إنه – وعلى مرّ الكيانات السياسية العظيمة المتعاقبة، وفيض الخطابات الاستعمارية متعددة الصيغ، موحدة المقاصد – كانت الولايات المتحدة الأميركية صاحبة تيار شاذ في التركيب والصيغة عن التيارات الاستعمارية الأخرى، حيث إن لأميركا تركيبًا اجتماعيًا ثقافيًا وحتى سياسيًا راسيًا، في غير ميناء العوالم الأخرى والحضارات على هذا الكوكب.
مقال بايدن يحمل عنوانه مفادًا أوليًا بأن على الولايات المتحدة أن تنظر في طريقة حكم العالم للمستقبل، وكأن سؤال شرعية حكمها مُجابٌ عنه ومختومٌ على إجابته من العالم أجمع
لقد حظيت الولايات المتحدة الأميركية، بعد انطوائية دامت أكثر من مئة وخمسين سنة تقريبًا، منذ تأسيس نواتها (سياسيًا) عام 1783، بحضورٍ نخبوي في المشهد الدولي، وتدخلٍ طاغٍ في سياسات العالم، وفي شؤونه الاقتصادية ولاحقًا الاجتماعية، وتدخلٍ في تركيبة المصطلحات والأفكار العلمية والإنسانية، والسيكولوجية الفردية والسيكولوجية المجتمعية، والأيديولوجيا الحضارية بمختلف مساراتها.. تدخل هائل لم تحظَ به أي من الإمبراطوريات الاستعمارية الغابرة، وذلك في المقام الأول بفضل ثلاثة عوامل أساسية:
- أولًا: الجغرافيا الأميركية البعيدة عن قارات العالم القديم، ما أبعدها عن قوى عاتية متمركزة في أوروبا "الأب الروحي لأميركا"، وفي أجزاء واسعة من الشرق، وعن الملكية البلشفية في روسيا، ومن بعدها كيان الاتحاد السوفياتي.
- ثانيًا: تداعيات الحرب العالمية الأولى، ورحيل الإمبراطورية العثمانية، وضعف الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية.
- ثالثًا: أحداث الحرب العالمية الثانية المتتابعة، وكيف انتصرت أميركا في الحرب عن بُعد (إلى حدٍ ما)، ذلك إذا ما قورن الدور الأميركي العسكري من الناحية الفنية والهيكلية في الحرب مع غيره، وهذا طبعًا مع استثناء ما أحدثته في هيروشيما وناغازاكي، ومع تحمل حلفائها القسم الأعظم من الخسائر، وقد مدت يدها أخيرًا للإصلاح بين الحليف والعدو مع كل المكاسب المجدية من المصالحة لها، وكذلك ما خلفه استسلام اليابان على اليابانيين أنفسهم إلى يوم الناس هذا.
التاريخ دولاب مستدير، يعيد للحاضر ما اكتنفه الماضي بين طياته، فلا وجود لما يسمى تراجيديًا "بمزبلة التاريخ"، كله عائد وكله متجدد!
في الثالث والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني 2020، نشرت مجلة "فورين أفّيرز" الأميركية مقالًا للرئيس الأميركي الحالي جو بايدن بعنوان "Why America must lead again"، وقامت الجزيرة نت بنشره في ميدان الجزيرة مترجمًا بعنوان "لماذا على أميركا أن تقود العالم؟".
مقال بايدن يحمل عنوانه مفادًا أوليًا بأن على الولايات المتحدة أن تنظر في طريقة حكم العالم للمستقبل (مركّزًا طبعًا على فترته الرئاسية المستقبلية إن فاز في الانتخابات، ففي وقت نشر المقال لم يكن قد أصبح رئيسًا بعد)، وكأن سؤال شرعية حكمها مُجابٌ عنه ومختومٌ على إجابته من العالم أجمع. وطبعًا، المقصود من العنوان جانبان من القيادة والحكم، تطرق إليهما المقال: حكم أميركا لنفسها وآلية إدارة قضاياها الداخلية والحدودية، ومن جهة أخرى، السيطرة الأميركية على العالم الحديث، والحرص على تقويض سيطرة الأقطاب المتنفذة الأخرى في العالم كروسيا والصين، وإسكات أطراف متعالية عليها كإيران وكوريا الشمالية، مثلًا كما جاء في المقال.
