول إنه لا ضمانات بشأن استمرارية وجود إسرائيل في الشرق الأوسط في القرن المقبل
فزّاعة الخطر الوجودي
راهنت توابع إسرائيل في الغرب، وفي فرنسا تحديدًا، على منطق التهويل والتخويف من عملية "طوفان الأقصى" ومقاصدها، واستثمرت – على نحو فج ومبالغ فيه – حالة الصدمة التي تلتها لتسويق نظرية الخطر الوجودي الذي أصبح يتهدد إسرائيل.
نبشت الإنتلجنسيا الغربية عميقًا في صفحات التاريخ ضمن حفريات معرفية لنفض الغبار عن مفهوم "POGROM"، وهو مصطلح انتقل من اللغة الروسية إلى اللغة الإنجليزية؛ لوصف الاعتداءات على اليهود في الإمبراطورية الروسية (في بولندا وأوكرانيا تحديدًا)، بين عامَي 1881 و1921. وغير خافٍ أن هذا التشبيه يستذكر بشكل أو بآخر فظاعات المحرقة النازية، التي لطالما اتخذتها إسرائيل أداة للابتزاز السياسي والمالي لأوروبا تحديدًا.
ويرى المؤرخ الفرنسي جورج بن سوسان، صاحب نظرية الجذور الأنثربولوجية للحركة القومية اليهودية، أن ارتدادات الحرب الدائرة رحاها في المنطقة، وقد طفقَ نطاقها يتسع تدريجيًا على نحو باعث للقلق، لا تمثل سوى خطر وجودي جزئي بالنسبة للعرب، بينما هي شر مطلق بالنسبة لليهود. وارتكازًا على ذلك، لا يمكن الحديث – من وجهة نظره – عن نسب متكافئة من حيثُ درجاتُ الخطر الوجودي.
والرأي عنده – وهو القائل إنّ إسرائيل ليست مشروعًا استعماريًا، بل حركة قومية أصيلة نشأت في فلسطين – أن زوال الدولة العبرية كوطن قومي من الوجود يعني خَسارة كاملة لليهود لا تحتمل، بينما يرى أن خسارة العرب إن ضاعت منهم فلسطين ستكون نسبية ومحدودة الأثر!!
وفي هذا الباب يحذر بن سوسان من سردية استئصالية، تقودها إيران وأذرعها في الشرق الأوسط، تردّد صداها في الشارع العربي، تنزع نحو تأصيل مقولة اقتلاع إسرائيل ومحوها من المنطقة، ويزيد على ذلك بالقول إنه لا ضمانات بشأن استمرارية وجود إسرائيل في الشرق الأوسط في القرن المقبل.
هذه السردية لا تَدَع من منظوره مجالًا لأي أفق للحل السياسي للنزاع، وتلغي عمليًا أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، بل إنه لا يجد غضاضة في تسويق نظرية "الترانسفير"، أو التهجير القسري للفلسطينيين، بإعادة طرح فكرة توطين الفلسطينيين في الأردن، كواحد من الحلول لتصفية القضية الفلسطينية.
يرى فينكلكروت أن الشارع العربي ينضح حقدًا على إسرائيل ومعاداة للسامية، على أن توصيف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية ليس سوى مسوغ للتعبير عن كراهية دفينة لليهود بضمير مرتاح، ومن دون أي إحساس بعقدة الذنب
نكران الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين
على أن أشد ما يلفت الانتباه في مثل هذا الخطاب المضلل هو السعي إلى إيجاد مسوغات تبرر سياسات الاستيطان وتغوّل المستوطنين، والفظاعات والجرائم التي ترتكبها إسرائيل منذ أحد عشر شهرًا بحق الفلسطينيين في غزة.
وفي هذا المنحى يرى الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت أن الحرب الإسرائيلية على غزة تندرج ضمن يافطة الدفاع المشروع عن النفس، ولا ترقى بأي حال من الأحوال إلى الإبادة الجماعية أو الحرب العمياء. وحجتُه أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي، ذا العقيدة العسكرية النقية، تقيّده ضوابط أخلاقية تميزه عن سواه من الجيوش، وتمنعه من إراقة الدماء.
ويرى فينكلكروت أن الشارع العربي ينضح حقدًا على إسرائيل ومعاداة للسامية، على أن توصيف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية ليس سوى مسوغ للتعبير عن كراهية دفينة لليهود بضمير مرتاح، ومن دون أي إحساس بعقدة الذنب.
ولا يجد الفيلسوف الفرنسي حرجًا في الإقرار علنًا بأنَّ رد فعله على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول – وقد حمل بداخله هموم إسرائيل – كان من موقعه كيهودي أوّلًا.
إنّ الأمر لا يتعلق بصراع على الأرض، بل بصدام حضارات وبحرب أيديولوجية توجد إسرائيل في خط الدفاع الأول عنها
- برنار هنري ليفي
صراع الحضارات
تستعير الإنتلجنسيا الغربية من صمويل هنتنغتون مقولته الشهيرة عن صراع الحضارات، لتشبيه النزاع العربي الإسرائيلي. وهو بهذا المعنى "معركة سياسية بالغة العنف بين الديمقراطية والفاشية"، من منظور المفكر والفيلسوف برنار هنري ليفي، وهو واحد من أشد الأصوات تحمسًا للصهيونية ودفاعًا عن إسرائيل، بل يؤكد وجود حالة تماثل بين معاداة السامية ومعاداة الولايات المتحدة ومنظومتها القيميّة.
ويقتفي برنار هنري ليفي، الذي يقدّم نفسه على أنه مخلّص ليبيا من طغيان العقيد معمر القذافي، أثر الخط الناظم ذاته بقوله: إنّ الأمر لا يتعلق بصراع على الأرض، بل بصدام حضارات وبحرب أيديولوجية توجد إسرائيل في خط الدفاع الأول عنها.
لا يشذّ السياسي اليميني المتطرف إريك زمور عن هذا المتن الفكري، وفيما يشبه استنساخًا لمواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول العدوان الإسرائيلي على غزة، يصور إيريك زمور النزاع العربي الإسرائيلي بأنه صراع بين التنويريين والظلاميين، بل إنه – وهو أحد تلامذة هنتنغتون النجباء – يرى في الحضارة الإسلامية مصدر تهديد للغرب وللحضارة اليهودية – المسيحية، ويؤكد أن الإسلام لم يتخلص بعد من عقلية القرن السابع، ولا يزال حبيس تأويلات فقهية عفا عليها الزمن.
قواسم مشتركة كثيرة يتضمنها خطاب هؤلاء المفكرين بالغي التأثير في الدوائر الثقافية والسياسية والأكاديمية الفرنسية وصنّاع القرار؛ فجميعهم متفقون على ضرورة عدم وقف الحرب، وتصفية حركة حماس من أجل تحقيق السلام، وتسفيه قرارات محكمة العدل الدولية.. على أن خطابهم يقوم على لازمة "leit motiv"، الحق المشروع في الدفاع عن النفس، لتبرير المذابح الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ونكران حقهم في إقامة دولتهم المستقلة، إذ لا قابلية لقيام دولة تهدد جارتها بالزوال!!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.