شعار قسم مدونات

الثورة العُرابية.. هل كان فشلها مُحتّمًا؟

ميدان - عرابي "لقد خلقنا الله أحرارا"
مظاهرة عابدين الشهيرة، التي سلّم عرابي فيها مطالب المصريين للخديوي، واحتشد وراءه الجيش والشعب (مواقع التواصل الاجتماعي)

دخل الجيش الإنجليزي القاهرة صبيحة يوم الجمعة 15 سبتمبر/أيلول 1882 بعد تسليم عرابي نفسه كأسير حرب، وشن محمد سلطان باشا حملة اعتقالات طالت جميع من شارك في الثورة العرابية من ضباط وأعيان وعلماء وخطباء مساجد وغيرهم، وسلّمت بعد ذلك جميع مواقع الدفاع التي جهّزها عرابي خلال فترة الحرب من كفر الدوار للصالحية حتى دمياط وأبو قير.

كان أثر استسلام عرابي واضحًا على المصريين، فقد خضعت القاهرة وجميع مدن الدلتا دون إطلاق رصاصة واحدة، وفي الخامس والعشرين من الشهر ذاته، استعرض الخديوي توفيق بعد عودته إلى القاهرة جيوش الإنجليز في ميدان عابدين ذاته، الذي شهد قبلها بسنة واحدة مظاهرة عابدين الشهيرة، والتي سلّم عرابي فيها مطالب الشعب للخديوي، واحتشد وراءه الجيش والشعب في الوقت نفسه.

كانت الروح المعنوية للجنود متهالكة وكان هذا طبيعيًا بعد الهزيمة المؤلمة في التل الكبير، لكن القائد المسؤول يُدرك جيدًا أن الحرب سِجال، ولابد له من المقاومة ما بقيت هنالك استطاعة

كان من المُستغرب أن تسقط القاهرة هذا السقوط السهل وتسقط بعدها جميع المعاقل التي شحنها عرابي بالعتاد والجنود للدفاع عن القاهرة، رغم المعارك الدامية التي سبقت، ورغم أن عرابي كان بإمكانه الاستمرار في المقاومة لوقت أطول بعد هزيمة التل الكبير.. كان ممكنًا أن يأمر جميع الجنود الموزعين على مواقع الدفاع في دمياط وأبو قير والصالحية وكفر الدوار بالتراجع سريعًا إلى القاهرة، ومن ثم تنظيم الدفاعات فيها، أو حتى التراجع بنفسه إلى مكان أبعد حيث يستطيع تنظيم الجيش لكرّة أخرى.

إعلان

لم يكن هذا بالغريب بعد استسلام عرابي نفسه وتسليمه لسيفه، الأمر الذي رفضه محمود سامي البارودي قائلًا "إني ذاهب إلى منزلي فإن أرادوني، فإنهم يعرفون أين يجدونني"، ومن ثم خفتت روح المقاومة لدى جموع الناس، وقبلوا بما قبل به قائدهم. لكن، هل كان ثمة طريقة لِتَجنّب هذا المصير المشؤوم؟ هل كان ثمة خطة لاستمرار المقاومة وإطالة أمد الحرب وعدم التسليم بهذا الخنوع؟

ثورة في الجنوب

في فجر يوم الاثنين 26 يناير/ كانون الثاني 1885، استعد محمد أحمد المهدي وجنوده لاقتحام قصر الحاكم بعد حصار دام أكثر من سنة لمدينة الخرطوم، أعطى المهدي أوامر واضحة لثوار السودان بعدم قتل الحاكم الإنجليزي (تشارلز جوردن) أثناء الاقتحام، والإبقاء على حياته لإبرام صفقة مع الإنجليز، لكن الثوار قتلوه في خضمّ الاقتتال، الأمر الذي أثار غضب المهدي.