ولكن، من أين يملك الخطاب الغربي الذي تقف وراءه أميركا، والخطاب الأميركي نفسه (كما في هذه الحالة)، على مستوى الإعلام والصحف والسياسة وغيرها، هذه العُنجهية والجرأة المفرطة في فرض نفسها بطريقة دكتاتورية على العالم الحديث؟ لماذا لا نتكلم – ولو لمرة – عن شرعيات الحكم الأميركية الباطلة و"اللاأخلاقية إنسانيًا" وسيطرة أميركا ونفوذها على شعوب العالم؟ ومن هنا أتطرق للإجابة عن السؤال الآتي: "لماذا يجب على أميركا ألا تحكم العالم؟!".. ولتبيان ما أسميها "شرعيات الحكم الأميركية الباطلة، الميثولوجية (الأسطورية) في المنحى والإطار والنموذج".
وفي هذا المقال أناقش إطارين ومنحيَين اثنين (ومن داخل هيكل النموذج نفسه)، الأول تاريخي، والثاني اجتماعي، ووجب التوضيح أن مقالي هذا ليس بحثًا أكاديميًا، وإنما هو إشارات لهذه القضية وحيثياتها، والهدف منه مخاطبة الشارع العام، وليس الأوساط الأكاديمية بالتحديد.
الشرعية التاريخية: شرعية ملطخة بالدماء
إن التاريخ دولاب مستدير، يعيد للحاضر ما اكتنفه الماضي بين طياته، فلا وجود لما يسمى تراجيديًا "بمزبلة التاريخ"، كله عائد وكله متجدد!. الولايات المتحدة الأميركية تاريخيًا، أعطت لنفسها حقًا استعماريًا "لا أخلاقيًا" منذ لحظة التكوين الأولى، فهي عبارة عن غزو استعماري واستعبادي، قام به الرحالة الأوروبيون مع كريستوفر كولومبس ضد سكان الأرض الأصليين من الهنود الحمر، بقبائلهم وأعراقهم المختلفة المنتشرة في القارتين: الشمالية والجنوبية.
والتاريخ لا يزال إلى اليوم شاهدًا (روحيًا) على حجم الألم والمعاناة التي حملها السكان الأصليون على أعناقهم بعدما ذهب أغلب مساحة أرضهم حكرًا للمستعمر الأوروبي الأبيض، مع تمييز عنصري وذبح ومسالخ بشرية، كما تقول روايات تاريخية (وتنفي أخرى أميركية)، إلا أن المحصلة لكل هذا كانت هي الحجر الأساس لقيام الكيان الحديث الذي نعرفه اليوم، فهل يعقل أن صاحبة أصل تاريخي كهذا، سوف تأخذ العالم باتجاه مستقبل أفضل.
ما زال الأميركيون يتمسكون بشكل لا شعوري، بهويتهم (كعالم جديد). ولادتنا في عالم جديد من الأمل، فرضت علينا مهمة تطوير مجتمع يتولى في النهاية النهوض بالبشرية كلها. أميركا في فكرنا القومي هي، بشكل حتمي، مصدر التقدم البشري كله
- مايكل فلاهوس
شرعية اجتماعية مضطربة: تركيبة المجتمع الأميركي
إن مصطلح (المجتمع)، بنى له مالك بن نبي في كتابه "ميلاد مجتمع" إطارًا عامًا يرسم حدودًا واضحة، رغم توسع مدلول اللفظ في اللغة، ويفيدنا هنا في رسم سياق الحديث (داخل إطار استقرائي تاريخي مجرد عن السياقات النفسية واللغوية، وهو المطلوب هنا)، إذ يقول: "إن الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع. وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية، هو ما نطلق عليه اسم الحضارة".
في ضوء الإطار العام الذي رسمه بن نبي، نقرأ المجتمع الأميركي في كونه نشأ بحدثين أساسيين من أحداث التاريخ، الأول قصة كولومبوس المذكورة مع السكان الأصليين، والثاني هو الصراع الذي دار بين بريطانيا العظمى وبين المستعمرات الثلاث عشرة الانفصالية التي كانت متحالفة مع فرنسا، والذي أدَّى إلى ما يسميه الأميركيون اليوم حرب الاستقلال الأميركية، ونتج عنها معاهدة باريس، التي قادت لتشكيل النواة الأولى للكيان الجديد كدولة حرة وذات سيادة مستقلة.
