لقد دعا المسلمون على مرّ العقود الماضية إلى ترسيخ مبادئ التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، ومع تنامي حدة الصدامات والحروب في العالم، ترتفع الأصوات المنادية بضرورة التعايش ونبذ الصراع من قبل العالم الإسلامي، لِما لذلك من أهمية كبيرة في حماية مستقبل البشرية، ولكون الإسلام دينًا يحث على قيم التسامح والعيش المشترك، ويدعو إلى نبذ الكراهية والتحريض ضد الآخر.
بيدَ أننا وفي ظل سعينا – نحن المسلمين – لتحقيق هذه الغاية؛ نجد أنفسنا أمام عدد من المعيقات المتنوعة، والموانع المتكررة والمتجددة، لعل أبرزها إصرار الغرب على إضعاف الأمة الإسلامية، ومحاولة طمس هويتها، وسلخها عن فطرتها عن طريق الغزو الفكري، والإساءة لمقدساتنا، ورموزنا الدينية، ومحاولة النيل منها، تحت مزاعم الدفاع عن حرية الرأي والتعبير.
مما يدعونا للغرابة أن التعرض لصورة الأقليات من أتباع الديانات المختلفة أصبح ممنوعًا في الغرب، ما عدا التعرض للعرب والمسلمين الذي مازال مقبولًا، ولا يعترض عليه معترض!
لقد أضحت المضايقات التي يتعرض المسلمون لها، والانتهاكات التي تطولهم في البلدان الغربية، واقعًا يعرفه كل الناس، إذ على الرغم من الشعارات التي تروج لها الدول الغربية حول السلام والمساواة وحقوق الإنسان، فإننا في حقيقة الأمر ما زلنا نرى شعوبًا مسلمة كثيرة تستمر معاناتها من الاضطهاد والعنف، والعنصرية، وأشكال مختلفة من الاستفزاز في عدة مجتمعات غربية، وهذا ما يؤدي إلى احتدام الصراع بشكل متكرر بين الغرب والإسلام، ومن ثم إلغاء فكرة التعايش من الوجود.
ففي المجتمع الأميركي، تلجأ وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى لسياسة التشويه، والتحريض ضد المسلمين، حيث تعمل على تشويه صورة المسلمين في مختلف وسائل الإعلام، ما ينتج عنه تأثير كبير على الرأي العام.
وهذا التأثير الإعلامي قد جعل الأميركيين سابقًا يؤيدون التحرك العسكري خارج بلادهم ضد المسلمين، بل تجاوز الأمر ذلك إلى تغير اتجاه الرأي العام العالمي، الذي اعتبر المسلمين ثلة من الإرهابيين الذين يشكلون تهديدًا خطيرًا على العالم، وذلك إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ما شجع الغرب على الاستمرار في مضايقة العرب والمسلمين واضطهادهم في أميركا، وسائر البلدان الغربية.
ومما يدعونا للغرابة أن التعرض لصورة الأقليات من أتباع الديانات المختلفة أصبح ممنوعًا في الغرب، ما عدا التعرض للعرب والمسلمين الذي مازال مقبولًا، ولا يعترض عليه معترض!
ومن الخطأ الاعتقاد بأن هذه الصورة النمطية عن المسلمين، قد جاءت نتيجة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، فاللجنة الأميركية قد نشرت سابقًا في تسعينيات القرن الماضي تقريرًا عن جرائم الكراهية والتمييز ضد العرب. وهذه قد تصاعدت حدتها بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، إلى أن بلغت ذروتها بعد حادثة شارلي إيبدو بباريس عام 2015م.
كما أن الكثير من الدول الغربية قد اتبعت من وسائل التضييق على الأقليات المسلمة كلّ ما هو عنصري منغلق، فتجعل المسلم الذي يبتغي التقرب إلى الله وممارسة العبادات مجرمًا يجب توقيفه ومعاقبته عبر ثلة من التشريعات والقوانين، ومن ذلك تجريم ارتداء الحجاب والملابس ذات الطابع الديني، التي تميز المسلمين عن غيرهم.
إذ لا يخفى على أحد ما يتعرض له المسلمون بشكل عام، والمرأة المسلمة بشكل خاص، من حملات ممنهجة لتشويه صورتها. حيث ما زالت تعاني من مضايقات واستفزازات متكررة، خاصة في فرنسا، التي تضيق الخناق على النساء المسلمات بقوانينها التي تتعلق بحظر لباس المسلمة الحجابَ، ومنعها من ولوج بعض الأماكن العامة، ما يتناقض مع شعارها المنادي بالحرية والمساواة.
