لأنها انطباعات فإن مكانها المدونات، ذلك لأنها تتضمن تجربة شخصية لصاحبها، يتكرر فيها ضمير المتكلم، ومن غير المناسب إذن فرضها على القارئ ضمن القوالب التحريرية الأخرى، تقارير كانت أو تحليلات.
ولأن الانطباعات لا تخضع إلى المعايير التحريرية للأشكال الصحفية الخبرية المتعارف عليها، وتتحرر منها، فمن غير المقبول وضعها ضمن هذه التصنيفات لأن صاحبها يرغب في إشراك من يتكرم عليه بقراءة تدوينته مشاعرَه الذاتية من خلال تلك الانطباعات من دون إرهاقه، فالمدونات تحرره من صرامة تلك المعايير، وهذا هو الفضاء الذي توفره للكاتب والقارئ معا.
يجد المرء أن من الواجب عليه التذكير بذلك بداية تجنبا للحرج، أو الوقوع في شبهة الخلط بين ما هو خاص ذاتي وما هو عام، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بدولة مثل أفغانستان، كانت أخبارها متصدرة في مرحلة طويلة من الزمن قبل تراجعها النسبي حاليا مقارنة بما كانت عليه من قبل، وإن وردت فهي موسمية، أو تتعلق بخطب جلل، وتفصيل ذلك ليس مكانه المدونات.
التأشيرة ملصقة بجواز السفر، لا تحمل أيا من اسمي أفغانستان السابق "جمهوريت أفغانستان الإسلامية" أو اللاحق "إمارة أفغانستان الإسلامية" التأشيرة أو "الويزا" تحمل فقط كلمة "أفغانستان"
بين خريفين
نحو 30 عاما تفصل بين آخر زيارة قام بها صاحب هذه السطور إلى أفغانستان، في مهمة صحفية، وبين الزيارة الحالية التي بدأها قبل يومين للغرض نفسه.
القاسم المشترك بين الزيارتين أنهما في ظل حكم حركة طالبان كانت الأولى في خريف عام 1995 بعد عام من ظهور الحركة، أما الثانية فتأتي بعد مرور 3 أعوام وشهر على عودتها للحكم مرة أخرى.
في طبعتها الأولى كانت الحركة قوة مقاتلة تسعى لبسط سيطرتها على البلاد، والآن باتت قوة حاكمة تحاول لملمة أشلاء الدولة بعد نصف قرن من الحروب والصراعات التي كانت هي طرفا فاعلا فيها منذ ظهورها الأول عام 1994، وحتى عودتها ثانية إلى السلطة في 15 أغسطس/آب 2021 إثر الانسحاب الأميركي.
عتبة الزيارة الأولى كانت مدينة كويتا عاصمة إقليم بلوشستان الباكستاني، ومنها إلى سبين بولدك جنوب ولاية قندهار، ومنها إلى مدينة قندهار معقل طالبان ومقر إقامة زعيم الحركة الراحل الملا محمد عمر وقيادات الحركة.
في الأولى التي جرت في خريف عام 1995 لم يكن دخول أفغانستان يتطلب تأشيرة مسبقة، والتأشيرة كانت صحبة عدد من أعضاء طالبان بينهم قادة في الحركة منهم من قضى نحبه ومنهم من لا يزال حيا يرزق، وبعضهم أمضى سنينا في معتقل غوانتانامو، ونفر منهم آثر الانسحاب من المشهد، وعاد قانعا يفلح أرضه غير طامح في منصب.
من خريف عام 1995 إلى خريف عام 2024 تقدمت إلى سفارة أفغانستان طلبا للتأشيرة، ولدى الاتصال هاتفيا بالسفارة لمعرفة الإجراءات رد موظف أفغاني وبسؤاله عن اللغة الأنسب له للحديث بها قال الإنجليزية، التي لم يكن يتحدث بها أي من عناصر طالبان قبل 30 عاما، مقارنة بما عليه الحال اليوم.
بعد التوجه إلى مقر السفارة وتعبئة الطلب وتقديم الصور الشخصية أخبرني المسؤول هناك أن عليهم أولا مخاطبة الخارجية الأفغانية للحصول على الموافقة، وبعد 10 أيام من تقديم الطلب أتيحت تأشيرة دخول لمدة 30 يوما، لم يطلبوا دفع رسوم التأشيرة مسبقا بل طلبوها بعد صدورها، وقيمتها بالمناسبة 150 دولارا أي تقترب من تأشيرة شنغن إن لم تزد.
التأشيرة ملصقة بجواز السفر، لا تحمل أيا من اسمي أفغانستان السابق "جمهوريت أفغانستان الإسلامية" أو اللاحق "إمارة أفغانستان الإسلامية" التأشيرة أو "الويزا" تحمل فقط كلمة "أفغانستان".
لا توجد رحلات تجارية مباشرة فكان الترانزيت لزاما من مطار إمارة دبي، خصوصا أن الهيئة العامة للطيران المدني الإماراتية هي من تتولى خدمات المساعدة الأرضية في المطارات الأفغانية الثلاثة الرئيسية، كابل، وقندهار وهيرات.
