تواصل إسرائيل عدوانها على قطاع غزة منذ ما يزيد عن عشرة أشهر، ولقد طالت ويلات هذه الحرب الوحشية كافة مناحي الحياة، بما في ذلك التعليم العالي. وبصفتي أستاذًا جامعيًّا وباحثًا فلسطينيًّا من غزة، سأتحدث عن بعض من تجاربي الشخصية خلال هذه الحرب.. ورغم هَوْل المعاناة، لن نفقد الأمل!
منذ بداية الهجوم العسكري الإسرائيلي الواسع في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قصفت الطائراتُ والدبابات والسفن الحربية الإسرائيلية قطاع غزة بقسوة شديدة وعشوائية، وتم تدمير عشرات الآلاف من المباني المدنية، بما في ذلك المنازل والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والمستشفيات والمخابز، ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة.
وقد تسبب التدمير الواسع في مقتل وجرح عشرات آلاف المدنيين الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال. ولقد بدا واضحًا أنّ إسرائيل بهجماتها العسكرية الوحشية وحصارها غير الشرعي واللاإنساني تستهدف جميع الفلسطينيين، في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم.
توجد 51 جامعة وكلية مجتمع فلسطينية، بإجمالي طلبة وصل عددهم في عام 2023 إلى حوالي 226.000، من بينها 18 جامعة وكلية في قطاع غزة، وهي تخدم حوالي 87.000 من الطلبة
رغم أنني لا أنتمي إلى أي مجموعة مسلحة أو سياسية، قصفت طائرة حربية إسرائيلية منزلي وسوّته بالأرض في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ومنذ ذلك الحين، أعيش مع أسرتي الكبيرة في بؤس شديد في مركز إيواء تابع للأمم المتحدة.
إلى جانب معاناة التشرد والنزوح القسري، فُجعنا بفقدان والدتي الحبيبة، لقد مرضت ولم تتمكن من الحصول على الرعاية الطبية التي احتاجتها؛ لأن الهجمات الإسرائيلية أخرجت مستشفيات غزة من الخدمة، فتدهورت حالتها وتوفيت في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2023. إن مأساتنا هي شهادة على انتهاك إسرائيل حقوق الإنسان والقوانين الدولية.
أحببتُ التعليم وسعيتُ لإكمال دراستي، وفزتُ بعدد من المنح الدراسية المرموقة، بما في ذلك اثنتان في الولايات المتحدة، حيث حصلت على درجة الماجستير في اللسانيات، ودرجة الدكتوراه في تعليم اللغة الإنجليزية. ومنذ عام 1997، أعمل مدرّسًا في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة الإسلامية بغزة. وفي مجال البحث، نشرت العديد من المقالات في مجلات محلية ودولية، كما قمت بالإشراف والمناقشة للعديد من رسائل الماجستير في اللسانيات التطبيقية. بالإضافة إلى ذلك، شاركت في الكثير من المؤتمرات والندوات وورش العمل.
توجد 51 جامعة وكلية مجتمع فلسطينية، بإجمالي طلبة وصل عددهم في عام 2023 إلى حوالي 226.000، من بينها 18 جامعة وكلية في قطاع غزة، وهي تخدم حوالي 87.000 من الطلبة. ولقد قامت هذه المؤسسات بدور كبير في حماية وتعزيز الثقافة والقيم الفلسطينية، وساهمتْ بشكل ملحوظ في رفع مستوى الوعي الوطني. ومن هذا المنظور، يُعتبر التعليم العالي الفلسطيني وسيلة للبقاء والحريّة.
تتمتع الجامعة الإسلامية في غزة بسمعة أكاديمية ممتازة محليًّا ودوليًّا، ولقد أقامت على مدى أربعة عقود ماضية علاقات أكاديمية مع الكثير من الجامعات والمنظمات في جميع أنحاء العالم، بغرض إجراء أبحاث مشتركة، وتنظيم مؤتمرات، وتسهيل تبادل أعضاء هيئة التدريس والطلبة. ولقد تخرّج في الجامعة عشرات الآلاف، وهم يعملون في مجالات متنوعة، ويشغل كثير منهم مناصب رفيعة في مؤسسات محلية ودولية.