كان هذا الحدث جليًّا حيث كان جوردن أسطورة حية، وأحد الجنرالات المرموقين في الجيش الإنجليزي، وتقول الرواية إن المهدي كان يريده حيًّا ليستبدل به أحمد عرابي، الذي كان وقتها يقضي عقوبة النفي في سريلانكا. فصحيح أن الجيش المصري كان يقاتل ثوار السودان مع الإنجليز إلا أنه كان يقاتل مُرغمًا، وارتأى المهدي أن عرابي قائد مقاوم، قاوم الإنجليز في أقصى الشمال، بينما كان ثوار السودان يذيقون الإنجليز الويلات في السودان.. ربما فكّر حينها أن تواجد عرابي من شأنه أن يرفع من روح المقاومة، ويدفع بالجنود المصريين للقتال إلى جانب الثوار في السودان، فكانت مصر والسودان وقتها تحت مظلّة واحدة، لكن هذا الأمر لم يكتمل.

ربما لاح لك هذا الخاطر الذي لاح لي حين قرأت عن الثورة المهدية.. ماذا لو تراجع عرابي إلى السودان بجيشه بعد هزيمة التل الكبير، واستطاع ضم جنوده مع ثوار السودان، مادام أن عدوهم واحد، وأن مصر والسودان وقتها كانتا دولة واحدة؟. فنحن هنا نتكلم عن أبناء وطن واحد يقاومون محتلًّا غاصبًا، ماذا لو حصل هذا بالفعل حينها؟ ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة العُرابية تتراجع في مصر، كان ثوار السودان يحاصرون الخرطوم، ويحرزون بالفعل الانتصار تلو الآخر.

إعلان

لكن أنى لعُرابي أن يعلم الغيب؟ وأنى له بتلك الفكرة لقطع مصر طولًا نُزولًا إلى السودان؟

السيناريو المفقود

لكن المفاجأة أن عرابي تلقى تحذيرًا واقتِراحًا بهذا بالفعل من محمود سامي باشا، حكمدار جيش الصالحية.. يذكر عرابي نفسه في مذكراته بعد هزيمة التل الكبير: "وكان يريد محمود باشا ترك مدينة القاهرة، والالتجاء بجيشه إلى الصعيد ثم إلى السودان إذا عجز عن الدفاع، ولذلك كتب لي بالتلغراف من المنصورة يطلب مني إغراق مديريتي القليوبية والشرقية لتعطيل سير الجيش الإنجليزي، ثم الاستيلاء على جميع المراكب، وشحنها ذخيرة وتعيينات، وأخذها إلى جهة الصعيد مع الجيش".

هل كان ثمن الحفاظ على القاهرة من الخراب والدمار هو احتلال مصر سبعين سنة؟ أظلت الإسكندرية مُدمّرة بعد قصف الإنجليز لها، وبعد حريقها المُدبَّر قبل ذلك بشهور، أم استعادت صورتها بعد سنوات قليلة؟

لم تكن نصيحة محمود سامي وحدها حُجّة دامغة على عرابي لتنفيذ هذه الخطة، بل نجحت هذه الخطة من قبل عندما انسحب مراد بك بجيشه إلى الصعيد بعد هزيمته في معركة الأهرام 1798 أمام الجيش الفرنسي، ورفض عرض نابليون بعدها بالتسليم، ورغم ما آلت إليه الأمور بين مراد بك والفرنسيين بعدها إلى الخيانة، فإنه سحب شطرًا من جنود الحملة الفرنسية بادئ الأمر وأنهكهم في مطاردته جنوبًا، ولم يكن قد مضى على هذا الحدث زمن طويل؛ فكان نموذجًا يمكن أن يقتدي به عرابي في الانسحاب إلى الجنوب وإطالة أمد الحرب، وإنهاك قوات الإنجليز، هذا بالإضافة إلى ما أسلفنا عن اشتعال الثورة المهدية في الجنوب ضد الإنجليز بالتزامن مع ثورة عرابي في مصر.

لكن عرابي رفض هذا الاقتراح وأوضح ذلك في الفقرة التالية قائلًا: "وحيث إني رأيت عدم موافقة رأيه لما تحقق من الخراب الذي يحيق بمديريتي القليوبية والشرقية، ودمار عاصمة البلاد، وسفك دماء الأبرياء من غير جدوى، فضلًا عما رأيته من تحول الأفكار وانخلاع القلوب واختلال النظام بالجيش، بعد نشر المنشور السلطاني الذي كان في صالح الأعداء، وبعد إعلان الخديو بأن الإنجليز لم يقاتلوا المصريين إلا تأييدًا لسلطة الخديو ولا مطمع لهم في البلاد، وافقتُ المجلس العمومي على إرسال وفد بعريضة إلى الخديو ليأمر نصراءه الإنجليز بالكفّ عن القتال وحفظ العاصمة من الخراب والدمار".

