شعار قسم مدونات

مقاربة إصلاحية لإعادة هيكلة المدرسة الابتدائية في الجزائر

سياسات التعليم في الجزائر تحولت نحو اعتماد الانجليزية كلغة أجنبية أولى (الجزيرة)
الأعداد المتزايدة للتلاميذ من أهم المشكلات المزمنة التي تعاني منها المؤسسات التعليمية في الجزائر (الجزيرة)

يُعتبر التعليم الابتدائي قاعدة الارتكاز في نجاح أي نظام تعليمي، باعتباره يمثل نقطة البداية، والأساس الأول في حياة المتعلم، يتلقى من خلاله المفاهيم الأولية والكفاءات القاعدية، التي تعتبر اللبنة الأولى التي ستقوم عليها المراحل التعليمية اللاحقة، وبحسب نوعية التكوين الذي يتلقاه المتعلم في هذه المرحلة الحساسة، سيتحدد مستوى قابليته التعليمية، وقدرته الاستيعابية للمفاهيم والكفاءات البنائية في الطورَين: المتوسط والثانوي، وحتى الجامعي، ولهذا كانت المرحلة الابتدائية هي الطولى من بين المراحل التي يمر عليها المتعلم خلال مسيرته التَّعَلُّمية.

التعليم الابتدائي في الجزائر، ورغم المحاولات المتواصلة لتحسين أوضاعه المهنية والبيداغوجية، لا يزال يعاني من معضلات مهنية عويصة، من أبرزها إغراق المعلم بالتكاليف والمهام

تُولِي الدول المتطورة عناية خاصة ومتميزة بهذه المرحلة؛ لأنها ترتبط بأهداف إستراتيجية بالغة الأهمية؛ فمن خلالها ترتسم أبعاد الشخصية الوطنية في أجيال المستقبل، ويُصقَل نموذج المواطن الصالح الذي سيضطلع بمهام البناء والتنمية، ويكتسب التلميذ خلالها المفاهيم القاعدية للعديد من العلوم، كما تتفتق بصيرته عن معارف ومبادئ وقيم وأخلاق وفنون مختلفة، وتنفك عقدته اللسانية ليستقبل لغات جديدة، ويتمرس على كلمات ومصطلحات متنوعة تثري قاموسه المعرفي، الذي يتنامى بصفة تصاعدية ومرحلية.

ونظرًا للحساسية البالغة لهذه المرحلة، فهي بحاجة إلى مهارات بيداغوجية دقيقة قد لا توجد في غيرها من الأطوار التعليمية، ولعل هذا ما جعل العديد من الدول الرائدة في التعليم- مثل كندا والسويد- تشترط شروطًا خاصة في معلم الابتدائي، كأن يحمل شهادة الماجستير، أو شهادة تثبت تلقيه تكوينًا تخصصيًا في علم النفس التربوي.. وفي المقابل، يحظى براتب محترم وامتيازات مهنية واجتماعية معتبرة، تجعله في منأى عن الحاجة والخَصَاصَة، منقطعًا نحو إتقان عمله وتطوير مهاراته، وبناء كفاءاته البيداغوجية والمعرفية.

غير أن التعليم الابتدائي في الجزائر، ورغم المحاولات المتواصلة لتحسين أوضاعه المهنية والبيداغوجية، لا يزال يعاني من معضلات بيداغوجية ومهنية عويصة، من أبرزها إغراق المعلم بالتكاليف والمهام البيداغوجية وغير البيداغوجية، والتوظيف العشوائي لاختصاصات لا ترتبط بميدان التعليم، علمًا أن الطور الابتدائي يعتبر أهم الأطوار التعليمية، والحجم المرهق، وتكليف المعلم بتدريس مواد ليست من اختصاصه، كتكليف أستاذ العربية بتدريس الرياضيات والعلوم والتاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية، إضافة إلى الإشراف على الأنشطة اللاصفية وتحضير المذكرات، وغيرها من المهام المرهقة.. على حساب جودة التعليم ونوعية التحصيل المعرفي والتقويم السلوكي للتلميذ.

إعلان

ومن أهم المشكلات المزمنة التي تعاني منها مؤسساتنا التعليمية عمومًا، والابتدائيات بصفة خاصة، الأعداد المتزايدة للتلاميذ، ما أدى إلى اكتظاظ الأقسام (ما بين 35- 45 تلميذًا في القسم)، الأمر الذي تسبب في ضعف مستوى الإشراف ومتابعة أداء المتعلمين ومعالجة الفروق الفردية، أو ما يسمى بالبيداغوجية الفارقية، فأثر ذلك سلبًا على معايير التقييم والتقويم البيداغوجي، الذي أصبح في عمومه تقييمًا عشوائيًا غير مؤسس على الضوابط المتعارف عليها في صنافة بلوم للأهداف التعليمية، وكذلك الحال مع معايير بناء أسئلة الاختبار التي تحتاج إلى تكوين متخصص من حيث: طريقة الصياغة، وأساليب القياس، والبناء المنهجي والمتوازن للأسئلة، والمهارات والكفاءات السلوكية المستهدفة للمتعلم.

