مع وتيرة عصر السرعة، وانفتاح باب التقنية والتكنولوجيا على مصراعَيه، بات من الضروري استثمار ذلك في خدمة الإنسانية، والدفع بها للتحرر من ربقة العبودية التي تتغير وفق أدوات ووسائل موجهة.. فالسلوك البشري هو محط الأنظار، ومقياس الرفض والقبول على مستويات متعددة، وَفق السياقات والمؤثرات التي تجعله مؤيدًا أو ممتنعًا، لذلك تتداخل العلوم النفسية والاقتصادية والاجتماعية، مُشكِّلة مناهج ومجالات تتقصى حياة البشر، وتفنّدها بطريقة دقيقة.
تلك المناهج والأدوات وُضعت في محكّ مع الإنسان، لقياس كيفية اتخاذ قراراته على النطاق الفردي أو في تجاه التوافق الجماعي، أو وفق الجندرية التي ربما اختلطت على كثير من الناس، فتساوت في كل شيء بناءً على المحفزات التي أعادت السلوك الإنساني إلى واجهة البحث والتقصي بما يعرف اليوم بـالرؤى السلوكية (Behavioral Insights).
أتاحت البرامج التقنية مسألة مراقبة سلوك الأفراد بشكل دقيق لارتباط حياتهم بها، لذلك عملت الكثير من الدول على تطبيق منهجية تحليل الرؤى السلوكية من خلال تلك البرامج المتخصصة في جمع بيانات وتفضيلات المستخدمين
منهجية الرؤى السلوكية بكل أبعادها، وبحسب كثير من المختصين، أصبحت النموذج العلمي الذي يوجه ويتحكم في مفردات المعيشة اليومية، لذلك فقد بنت شركات التقنية تطبيقات متخصصة، وذات تركيز عالٍ في تحليل السلوك الإنساني، والتأثير فيه؛ بهدف تعزيز الجوانب الترفيهية التي تبعده عن ازدواجية المعايير والمواقف واختلاط المصالح، مع تأثير آخر بغرض متقاطع يوجه الجمهور إلى اكتساب أهداف محددة، ربما تكون لمصلحته أو العكس بناءً على النوايا التي يراد منها.
لقد أتاحت البرامج التقنية مسألة مراقبة سلوك الأفراد بشكل دقيق لارتباط حياتهم بها، لذلك عملت الكثير من الدول على تطبيق منهجية تحليل الرؤى السلوكية من خلال تلك البرامج المتخصصة في جمع بيانات وتفضيلات المستخدمين، والتعرف بتعمق على أنماط حياتهم التي تظهر من بين هوامش التجربة ومتون الواقع، لذلك تكون القرارات محكمة، وتخدم المصالح التي وضعت من أجلها، بانسياق الأفراد معها دون إدراكهم أنهم يتعرضون إلى توجيه وتحكّم في شؤون حياتهم.
ماذا يريد الجمهور؟ وماذا يفضل؟ وما هي طرق مخاطبته وخطب ودّه؟ وما هو مستوى الرضا المتحقق؟ وهل كل تطلعاته تلبَّى كما يتوقع؟ علامات استفهام كثيرة تثيرها مفردات الحياة خاصة في نطاق التواصل والتفاعل.
لذلك يعتبر كثيرون الاعتماد على تحليل دوافع الرؤى السلوكية إثراء للمشاركة المجتمعية في تصميم السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على سلوك الجمهور، لذا فهي تهدف إلى تحقيق أبعاد إنسانية مشروعة، وتكون مدخلات لبناء قرارات حاسمة قصيرة المدى أو طويلة المدى، ضمن متطلبات راهنة أو قراءة مستقبليَّة.
فيما يرى آخرون أن تلك المنهجيات والأدوات ما هي إلا رقيب يتحكم في مصير المجتمعات، ويدفع بها لاعتناق أفكار محددة من خلال حصر التفكير وتأطيره بقضايا هامشية، تضمن استمرارية الأنظمة، وتحقق كبريات الشركات أرباحًا خيالية منها.
وهذه النظرة تتقاطع مع ما كان يعتقد بأن: "الأفراد يتصرفون بناءً على العقلانية التامة"، بحسب الافتراض السائد في عالم الاقتصاد (سابقًا)، وهذه العقلانية تجلعهم يحسبون جميع الخيارات لانتقاء الأفضل، لذلك فقد أدرك علماء الاقتصاد أن ذلك بعيد عن الواقع، لأن الأفراد يقعون تحت طائل التأثير من خلال عوامل ليس لها علاقة بالمنطق، مثل: السياقات المكانية والزمانية والتحيزات الفكرية والعواطف.. فبالتالي، تكون غالبية قراراتهم غير عقلانية بشكل قطعي.