إعلان

هل كان ثمن الحفاظ على القاهرة من الخراب والدمار هو احتلال مصر سبعين سنة؟ أظلت الإسكندرية مُدمّرة بعد قصف الإنجليز لها، وبعد حريقها المُدبَّر قبل ذلك بشهور، أم استعادت صورتها بعد سنوات قليلة؟ وهل كان الخوف حقًا من سفك دماء الأبرياء؟ وكم من الدماء سُفكت خلال سبعين عامًا، هي عمر الاحتلال الذي قضاه في مصر؟

نعم، كانت الروح المعنوية للجنود متهالكة وكان هذا طبيعيًا بعد الهزيمة المؤلمة في التل الكبير، لكن القائد المسؤول يُدرك جيدًا أن الحرب سِجال، ولابد له من المقاومة ما بقيت هنالك استطاعة، وأنه لا يملك مصادرة الحق المشروع للأجيال التالية في المقاومة أو تقرير مصيرها.. حقيقة أدركها محمود سامي باشا حين نصح عرابي بالانسحاب جنوبًا وعدم الاستسلام، كما أدركها عبد العال حلمي باشا، قومندان مركز دمياط ومحافظها؛ فرغم علمه بهزيمة التل الكبير، رفض أن يُسلّم دمياط حتى بعد سقوط القاهرة، إلا بعد أن زحف إليها الإنجليز وتلقى عساكرها أمر الخديو بالتسليم، لكن عرابي أعرض إلا أن يستجدي رضا الخديو الذي أبى عليه، ولِم لا يفعل؟!

مكثت الحملة الفرنسية في مصر ثلاث سنوات لم يطب لها فيها المقام، كانت زاخرة بالمقاومة والاقتتال، كانت ثورة القاهرة الأولى ثم الثانية حتى انتهى الأمر بمقتل القائد العسكري كليبر، وانتهت الحملة بالجلاء عن مصر

الدروس المستفادة

الأمر الآخر أن تأخير ردع المحتل أو المستبد يجعل المقاومة أصعب بمرور الوقت؛ فمع الوقت يفهم المحتل طبائع الناس، ويعمل على التفريق بين فئات المجتمع، كما يشكل ولاءات بالترغيب والترهيب، وتتراجع مع الوقت رغبة الناس في صده بانشغالهم بكسب القوت، ويزداد هو توغلًا في مفاصل الدولة ومؤسساتها، وهنا تظهر مفارقة عجيبة تستحق التأمل، بين رد فعل المصريين تجاه الحملة الفرنسية، وردهم على الاحتلال الإنجليزي.

مكثت الحملة الفرنسية في مصر ثلاث سنوات لم يطب لها فيها المقام، كانت زاخرة بالمقاومة والاقتتال، كانت ثورة القاهرة الأولى ثم الثانية حتى انتهى الأمر بمقتل القائد العسكري كليبر، وانتهت الحملة بالجلاء عن مصر، لكن الاحتلال الإنجليزي كان على النقيض، خضعت له البلاد والعباد، ولم يلقَ شيئًا من هذه المقاومة التي عصفت بحملة نابليون قبلها بأقل من قرن، حقيقة أحسب مرجعها لعاملين:

إعلان

الأول هو استسلام عرابي، ومن بعده سلّمت كل المعاقل المشحونة بالعساكر، وسقطت القاهرة سقوطًا سهلًا، وخفتت روح المقاومة في نفوس الناس. والعامل الثاني ما أخبر به الشيخ محمد عبده في مقاله: (آثار محمد علي في مصر) قائلًا: "واتخذ محمد علي من المحافظة على الأمن سبيلًا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهلين، وزالت مَلكة الشجاعة فيهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يُبقِ في البلاد رأسًا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه".

هذا البأس الذي أفسده محمد علي كان قد بدأ يُستعاد شيئًا فشيئًا في خضم الثورة العُرابية، وظهر هذا جليًا في احتشاد الأعيان ورؤوس العائلات والعلماء مع عرابي في مظاهرة عابدين، كما ظهر في تطوع الآلاف في الجيش، وتبرع كثيرين بالمال والمعونات، لكن سرعان ما ارتد هذا البأس مرة أخرى بعد استسلام عرابي وسقوط القاهرة.