تضم الجامعة الإسلامية في غزة إحدى عشرة كلية، وبلغ عدد الطلبة قبل بدء الحرب الإسرائيلية الحالية ما يقارب 17.000، وشكّلت الطالبات 63% منهم. ولقد وفّرت الجامعة بيئة أكاديمية متميزة، مستخدمة تقنيات مختلفة (مثل مختبرات الحاسوب والتعليم الإلكتروني من خلال برنامج المودل ومؤتمرات الفيديو)، إلى جانب مرافق أخرى عالية الجودة (مثل المكتبات والحدائق والصالات الرياضية والملاعب). ولقد حصل الطلبة ذوو الإعاقة الجسدية والبصرية والسمعية على منح دراسية، وتمت مساعدتهم من قبل مكتب متخصص في الاحتياجات الخاصة.
يُعتبر قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الإسلامية في غزة أكبر أقسام الجامعة.. وفي الفصل الأول 2023، كان يقدّم خدمات لحوالي 1500 طالب وطالبة في ستة برامج مختلفة: بكالوريوس في اللغة الإنجليزية، وبكالوريوس في اللغة الإنجليزية- تخصص فرعي في الترجمة، وبكالوريوس في اللغة الإنجليزية- تخصص فرعي في الإعلام والصحافة، وبكالوريوس تربية في تدريس اللغة الإنجليزية، وماجستير في اللسانيات، وماجستير في الترجمة.
إنني وبسبب الدمار الواسع والمفرط للمباني، والأضرار الشديدة في البنية التحتية، وانقطاع الكهرباء، وصعوبة توفر خدمة الإنترنت، لم أتمكن من تقديم أيّة محاضرة وجاهية أو عن بُعد خلال الـ 10 أشهر الماضية
خلال العدوان الإسرائيلي الحالي، تم استهداف كافة جامعات قطاع غزة، وقتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 6000 طالب وطالبة و100 أستاذ جامعي. وفي ظل هذه الظروف المأساوية، حُرم الطلبة الجامعيون في قطاع غزة من حقهم في التعليم على مدى الأشهر العشرة الماضية.
في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي، شنّت الطائرات العسكرية الإسرائيلية عدة غارات على الجامعة الإسلامية في غزة، ودمّرت العديد من مباني الجامعة. وبعد حوالي شهر، اجتاحت القوات البرية الإسرائيلية، ترافقها دبابات وجرافات غربي مدينة غزة، وتسببت في مزيد من الأضرار الجسيمة في البنية التحتية والعديد من المباني في المنطقة، بما في ذلك وزارة التربية والتعليم وأربع جامعات، ولقد تم حرق بعض مباني جامعتنا وتدمير أخرى. وعندما انسحبت القوات الإسرائيلية من المنطقة بعد أسبوعين، ذهبتُ إلى الجامعة الإسلامية.. لقد أصابني الذهول والحزن، ولم أصدق ما رأيت من دمار هائل!
لديّ شغف كبير بالتدريس وأحافظ على علاقات جيدة مع طلبتي. وعندما يتعذر اللقاء بهم وجاهيًّا – كما كان الحال فترة جائحة كورونا – أقوم بتقديم محاضراتي بالبث الحي عبر الإنترنت. وتحتوي قناتي في موقع يوتيوب على المحاضرات المسجلة لثلاثة مساقات قمت بتدريسها: "علم المعاني والدلالة"، و"النحو الإنجليزي 2″، و"لغويات نفسية واجتماعية".