التنبيه أو الوكز السلوكي هو تدخل يفضي إلى إعادة برمجة توجيه الجمهور، ويتصف بالمرونة في تغيير الكيفية التي يفكر بها الأفراد، مع المحافظة على هامش الحرية المعقول
وفي إطار مفهوم "العقلانية المحدودة" (Bounded Rationality)، أشار ألكسندر هربرت سيمون (Herbert Simon)، الحائز جائزةَ نوبل في الاقتصاد عام 1978، إلى أن البشر يتخذون قرارات بناءً على قدرة محدودة على معالجة المعلومات، ويعتمدون على إستراتيجيات تقريبية لتبسيط العمليات المعقدة، باعتباره معارضًا لأفكار النظريات الكلاسيكية، لذلك فهو يؤمن بأن المنظمات لا تتخذ قرارات، بل الأفراد هم المحرك الرئيس لصناعة قرار ما.
وفي سياق تأثير التحيزات فقد بين كلٌّ من دانيال كانيمان (Daniel Kahneman) وعاموس تفيرسكي (Amos Tversky)، أن الأفراد يتخذون قرارات غير عقلانية بسبب تأثير التحيزات الفكرية، خاصة تلك المتعلقة بالمصطلح المفاهيمي، والتي تضع الإطار المعرفي للسلوك أو القرار، وتبرز التحيزات المعرفية في تحيز التأكيد أو ما يعرف بالتحيز الذاتي (Confirmation Bias)، وتحيز الوضع الراهن (Status Quo Bias).
التنبيه أو الوكز السلوكي هو تدخل يفضي إلى إعادة برمجة توجيه الجمهور، ويتصف بالمرونة في تغيير الكيفية التي يفكّر بها الأفراد، مع المحافظة على هامش الحرية المعقول، وهذا ما أكّده ريتشارد ثالر (Richard Thaler)، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2017، والذي يعد أحد رواد الاقتصاد السلوكي في تقديمه مفهوم التنبيه السلوكي (Nudge)، والذي يشير إلى توجيه الأفراد نحو اتخاذ قرارات معينة من دون إجبارهم على ذلك. وهنا تتفق الآراء حول قوة التحيزات السلوكية لتوجيه الأفراد نحو تبني اتجاهات محددة وممارسة سلوكيات تخدم تطلعاتهم.
سلبيًا؛ تستفرد الحكومات والشركات الكبرى بأحكام السيطرة على سلوكيات المستخدمين عبر توجيههم لما يخدم مصالحها، ويتضح ذلك جليًا في إغراقهم باستهلاك المنتجات والخدمات التي لا تصنف ضمن الأولويات أو الأساسيات
إن الحديث عن انحشار الشعوب في أطر معرفية ضيقة؛ تضيق مع اتساع التقنية وبرامج التواصل الاجتماعي؛ لذلك فإن نظرة تؤكد على أهمية الأبعاد الأخلاقية تدفعنا لطرح التساؤل الآتي: كيف يمكن استخدام الرؤى السلوكية من منظور يحترم الإنسانية ويعزز الحقوق الفردية؟
إيجابيًا؛ يمكن توليد الأفكار المعززة لتحليل الرؤى السلوكية في سبيل اتخاذ قرارات مالية وادخارية صحية تتصف بالاستدامة، كما يمكن تبني سلوكيات في فهم الواقع، وتحديث المفاهيم خاصة في الثقافات السائدة المنغلقة، والدفع بها إلى مزيد من التقصي والبحث والتمحيص لانتفاء صفة التواتر الأعمى والتقليد الذي قتل الهوية والخصوصية الوطنية، وتلك مبادئ الإيمان بأهمية التغيير وتجاوز التقادم بالتقدم.
سلبيًا؛ تستفرد الحكومات والشركات الكبرى بأحكام السيطرة على سلوكيات المستخدمين عبر توجيههم لما يخدم مصالحها، ويتضح ذلك جليًا في إغراقهم باستهلاك المنتجات والخدمات التي لا تصنف ضمن الأولويات أو الأساسيات، فينجرف الجمهور في الاهتمام بالكماليات على حساب الأساسيات جراء اتباع غريزة التجريب أو حب الاقتناء والتميز الشكلي، فتصمم الواجهات بطرق جاذبة بالاعتماد على تحليل السلوك الرقمي للمستخدم، وهذا ما يسمى بفنّ التلاعب.
ويؤكد كلٌّ من جورج أكرلوف (George Akerlof) وروبرت شيلر (Robert Shiller)، الحائزين جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، في كتابهما "التلاعب: الاقتصاد السلوكي وكيفية استخدامه للسيطرة على حياتنا" (Phishing for Phools)، انتقادهما وبشدة استغلال سذاجة الجمهور وضحالة تفكيره من أجل تحقيق أرباح مالية، ويتضح ذلك في تصميم البرامج والمنتجات بطريقة تجعلنا أسرى لها، وتأخذ صفة الإدمان، كتطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي.