ومع هذا يأتي التأكيد على أن نشأة النسيج المجتمعي للولايات المتحدة، يدخل فيه بعد ديني مسيحي مهم جدًا – بل وأساسي – في رسم هذا النسيج بصورته البدائية الأولية، ولكنني أهملت هذا البعد الديني هنا، لتجنب الإطالة والخروج عن سياق المقال والمضمون. وبالعودة إلى إطار بن نبي، فهنا صنع التاريخ المجتمع الأميركي كتركيب أرسى مبدأ الطبيعة في المحافظة على البقاء، ولكن هل صنع الحضارة (بمفهوم بن نبي التقدمي المجرد لها)؟
لقد ظهرت الاستجابة الأميركية للمطلب الغريزي (الداخلي) الحضاري، بفكرتين أصيلتين لقيم الانفكاك عن الماضي الاستعماري بالضرورة (فحقيقة التاريخ تشير دومًا إلى مصير أسود يلحق بالمستعمرين، مستفيدين مما حصل مع الأوروبيين على وجه الخصوص). والفكرتان هما:
- الأولى؛ هي فكرة رسم ما يسمى بـ"الحلم الأميركي"، وتم ذلك في البداية بمنهجية نفسية (غير مباشرة) بأنامل جون ديوي (فيلسوف وعالم نفس أميركي، ومن أبرز مؤسسي الفلسفة البراغماتية ومذهب الأداتية)، سيرًا على خطى بافلوف (الاتحاد السوفياتي)، وفرويد (في عمق وقلب الدعاية النازية)، هذا إلى جانب تكوين هيكل نفسي لإرساء الفكرة. أما اجتماعيًا (تطبيقيًا)، فالحلم يتمثل في الصورة المرجوة من "الهوية الأميركية" أو "أُطُر هوية الفرد الأميركي كقاعدة للهوية الوطنية الأميركية القومية"، ولا أجد في هذا الجانب أوضح ولا أدق من كلام مايكل فلاهوس (أستاذ أكاديمي في جامعة جون هوبكنز) وهو يشرح مفهوم "الرسالة الوطنية السامية" كعنصر أساسي فيما يسميها "الأسطورة الأميركية".
يقول: "ما زال الأميركيون يتمسكون بشكل لا شعوري، بهويتهم (كعالم جديد). ولادتنا في عالم جديد من الأمل، فرضت علينا مهمة تطوير مجتمع يتولى في النهاية النهوض بالبشرية كلها. أميركا في فكرنا القومي هي، بشكل حتمي، مصدر التقدم البشري كلّه.. ولا يمكن التخلّي عن أسطورة أن أميركا هي محرك التقدم البشري كله، فالتخلي عنها يعرّض الهوية الأميركية ذاتها للخطر".. وكفى بكلامه دليلًا على ارتباط الهُوية الأميركية بصورة أسطورية (متنافخة)، وغير مدروسة المعايير، وبعيدة عن تكوين هُوية متماسكة شرعية.
والسبب في ظهور الحاجة لهذه الفكرة (الحلم الأميركي)، هو خوف الأميركيين المتجدد من المستقبل. يشير جيفري إيزيناخ (اقتصادي أميركي وباحث زائر في معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة AEI) في مقال له بعنوان "الحضارة الأميركية وفكرة التقدم" إلى دراسة لاستطلاع الرأي العام جرت عام 1990. تقول الدراسة: "إن الأميركيين مستاؤون من الحاضر ويخشون المستقبل".