للأسف، فإنني وبسبب الدمار الواسع والمفرط للمباني، والأضرار الشديدة في البنية التحتية، وانقطاع الكهرباء، وصعوبة توفر خدمة الإنترنت، لم أتمكن من تقديم أيّة محاضرة وجاهية أو حتى عبر الإنترنت خلال الأشهر العشرة الماضية. لقد أصبح الإنترنت من أساسيات التعليم والتواصل، إلَّا أنّ هذه الخدمة غير متاحة حاليًا في معظم مناطق غزة. ولكي أتمكن من فحص البريد الإلكتروني والواتساب الخاص بي، أضطر للمشي أو ركوب الدراجة لمسافة طويلة لشراء تذكِرة خدمة إنترنت، وهي عادةً ما تكون رديئة السرعة.
ومع ذلك، فإنني أقوم بالتواصل مع طلبتي بقدر الإمكان، من خلال المكالمات الهاتفية أو الرسائل النصية (فلديهم رقم هاتفي الخلوي) أو الواتساب، أو عندما نلتقي في الشارع، حيث نتبادل التحيّات، والسؤال عن الصحة، ونتحدث عن جامعتنا وقسم اللغة الإنجليزية، دون أن نتمكن من إخفاء حزننا وغضبنا.. ومع ذلك، أحتفظ بروح التفاؤل وعدم الاستسلام.
قمت قبل أسبوع بالاتصال بإحدى طالبات الماجستير، أُشرف على رسالتها.. شجعتها وحفزتها لإنهاء الرسالة وتحضيرها للمناقشة. أشعر بأننا – وباتخاذ احتياطات معقولة – يمكننا الترتيب لعقد هذا الحدث الأكاديمي في مكان ما في غزة، حتى ولو داخل خيمة في أحد مراكز النزوح
تُعتبر روح التفاؤل وعدم الاستسلام مصدرًا أساسيًّا للصمود، الذي ينبغي علينا – نحن المعلمين الفلسطينيين – تنميته لدعم طلبتنا وتعزيز قدراتهم على التكيّف مع الظروف الصعبة. وعلى الرغم من خطورة الوضع الحالي، لن نفقد الأمل!. ومما يدلُّ على احتفاظنا بالأمل:
- أولًا: إن استخدام صيغة الزمن الحاضر في أجزاء مختلفة من هذه المقالة يعكس موقفًا متفائلًا بأن هذه المرحلة ستكون عابرة. فإسرائيل قبل الحرب الحالية شنّت أربع حروب وحشيّة أخرى على قطاع غزة في الأعوام: 2008- 2009 و2012 و2014 و2021. وفي كل من هذه الحروب، تضررت الجامعات بشكل كبير، ما أعاق قدرتها على العمل بشكل كامل. ومع ذلك، وبفضل الجهود الجماعية، أُعيد بناء وترميم المباني، واستؤنفت العملية التعليمية بنجاح.
- ثانيًا: لحماية التعليم العالي في قطاع غزة، قامت وزارة التربية والتعليم والعديد من المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية بتقديم عرائض ضد تدمير إسرائيل جامعات غزة. وقد وجّهت هذه العرائض نداءات للمنظمات والمؤسسات الأكاديمية الدولية؛ للتدخل بسرعة واتخاذ تدابير فعّالة لضمان حق الطلاب الفلسطينيين في التعليم.
- ثالثًا: ركّز كثير من الصحفيين وناشطي حقوق الإنسان على جرائم إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء في قطاع غزة، بما في ذلك الأضرار الفادحة التي لحقت بالجامعات الفلسطينية. ونتج عن ذلك إدانة دولية واسعة للانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة لحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة. ولقد ساهم ذلك في تعزيز التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني. وباعتباري أحد الباحثين الفلسطينيين في غزة، أجد أن من واجبي الأخلاقي الدفاع عن حقوق شعبي في العيش بشكل مستقل بسلام وكرامة. فبالإضافة للمقالة الحالية، قمت مؤخرًا بنشر عددٍ من المقالات عن معاناة الفلسطينيين في ظل ويلات الحرب والحصار.