تكرار الأعمال العدائية ضد المسلمين، كحرق بعض المساجد، وتدنيس المقابر، وظهور جماعات من اليمين المتطرف، تعتدي على المسلمين بشكل منظم وممنهج في شوارع وأزقة المدن الأوروبية
وقد كان المسلمون يواجهون صعوبات كثيرة في أداء شعائرهم وممارسة أنشطتهم الدينية في الدول الغربية، فالكثير من الدول تتخذ إجراءات وتسنّ قرارات لتضيق أو تمنع المسلمين من تأدية عباداتهم.
بالإضافة إلى كل ذلك؛ تأتي الأعمال العدائية المتكررة ضد المسلمين، كحرق بعض المساجد، وتدنيس المقابر، وظهور جماعات من اليمين المتطرف، تعتدي على المسلمين بشكل منظم وممنهج في شوارع وأزقة المدن الأوروبية.
كما يتم استهداف الرموز الدينية والإساءة إلى المقدسات، ما يؤدي إلى صدامات وأعمال عنف خطيرة، كالتي نتجت عن نشر صحف دانماركية صورًا مسيئة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في سبتمبر/أيلول عام 2005م، وكذلك في فبراير/شباط عام 2008م، وأيضًا حرق المصحف الشريف من قبل أحد المنتمين لليمين المتطرف، في العاصمة السويدية ستوكهولم، عام 2023م.
ولا ننسى هنا منصات التواصل الاجتماعي، التي أسهمت بشكل كبير جدًا في تنامي خطاب الكراهية ضد المسلمين، خلال السنوات الأخيرة، إذ باتت تتحسس بشكل شديد تجاه كل ما له علاقة بالإسلام ورموزه، وانحازت إلى جانب أعدائه، وأصبحت تحارب علنًا كل المحتويات التي تناصر القضايا العربية والإسلاميّة.
إن أساليب التضييق على الآخر المخالف في الدين، والتي تشمل الإساءة لمقدساته، والتضييق عليه في ممارسة شعائره وطقوسه الدينية، ومواصلة وسائل الإعلام تمرير المغالطات والتحريض ضد المخالف في المعتقد من قبل كثير من الأنظمة الغربية التي تنهج سياسة التحريض والتشويه ضد الدين الإسلامي بشكل صارخ.. ذلك كله سيشكّك في جدوى الجهود الداعية إلى التقارب والتعايش بين الشعوب، وسيزيد من حجم الهوة بينها، وسيجعل هذه المساعي مجرد حبر على ورق، لا أثر ولا نتيجة لها على أرض الواقع، ما يهدد أمن الأوطان، وينمّي روح التعصب والكراهية بين الأديان.
علينا ألا نقع في فخّ المعاملة بالمثل مع الآخر، بل ينبغي أن تتواصل الجهود من أجل إظهار الأخلاق والقيم الإسلامية لكل شعوب العالم، وتجنيد كل الوسائل من أجل إظهار سماحة الإسلام
إنّ معاناة المسلمين التي ذكرناها، ما هي إلا غيض من فيض، وما خفي منها أكبر وأعظم، ومع ذلك نجد أن يد المسلمين مازالت ممدودة للآخر، مهما كان مخالفًا له، ذلك أن الإسلام يحثّ على التسامح والتعايش بين الشعوب، ويدعو إلى نبذ كل أشكال العنصرية، والعنف. وهذه الحقيقة يؤكدها المستشرقون أنفسهم، حيث ذكر أحدهم أن "الشرقيين عامة أكثر تسامحًا من الغربيين، حتى في العصر الحاضر رغم التعليم والحضارة، لأدبهم الجم، وحلمهم الكبير، وتسامحهم العظيم نحو الناس والأموال، ودَعَتهم ووقارهم في جميع الأحوال، واعتدالهم في الاحتياج، وقد منحهم إذعانهم الهادئ لمقتضيات الحياة طمأنينة روحية قريبة من السعادة المنشودة، في حين تورثنا أمانينا واحتياجاتنا المصنوعة قلقًا دائمًا بعيدًا عن تلك السعادة".
في النهاية؛ ورغم كل هذا، علينا ألا نقع في فخّ المعاملة بالمثل مع الآخر، بل ينبغي أن تتواصل الجهود من أجل إظهار الأخلاق والقيم الإسلامية لكل شعوب العالم، وتجنيد كل الوسائل من أجل إظهار سماحة الإسلام، ووضع حدّ للخطابات العنصرية، حتى تستقيم العلاقات الإنسانية بين الشعوب، وتمضي في إطار المحبة والإخاء والاحترام المتبادل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.