لاحظت الولايات المتحدة أن عليها إيجاد عدو لها، يرافقها في نزاعها الوجودي المحتوم، لتعريف الوجود الأميركي (المعنوي) من الصورة المناقضة للعدو الشرير المتغطرس، مستكملة بذلك الصورة البطولية التي تحدث عنها فلاهوس
وكذلك معالجة قضية مستقبل الحضارة (قراءة منا للقضية على إطار بن نبي السابق، وهو ما قد يكون خطأً مني أقر به على المستوى الأكاديمي، ولكن هذه – وكما ذكرت – مجرد مناقشة للفهم وتقريب الصورة للقارئ الكريم لا أكثر ـ ولست أستخدم نص بن نبي المذكور كحجة أكاديمية لبناء هيكل نظري رصين). ووجبت الإشارة إلى أنني هنا أقرأ صورة الحلم الأميركي في إطار رسم الحلم وإرسائه فكرًا مجردًا، ولست في هذا المقال أناقش حجمه أو مضامينه أو قضاياه.
- الثانية: هي ما أسميها بفكرة النقيض، وهي الحل السياسي، والصورة السياسية لاستكمال مبادئ فكرة الحلم الأميركي لإرساء سيطرة أميركية على العالم.. لقد لاحظت الولايات المتحدة أن عليها إيجاد عدو لها، يرافقها في نزاعها الوجودي المحتوم، لتعريف الوجود الأميركي (المعنوي) من الصورة المناقضة للعدو الشرير المتغطرس، مستكملة بذلك الصورة البطولية التي تحدث عنها فلاهوس كما ذكرنا.
ونرى فكرة النقيض على أرض الواقع تاريخيًا في وقائع مختلفة مرتبطة بالولايات المتحدة ابتداءً بمعاهدة باريس المذكورة، وكاحتلال أميركا لليابان، وحربها على كل من فيتنام وأفغانستان والعراق، ولا ننسى طبعًا الصراع السوفياتي الأميركي الذي تمثل بمآلات الحرب الباردة، ولعل أبرز حدث تُظْهِرُ فيه الولايات المتحدة أنيابها (هويتها!) كان حربها على ما أسمته بالإرهاب! بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. وما فعلته أميركا في العالم العربي وأفغانستان خصوصًا، والعالم الإسلامي عمومًا، يشرح نفسه ولا يحتاج للشرح!
والسبب في ظهور الحاجة لهذه الفكرة (النقيض)، هو غياب شرعية تاريخية حقيقية (غياب الأصالة المجتمعية) للنسيج الاجتماعي الأميركي، والهرب من الماضي الدموي الاستعماري، عبر توحيد الصف الأميركي الداخلي تجاه قضية معينة (متغيرة بطبيعة الحال)، كما تمت الإشارة لذلك سابقًا.
إن العالم ليقف أمام دعوةٍ إلى اختيار أحد طريقين، لا ثالث لهما ولا رابع، طريق حقٍ وطريق باطلٍ، ولكلٍ عوائده ومقاصده وسبله
إنه ومع لعبة القوى الناعمة (حديثًا)، تحل السيطرة غير المباشرة من حكومات الغرب (أميركا تحديدًا) على شعوب العالم، بوسائل إعلامية وسياسية واقتصادية، بدلًا من سيادة الحق الظاهر والقيم الإنسانية الواضحة السامية بشكل مباشر على المرجعية والمنهج ومنطق التفكير والنظر، وحق الشعوب في حياة آمنة كريمة.. هذا التناقض بين أملٍ مرجوٍّ وواقعٍ مرٍّ، يوضح الفرق أيضًا بين المبدأ الإنساني الذي يُكَرّم الإنسان ويسمو به، وبين المبدأ المؤنسن الذي يخفي في داخله العلقم المرّ، وتأثير كليهما المتفاوت في الجودة – وإن لم يكن في النفوذ- في عصرنا اليوم.
إن العالم ليقف أمام دعوةٍ إلى اختيار أحد طريقين، لا ثالث لهما ولا رابع، طريق حقٍ وطريق باطلٍ، ولكلٍ عوائده ومقاصده وسبله.. حرب بين قطبين في هذا العالم الغامض الواضح، المتماسك المتفكك، الحقيقي الميثولوجي، جعلت كل إنسان سار في ركب الغالب سواء أكان ابن جِلْدَتِه أم لم يكن، وخضع لسلطة الثقافة الغالبة، وكان (مُنَوَّمًَا)، يُعيد النظر في صاحب الغلَبة.. من يكون الغالب؟ ومن يجب أن يكون؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.