إن أصعب مرحلة يصل إليها الإنسان هي الانجرار نحو الماديات، وهذا ما نقرؤه في المشهد العام لعالمنا العربي والإسلامي، الذي يعد الحقل الأكثر قبولًا لتأثير الرؤى السلوكية في التفكير المادي لتلبية رغبات واحتياجات فسيولوجية، مع تهميش الجوانب الفكرية والروحية، التي تبني التوجهات الجماعية وتتعامل مع المصير المشترك، لذلك ما زال كثير من الأفراد يرتبطون وفق هرم ماسلو بالماديات، ولمَّا ينتقلوا بعد إلى الاحتياجات العليا كالانتماء والتقدير وتحقيق الذات.
إن حالة الانغماس في الدائرة الضيقة لاستمرار العيش تعود إلى ضبابية فسحة الأمل؛ بسبب ثقافة الخوف وقوة التأثيرات الموجهة التي تمارسها الحكومات لحصر التفكير ضمن إطار ضيق لا يتعدى الشعور بالأمان العام، دون الخوض أو المساس بنطاقات السمع والطاعة، وتكريس الترفيه والإلهاء، والتقليل من البرامج التي تدعم تنمية الحرية الفكرية والتنمية الذاتية.
تعتمد منصات "فيسبوك وإنستغرام وإكس" على خوارزميات متقدمة، تحلل سلوك المستخدمين من أجل إعطائهم محتويات وفق تفضيلاتهم التي قاموا بها بوعي أو بدون إدراك لما يقومون به
ثمة سؤال يدور في الأذهان، ويتماثل مع الواقع الذي ينهش في سلوكيات التعامل الافتراضي: وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الإعلام أداة للتحكّم أم للتحرر؟
فمن خلال قراءة الواقع المثير والمتحول بشكل سريع، يتضح أن وسائل التواصل الاجتماعي هي أبرز وسائل التحكم في العصر الحديث، وهي كبرى المنصات التي حولت الجمهور من الأكثر أهمية إلى الأقل والأدنى أهمية في هرم المعرفة.. بيدَ أن هذه الوسائل لاتعتمد فقط على الرؤى السلوكية، لتقديم محتوى يناسب مستويات التفكير المتدنية لدى الأفراد، بل سعت وبقوة إلى توجيههم في تبني واختيار سلوكيات دخيلة، تؤدي إلى تأليه البشر والاقتداء بالتافهين.
تعتمد منصات فيسبوك وإنستغرام وإكس – أو ما يسمونها باللاعبين الجدد – على خوارزميات متقدمة، تحلل سلوك المستخدمين من أجل إعطائهم محتويات وفق تفضيلاتهم التي قاموا بها بوعي أو بدون إدراك لما يقومون به، مع التجاهل التام والمؤطر في تلك البيانات لتوجيه الأفراد لثقافة الاستهلاك الزائدة، وتشكيل آرائهم نحو دعم قضايا اجتماعية وسياسية محددة، وتشتيت وحدتهم تجاه المصير المشترك، بهدف زعزعة الامتداد القومي بين مختلف الدول، وخاصة ما يحدث في المصير العربي المشترك حول قضية فلسطين، من حيث فبركة هندسة الرأي العام العربي والإسلامي، والتأثير فيه لفكّ الوحدة وإشغاله بتوافه الأمور.
المؤسسات الخدمية بدأت في استخدام منهجية الرؤى السلوكية لفهم الجمهور المستهدف لما تقدمه من إمكانات هائلة نحو تجويد الخدمة وبما يحقق الاستدامة
وإذا ما عدنا إلى الأبعاد الأخلاقية للرؤى السلوكية، فإنّ التوازن الدقيق الذي يفرض نفسه في البعد الإنساني يفترض أن يتحقق بين طرفَي المعادلة التي تستند إلى قيام المجتمعات وتماسّ الراعي مع الرعية، وذلك من خلال التوازن بين الحرية الفردية والمصلحة العامة، فإذا أمكن تبرير استخدام منهجية الرؤى السلوكية لتحقيق أهداف مشروعة، فمن الواجب الحتمي أن يتم ذلك بشفافية تستند إلى احترام حقوق الأفراد في البعد الفطري وبشكل جماعي، مع التأكيد على رسم حدود واضحة وملزمة تمنع استغلال أدوات واتجاهات السلوك لأغراض تجارية أو سياسية، تهدف إلى تقويض حرية التفكير وتكرّس فوضى القطيع.
المؤسّسات الخدمية بدورها بدأت في استخدام منهجية الرؤى السلوكية لفهم الجمهور المستهدف لما تقدمه من إمكانات هائلة نحو تجويد الخدمة وبما يحقق الاستدامة، لذا عليها التنبه عند رسم سياساتها في ظل تعزيز العدالة الاجتماعية من التحولات السسيولوجية التي تقود الأفراد إلى اللاوعي بالأولويات، والدفع بالعقل إلى التبعية بعيدًا عن كرامة الإنسان وحقوقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.