كان مقررا أن تكون مدة الترانزيت في المطار 4 ساعات لكن إقلاع الطائرة تأخر بعض الشيء، ولدى تفرس وجوه الركاب قبل الصعود وبعده تجد خليطا متنوعا، القلة أجانب، والغالبية أفغان رجال ونساء وأطفال بعضهم قادم من دول أوروبية والولايات المتحدة وكندا، امتلأت بهم الطائرة عن آخرها.

هنا كابل
هبطت الطائرة في مطار كابل صباحا فسارع غالبية الركاب إلى الوقوف لحظة الهبوط وامتدت أيديهم لالتقاط حقائب اليد الخاصة بهم من الأرفف المخصصة لها متعجلين الخروج حتى قبل أن تفتح الطائرة بابها وظلوا على تلك الحال أكثر من 10 دقائق حتى فتحت الطائرة بابها.
عبر أنبوب قديم مهترئ مر القادمون من الطائرة إلى صالة الوصول، الوحيدة في المطار.. الأفغان يخرجون مباشرة بعد ختم الوصول، والأجانب يملؤون استمارة مكتوبة بالإنجليزية والفارسية تتضمن بياناتهم والغرض من زيارتهم والمدة التي سيقضونها في البلاد وعناوين إقامتهم ورقم الهاتف المحلي المتاح لهم بعدها يتوجهون للحصول على ختم الوصول.
لجأت إلى الهاتف الذي سبق وسجلت عليه عنوان ورقم الهاتف في كابل فوجدته مصابا بالصمم والعمى وفقدان الذاكرة فأصبحت في موقف لا أحسد عليه، لكنني وجدت تقديرا للموقف من رجال الأمن الذي تغاضوا عن تسجيل تلك البيانات.
رجال الأمن وموظفو المطار يستقبلونك بابتسامة تخفي حزنا دفينا.. متعاونون لا يتأخرون عن تقديم المساعدة لا تجد لديهم تعنتا أو تشعر أن لديهم نظرات شك أو ريبة في الغريب الزائر على عكس ما عليه الحال في مطارات أوروبية أو غيرها حول العالم.
ما إن تنتهي باعتبارك أجنبيا من ملء بياناتك حتى تتجه إلى ممر الحصول على ختم الوصول، واللافت أن من يقوم بذلك سيدات أفغانيات محجبات لكنهن سافرات الوجوه، يتحدثن الإنجليزية بطلاقة يرحبن بك ويطلبن منك بهدوء الوقوف أمام كاميرا تسجل بصمة العين وعقب ذلك يختمن جواز سفرك، بعدها تتجه إلى حيث المكان المخصص لتفتيش الحقائب، وما كدت أهم بفتح حقيبتي اتباعا للإجراءات حتى طلب مني الموظف المعنِي مبتسما إغلاقهما لأجدني عقب ذلك خارج المطار.
يبدو أن من كان بانتظاري قد أعياه الانتظار بسبب تأخر الطائرة فغادر لأجد نفسي غريبا وحيدا في بلاد غريبة تنتابني المخاوف فألجأ إلى هاتفي مرة أخرى، محاولا استنطاقه لكن من دون جدوى.
أدركت أننا يجب أن نرشد الاعتماد على التكنولوجيا في مثل هذه المواقف، وأن ننشط ذاكرتنا التي باتت اتكالية، وأقله من باب الاحتياط يتعين وجود نسخة ورقية لأرقام الهواتف والعناوين المهمة وعدم الاتكال تماما على تكنولوجيا الهواتف النقالة التي باتت تحمل تهديدا على حياة من يحملها بعد ما حدث أخيرا في لبنان، وتلك هي أزمة المستهلك لما ينتجه الآخرون.
ماذا يفعل من في مثل هذا الموقف غريب الوجه واليد واللسان، كما يقول المتنبي، غير التوكل على الله والتحرر من المخاوف فلجأت إلى أحد سائقي سيارات الأجرة خارج المطار لا يعرف الإنجليزية، ويفهم العربية بصعوبة حاولت أن أشرح له اسم المكتب وطلبت منه السؤال عن العنوان فأخذ يسأل زملاءه في المكان وآخرين اتصل بهم عبر هاتفه.
انطلق السائق إلى المدينة باحثا عن "دفتر الجزيرة" أي مكتب الجزيرة، إلى أن وصلنا فتبخرت لدي المخاوف.. لم يكن السائق مستغلا أو انتهازيا فلم أسأله لحظة الركوب عن قيمة الأجرة "الكراية" كما يقولون هنا، ولم يبالغ هو في تحديد قيمتها لحظة الوصول فطلب "500 أفغاني"، و"أفغاني" هو اسم عملة البلاد والدولار الواحد يعادل 70 أفغانيا.