ويستطرد الشيخ محمد عبده في نهاية مقاله قائلًا: "فما أثر ذلك في حياة المصريين؟ أثر كله شر في شر. ظهر ذلك حينما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي، دخل الإنجليز مصر بأسهل ما يدخل دامرٌ على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد قوة تثبت لهم أن في البلاد من يحامي على استقلالها، وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنسيين إلى مصر. وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير".

وهنا تظهر حقيقة ماسّة في أي ثورة، وهي ضرورة بقاء القيادة حرة طليقة وعلى قيد الحياة، فلو انسحب عرابي إلى الجنوب واستمر في قتال الإنجليز لانعكس ذلك على الأهالي، ولحرّكتهم الأنباء بأن عرابي ما يزال هناك في مكان ما يقاتل الإنجليز ويكرّ ويفرّ، ولربما لو اتحد عرابي مع ثوار السودان لساعد ذلك على ظهور بؤر للمقاومة ضد الإنجليز بالقاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن، ولأُتي الإنجليز من الشمال والجنوب كما انحصر جنود نابليون من قبل بين ثورات الأهالي في القاهرة شمالًا، ومطاردة مراد بك وجيش المماليك جنوبًا.

إعلان

درسٌ آخر لا يقل أهمية عن سابقه، وهو: إن لم تكن على قدر المعركة، وتُوظِّف أفرادك لمواجهة العدو، فسيكونون حتمًا جزءًا من خُططه، أو على الأقل سيتم تحييدهم. الجيش المصري الذي كان من الممكن أن يزحف جنوبًا لقتال الإنجليز جنبًا إلى جنب مع ثوار السودان – لو أخذ عرابي بنصيحة محمود باشا- زحف إلى السودان بالفعل، ولكن لقمع الثورة السودانية تحت قيادة إنجليزية، بعد أن تم حل الجيش وإعادة هيكلته بإشراف الإنجليز.

وانتهت الثورة المهدية بعدها بسنوات على أيدي جنود مصريين، ورغم هذا كانت نظرة المهدي نفسه تعكس فهمًا ووضوحًا للصراع، استطاع بها التفريق بين قتاله للجنود المصريين المجبرين على القتال مع الإنجليز في السودان، وبين عرابي الضابط في الجيش المصري ذاته، والمقاوم للاحتلال.

لم يبادر عرابي إلى ردم قناة السويس وترعة الإسماعيلية كما أُشِير عليه لمنع الإنجليز من فتح الجبهة الشرقية، ولم يبادر إلى عمل التحصينات في الجبهة الشرقية، وركّز قواته في الجبهة الغربية رغم التحذيرات المتوالية، ولم يبادر إلى استدعاء الآلاي السوداني المدرب على القتال من دمياط قبل معارك الجبهة الشرقية، ولم يبادر أخيرًا إلى التراجع بجيشه جنوبًا بعد هزيمة التل الكبير.

ربما كانت هذه المصيبة الكُبرى التي ابتُليت بها قيادات المعارضة المصرية في العصر الحديث.. افتقاد المبادرة رغم توافر الفرص للتغيير، ظهر هذا في عدة أحداث أبرزها ثورة عرابي، وثورة 52، وأخيرًا ثورة يناير!. وربما فقط عندما تمتلك مصر قيادة على قدر الحدث، تعض على الفرص الثمينة حين تأتي، وتنتقل من رد الفعل إلى الفعل، ربما عندها فقط ستتغير الأوضاع.

رُغم أخطائه، يظل عرابي بطلًا شعبيًا وجزءًا لا يتجزأ من تاريخنا القومي، وعزاؤنا أن التاريخ لا ينسى، عرابي الذي وُصم بالخيانة والتمرد في الصحف والمناهج الدراسية لسبعين سنة، أنصفه التاريخ وصارت ثورته الآن تُدرَّس نموذجًا لحب الوطن والدفاع عنه، ويكفينا أن مصر لم تسقط حينها لقمة سائغة للمحتل الإنجليزي إلا بالمعارك والدماء والتضحيات.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان