كثيرًا ما يتهمّ الإسلام بأنه دين جمود وتحجّر؛ لأنه لا يساير التطور العالمي، ولا يرضى بالتكيف والتأقلم، ويرفض الجديد مستمسكًا بالقديم، ولا يحثّ أتباعه على اللين والمرونة، وهذا الجمود والثبات يتنافى مع حركة الصيرورة الكونية.
هذا هو داء المسلمين، كما شخّصه الحداثيون أو العِلمانيون من عرب وغربيين.. أما الدواء، فهو أنّ المسلمين إن راموا التقدم والحضارة والتكنولوجيا، فما عليهم إلا أن يطرحوا الإسلام جملة، أو أن يستبقوا عليه لكن مع ضرورة التطوير والتغيير.
إنّ القديم هو الواقع، الثابت الذي يقوم به الماضي والحاضر معًا، والجديد لا يعدو أن يكون أمرًا يتوهمونه أمرًا، وهو بعد لم يقع، فليس الممكن أولى به من المستحيل، ولا المستحيل أحق به من الممكن
- الرافعي
هنا ثلاث قضايا هامة:
- أولًا: إن مصطلح التغير والصيرورة مصطلح فلسفي، يعني أن الأشياء تنتقل باستمرار من حال إلى آخر، ولا تستقرّ على وضع ثابت، فكل شيء تراه، أو لا تراه، من أخلاقه التبدل والتغير (تراب، ماء، خلايا، حجر، نباتات، أشجار…إلخ). ومبدأ الصيرورة هذا صحيح لا غبار عليه، غير أن مجال الصيرورة المستمرة مقصور على ظاهرات المادة وحدها (مثل اللون، الصلابة، الحرارة، الطول، العرض..)، ولا شأن له بماهيتها وجوهرها؛ فجوهر المادة شيء ثابت، لا يطوله تطور، ولا يدنو منه تغيير.
ولذا، فإن مبدأ الصيرورة ليس المبدأ الوحيد الذي يسبح في كوننا، فإن في مقابله مبدأ آخرَ، ألا وهو مبدأ الثبات والرسوخ، فالنظام الكلي في مجموعه ثابت مستقر. خذ على سبيل المثال حركة الأفلاك، ودوران الأرض، وتعاقب الليل والنهار، والقوانين الفيزيائية، وحاجة الإنسان إلى الطعام والشراب، وتحريم الظلم، وإقامة العدل.. كل هذه الأمور – وغيرها كثير – هي على حالها لم تزل، لم يمسّها التغيير والتطور بسوء.
- ثانيًا: ليس كل قديم منبوذًا مطرحًا، وليس كل جديد مقبولًا مرحبًا به..
إن المقياس في القبول والرد ينبغي أن يكون شيئًا بعيدًا كل البعد عن محض القدم أو الجِدة. إن الصلاح والفساد، والنفع والضر، والفضيلة والرذيلة، هي المعايير التي يحمل عليها القديم والجديد؛ فإذا كان القديم الذي امتدّ به العمر لا يزال حيًا، صالحًا نافعًا فاضلًا، فلمَ التقزز والاشمئزاز عند ذكره؟ ولمَ الدعوة إلى نبذه، واستبدال الجديد به؟ ومن ذا الذي يضمن أن الجديد هو الأصلح والأنفع، وأنه خطوة إلى الأمام، وأنه ارتقاء وصعود، وليس ارتكاسًا وانتكاسًا، أو نقضًا وهدمًا؟
يقول الرافعي، رحمه الله، في كتابه "تحت راية القرآن": "إن القديم هو الواقع، الثابت الذي يقوم به الماضي والحاضر معًا، والجديد لا يعدو أن يكون أمرًا يتوهمونه أمرًا، وهو بعد لم يقع، فليس الممكن أولى به من المستحيل، ولا المستحيل أحق به من الممكن". إن التطور لا يعني التخلي عن الثوابت، ونبذ كل ما مضى، وإنما هو البناء على خيرية الماضي للاستفادة منه في علاج القضايا المستجدة.
الحداثيون أو العلمانيون الذين يدعون إلى إعادة التفسير، والنظر في الشريعة الإسلامية من حيث الفقه وأصوله، ينتمون إلى مدرسة واحدة، أهم سماتها الجهل بالشريعة، وبمصادرها وأصولها وأحكامها، وأكثر رواد هذه المدرسة لا يعرفون كيف يقرؤون القرآن قراءة صحيحة
- ثالثًا: إن في الإسلام جانبًا، من شأنه أن يبعث على التطور والتقدم، ويهدي إلى سبل الوصول إليهما.. كيف؟
مما لا يختلف عليه اثنان أن من الأحكام الشرعية ما أبرمت دلائله بنصوص واضحة قاطعة، ليس فيها – بل لا يقبل فيها – أدنى خلاف أو اجتهاد، مثل تأبيد تحريم الربا والغش والاحتكار، والزنا والفواحش، ووجوب الحجاب وبر الوالدين وصلة الرحم، وإباحة الزواج والبيع، وغيرها كثير مما هو باقٍ على حاله، لا يتبدل ولا يتغير.
ومن الأحكام ما هو خاضع للرأي والاجتهاد، المنضبط بقيوده وشروطه. وبعبارة أخرى: هناك أحكام لا تتبدل ولا تتغير؛ لأن من صالح البشرية أن تبقى كذلك، ولو لم يدرك الناس هذا الأمر، وهناك أحكام أخرى، عرضة للتبديل والتغيير وفق ما تقتضيه المصلحة المعتبرة.
- فمن ذلك القاعدة الفقهية المشهورة "تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان".. وكلمة "الأحكام" ليست على إطلاقها، بل المراد بها الأحكام الاجتهادية، المبنية على العرف، والمصلحة اللذين من صفتهما التبدلُ والتغير الدائبان. والعرف والمصلحة أقسام: صحيح يقره الشرع، وآخر فاسد لا اعتبار له؛ فكل ما تعارف الناس عليه في معاملاتهم وتصرفاتهم، وعاداتهم ولباسهم، وأكلهم وشربهم، مما لا يعارض صريح القرآن والسنة، وليس فيه تفويت لمصلحة، ولا جلب لمفسدة، فله في الشرع اعتراف واعتبار.
- ومن ذلك أيضًا ما يعرف بـ "أحكام الإمامة والسياسة الشرعية"، وهو أن يتيح الإسلام للإمام الحق في الاختيار بين عدة أمور في قضية معينة، بما يحقق المصلحة لعامة المسلمين.
إن الحداثيين أو العلمانيين الذين يدعون إلى إعادة التفسير، والنظر في الشريعة الإسلامية من حيث الفقه وأصوله، ينتمون إلى مدرسة واحدة، أهم سماتها الجهل بالشريعة، وبمصادرها وأصولها وأحكامها، وأكثر رواد هذه المدرسة لا يعرفون كيف يقرؤون القرآن قراءة صحيحة، فضلًا عن معرفة علومه، ولا يعرفون أصول الفقه ومباحثه، ولا يعرفون اللغة العربية وعلومها.
ومن سمات هذه المدرسة التبعية المطلقة للفكر الغربي، وقديمًا سمّاهم الدكتور يوسف القرضاوي، رحمه الله، "عبيد الفكر الغربي".. ولما سئل عن سبب تسميتهم بذلك، ولم يسمِّهم تلاميذ الفكر الغربي، قال: التلميذ النجيب كثيرًا ما يناقش أستاذه، وقد يتخذ لنفسه خطًا غير خطه، ولكن هؤلاء يأخذون كل مفاهيم ساداتهم قضايا مسلّمة، لا يمتحنونها ولا يناقشونها ولا يجادلونهم فيها. فليس لهم وصف يعبر عن حقيقة موقفهم إلا وصف العبيد، الذين ذابت شخصيتهم في ذوات سادتهم.
يا ليت هؤلاء العلمانيين فعلوا ما فعلوه متوسلين بآليات ابتكرتها قرائحهم، حتى يستحق أن يكون اجتهادًا منهم، ولو أنه اجتهاد باطل!. وإنما نقلوا وسائلهم النقدية عن الغرب، ونزلوها على النص القرآني بتقليد أعمى واستنساخ مطلق
- الفيلسوف طه عبدالرحمن
هؤلاء العلمانيون العرب، الذين فتنوا بسحر الحضارة الغربية، أبوا إلا أن يتخذوا من قواعدها ومبادئها – دون تمييز بين غثّها وسمينها – القطب الذي تدور عليه الرحى، والمعيار الذي به تقاس نصوص الشريعة من قرآن وسنة. فمن قائل منهم بأنسنة القرآن، أي رفع عائق القدسية عنه، والانتقال به من وضع إلهي إلى وضع بشري؛ ومن قائل بعقلنة القرآن، أي رفع عائق الغيبية عنه، والتعامل معه وفق وسائل البحث والنظر التي توفرها المناهج الحديثة؛ ومن قائل بأرخنة القرآن، أي محاولة رفع القيمة الحكمية الثابتة والأزلية للنص القرآني عن طريق دراسته بالمنهج التاريخي، باعتباره ظاهرة تاريخية، ومنتجًا ثقافيًا مرتبطًا بزمان ومكان محددين.
يقول الفيلسوف والمفكر طه عبدالرحمن في كتابه "الحوار أفقًا للفكر": "يا ليت هؤلاء العلمانيين فعلوا ما فعلوه متوسلين بآليات ابتكرتها قرائحهم، حتى يستحق أن يكون اجتهادًا منهم، ولو أنه اجتهاد باطل!. وإنما نقلوا وسائلهم النقدية عن الغرب، ونزلوها على النص القرآني بتقليد أعمى واستنساخ مطلق؛ فكل ما وضعه علماء الغرب لدراسة نصوص الكتب المقدسة – أي التوراة والإنجيل – من مناهج مقررة، وما توصلوا إليه من نتائج، أخذه العلمانيون العرب وأنزلوه على القرآن الكريم بخصوصيته المسحية، وبتفاصيله السياقية والتاريخية، التي تخصّ الممارسة الغربية للدين".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.