كابل تستيقظ مبكرا وتنام مبكرا لا مكان فيها لحياة الليل، أسواقها تعج بالحركة طيلة النهار، كذلك شوارعها المكتظة بحركة السيارات القادمة من كافة ولايات البلاد وعددها 33 ولاية أغلب تلك السيارات يابانية قديمة، بعضها يحمل أرقاما، وبعضها لا
عاصمة من نوع خاص
إذا كانت كابل هي عاصمة البلاد فإن مدينة قندهار التي تبعد عنها 459 كيلومترا، هي عاصمة القرار ففيها يقيم زعيم حركة طالبان أمير المؤمنين هبة الله آخوند زاده.
رايات الحركة البيضاء تحمل عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" مكتوبة بالأسود أصبحت عَلم البلاد الرسمي منذ مطلع أبريل/نيسان عام 2022، بديلا عن العَلم السابق ذي الألوان الثلاثة (الأسود والأحمر والأخضر) سبق ذلك بيان لطالبان يوم 20 مارس/آذار من نفس العام قالت فيه "لا يجوز أن يظهر أي مسؤول كبير أو مبتدئ في طالبان مع العَلم ذي الألوان الثلاثة".
على تلة "وزير أكبر خان" في العاصمة كابل والتي تقصدها العائلات للتنزه والاستمتاع بالمنظر البانورامي لكابل تجد الراية (العلم) بطول 26 مترا وعرض 40 مترا، مرفوعة على عمود ضخم. كذلك المرافق الحكومية التي تمر بها، ولأنها بيضاء فإن التراب يظهر عليها بسرعة مقارنه بالعلم القديم،.. حالة رمزية تجعل حكومة طالبان تحت مجهر الإعلام والدعاية الغربية.
كابل تستيقظ مبكرا وتنام مبكرا لا مكان فيها لحياة الليل، أسواقها تعج بالحركة طيلة النهار، كذلك شوارعها المكتظة بحركة السيارات القادمة من كافة ولايات البلاد وعددها 33 ولاية، أغلب تلك السيارات يابانية قديمة، بعضها يحمل أرقاما، وبعضها لا، مقود بعضها جهة اليمين وأخرى مقودها على اليسار، والقيادة في العاصمة مغامرة كبيرة لا يقدر على خوضها غريب على الرغم من أن شرطة طالبان تحاول جاهدة تنظيم حركة السير.
رغم حالة الفقر وما تحت خط الفقر التي يكابدها غالبية الأفغان فإن شوارع كابل وأسواقها كذلك مداخل مساجدها تكاد تكون خالية من المتسولين، إلا فيما ندر، كما أن شوارع المدينة تبدو نظيفة وشبه خالية من أكوام القمامة.
المساجد مليئة بالمصلين الذين يتوافدون طوعا حرصا منهم على أداء الصلوات في جماعة، لكنهم يخضعون لتفتيش سريع من رجال الشرطة لدى دخولهم، من باب الحيطة
لا يوجد زي موحد لرجال الشرطة أو الأمن، بعضهم يرتدي اللباس الوطني، وآخرون يرتدون زيا كاكيا أو رماديا أو أخضر وحتى أسود، كما يصعب تمييز من هو شرطي ومن هو تابع للجيش، تجد ذلك في التقاطعات ونقاط الأمن حيث يتحققون من هوية المارة، كذلك أمام المصالح الحكومية والفنادق.
المساجد مليئة بالمصلين الذين يتوافدون طوعا حرصا منهم على أداء الصلوات في جماعة، لكنهم يخضعون لتفتيش سريع من رجال الشرطة لدى دخولهم، من باب الحيطة، وعند صلاة الجمعة يغلق الشارع الذي يقع فيه الجامع أمام حركة السيارات في الاتجاهين، كما تلاحظ وجود مصفحة أميركية بداخلها رجال أمن من حركة طالبان، وهذا هو الأثر الأميركي الوحيد الذي يمكنك رؤيته خلال تجولك في كابل.
الانطباعات الأولية للزائر تثير لديه قائمة طويلة من الأسئلة حول كيفية إدارة حكومة طالبان للدولة، وأحوال العباد والبلاد في ظل حكمها بعد أكثر من 3 سنوات من العودة، عنوانها الأبرز مقاومة العزلة.
من بين تلك الأسئلة ما يتعلق بطبيعة الحكم والحكام الجدد في طبعتهم الجديدة، ومدى ارتباطهم بالعهد الأول ورؤيتهم وخططهم وسعيهم في مجالات مثل الأمن والصحة والتعليم، وأحوال المرأة والطفل والعلاقات الخارجية، كذلك نبض الناس.. من تشغله اللقمة ومن تشغله الأمة!
محاولة الإجابة عن ذلك مكانها الأنسب التقارير والمقابلات والتحليلات وليس التدوينات التي يناسبها الانطباعات لا لغة التقارير الجافة، وهذا ما أحاول السعي جاهدا للإجابة عنه أو حتى الاقتراب من الإجابة قدر الاستطاعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.