- رابعًا: عبّرت العديد من الجامعات الفلسطينية الرائدة في الضفة الغربية عن استعدادها لدعم التعليم العالي في قطاع غزة؛ ففي مارس/آذار الماضي، أطلقت جامعة بيرزيت مبادرة "إعادة بناء الأمل"، والتي تهدف إلى توفير الموارد لدعم البنية التحتية المؤسساتية في غزة، ومساعدة الباحثين والطلاب للوصول إلى المعرفة اللازمة لإكمال مسيرتهم الأكاديمية. وتؤكد المبادرة على الحاجة للتعاون المتبادل بين أعضاء هيئة التدريس من جامعة بيرزيت وجامعات أخرى عبر العالم والجامعة الإسلامية بغزة. وقد تبنّت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية والعديد من الجامعات المحلية والدولية هذه المبادرة. ولحسن الحظ، بدأ بضعة آلاف من الطلبة من جامعات غزة، بما فيها الجامعة الإسلامية بغزة، التعلم عبر الإنترنت.
خلال الأشهر العشرة الماضية، واجه التعليم الجامعي في قطاع غزة ظروفًا صعبة غير مسبوقة. ومع ذلك، نحن نعتقد بأن هذه مرحلة عابرة.. سينتهي ظلم إسرائيل! وستتم إعادة بناء الجامعات! وسينهض التعليم العالي الفلسطيني من جديد!
لقد قمت بتعميم هذه الأخبار التفاؤلية على العديد من الطلبة والمعارف في غزة. كما أبلغت العديد من طلبة اللغة الإنجليزية بتوفر تسجيلات لمحاضرات مساقاتي على موقع يوتيوب. وقبل بضعة أيام، أرسلت إحدى طالباتي الرسالة الآتية عبر الواتساب:
أستاذي العزيز، قررت أن أكمل مساقك "النحو الإنجليزي 2" بمفردي (أنوه بأننا بدأنا المساق في سبتمبر/أيلول 2023، ولم نتمكن من إنهائه بسبب الحرب)، وإنّني أقوم في هذه الأيام بمشاهدة تسجيلات محاضرات المساق على موقع يوتيوب، وأتقدم بشكل جيد. إنّني مهتمة بمزيد من التدريب؛ وأحتاج إلى ملف التمارين الإضافية الذي رفعته مسبقًا على برنامج المودل، والذي لا يمكن الوصول إليه الآن. وللأسف، لقد فقدت حاسوبي المحمول (اللابتوب) والذي يحتوي على جميع ملفاتي في هجوم إسرائيلي على منزل عائلتي. هل بالإمكان التكرم بإرسال الملف لي؟
أبهرني صمود هذه الفتاة!. شكرتها وعبّرت عن تقديري لحماسها وصدق حبها للتعلم. ولحسن الحظ، تمكنت من إرسال الملف، كما دعوتها ألا تتردد في طلب المساعدة مني.
وفي سياق مماثل، قمت قبل أسبوع بالاتصال بإحدى طالبات الماجستير، أُشرف على رسالتها.. شجعتها وحفزتها لإنهاء الرسالة وتحضيرها للمناقشة. أشعر بأننا – وباتخاذ احتياطات معقولة – يمكننا الترتيب لعقد هذا الحدث الأكاديمي في مكان ما في غزة، حتى ولو داخل خيمة في أحد مراكز النزوح.
علاوة على ذلك، دعت الجامعة الإسلامية بغزة طلبة المستوى الرابع، للتقدم للحصول على منحة للالتحاق بجامعة أوروبية لمدة فصل دراسي، من خلال برنامج أراسموس للتبادل الأكاديمي. ولقد طلب مني عدد من طلبتي كتابة رسائل توصية لهم، وفعلت ذلك بكل سرور.
خلال الأشهر العشرة الماضية، واجه التعليم الجامعي في قطاع غزة ظروفًا صعبة غير مسبوقة. ومع ذلك، نحن نعتقد بأن هذه مرحلة عابرة.. سينتهي ظلم إسرائيل! وستتم إعادة بناء الجامعات! وسينهض التعليم العالي الفلسطيني من جديد!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.