المتعلم يتلقى في الطور الابتدائي المفاهيم الأولية التي ستبنى عليها معارفه وتصوراته المستقبلية، وستحدد ملمحه الدراسي وكفاءاته القاعدية وقدرته على التحكم في اللغات

وفي سبيل طرح مقاربة إصلاحية، لإعادة هيكلة المدرسة الابتدائية باعتبارها النواة الأولى لأي نهضة تعليمية منشودة، أرى أنه من الضروري أن يتم تركيز الاهتمام على المحاور التالية:

  • المحور الأول: وضع معايير دقيقة وتوصيفات بيداغوجية صارمة للتوظيف في الطور الابتدائي، سواء في التعليم أو الإدارة، وذلك بالنظر إلى حساسيته وأهميته؛ فالمتعلم يتلقى فيه المفاهيم الأولية التي ستبنى عليها معارفه وتصوراته المستقبلية، وستحدد ملمحه الدراسي وكفاءاته القاعدية وقدرته على التحكم في اللغات.
  • المحور الثاني: ضرورة الاهتمام بالتكوين المتخصص للمعلمين في علم النفس البيداغوجي وعلم نفس النمو، وعلم النفس التعليمي، والخصائص النمائية والسيكولوجية والجسمية للمتعلم في طور الابتدائي، باعتبارها تخصصات أساسية لاستيعاب قواعد التعليم وبيداغوجياته، ويتم ذلك في مراكز متخصصة للتكوين البيداغوجي، وعلى أيدي أكفاء في حقولٍ معرفية تخصصية.
  • المحور الثالث: تحديد فترة التمدرس في الطور الابتدائي بست سنوات، وتخصيص السنتين الأوليين لإتقان القراءة والكتابة والحساب بلغة واحدة هي اللغة الرسمية (العربية)، ودمج الأنشطة التعليمية في نسق تفاعلي مفتوح، عبر بيداغوجيا التعليم باللعب والرياضة والفن والمسرح والأناشيد والمسابقات والمطالعة، وذلك للمزاوجة بين حاجة الطفل للعب والترفيه وبين الأهداف التربوية، ما يساهم في تحفيز المتعلم، وترسيخ معارفه، وتعلقه ببيئته المدرسية، وهي مقاربة تعليمية تحتاج إلى تكوين تخصصي للمعلمين.
  • المحور الرابع: تخطيط هندسة مناسبة للبيئة المدرسية وتغيير الهندسة الحالية، لتصبح المدرسة مكانًا جذابًا وملهمًا للمعلم والمتعلم، مع تجهيزها بالمرافق الضرورية لتحقيق الكفايات التعليمية الخاصة بالمرحلة الابتدائية، كقاعات الأساتذة، والملاعب أو القاعات الرياضية، والسبورة الذكية والوسائل التكنولوجية، والفضاءات البيداغوجية التي لا تقتصر على الأقسام التقليدية فحسب، كفضاءات الأنشطة الفنية وغرف المطالعة وتعليم اللغات.. إلخ.

عملية التعليم ليست مجرد نقل للمعلومات فقط، بل تشمل أيضًا إرساء الملمح التعليمي والكفاءات والمهارات الفكرية والعملية لكل مادة تعليمية

  • المحور الخامس: تقسيم المواد التعليمية إلى فئات متجانسة: لتضم الفئة الأولى مادة اللغة العربية، والتربية الإسلامية، والتربية المدنية أو التاريخ والجغرافيا، وتشمل الفئة الثانية مادة التربية العلمية والرياضيات، وتضم الفئة الثالثة اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، والفئة الرابعة تضم التربية الرياضية والنشاط الفني.
  • المحور السادس: يجب أن تسند كل فئة إلى أستاذ متخصص، ولا يكلف أستاذ واحد بتدريس كل المواد الأدبية والعلمية والرياضية والفنية؛ لأن هذا سينعكس سلبًا على الكفايات التعليمية التي ترتبط بتعليمية كل مادة وبيداغوجيات تدريسها، ومدى تحكم الأستاذ في المادة العلمية تأصيلًا وتوصيلًا، كما سيؤثر حتمًا على الملمح التعليمي للتلميذ؛ فتدريس مادة الرياضيات من قِبل أستاذ متخصص فيها ليس مثلما يدرسها أستاذ مختص في الأدب العربي أو علم النفس أو القانون أو علم المكتبات؛ لأن عملية التعليم ليست مجرد نقل للمعلومات فقط، بل تشمل أيضًا إرساء الملمح التعليمي والكفاءات والمهارات الفكرية والعملية لكل مادة تعليمية.
  • المحور السابع: ضرورة إجراء مراجعة شاملة ودقيقة للمنهاج التربوي، وتخليصه من الطابع الكمي المرهق الذي أضحى يؤرق العائلات، وحوّل البيوت التي هي موئل للراحة إلى ورشات مداومة، كما تسبب في انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية في الطور الابتدائي؛ بسبب عدم انسجام المعارف مع المستويات الإدراكية للتلاميذ في هذه المرحلة العمرية، ناهيك عن عدم قدرة الأولياء على متابعة تعليم أبنائهم في المنزل.
  • المحور الثامن: العمل على تقليص عدد التلاميذ داخل حجرة التدريس بما يتوافق مع المعايير الدولية (من 20 إلى 25 تلميذًا) من خلال زيادة عدد المؤسسات التعليمية، وتشجيع رجال الأعمال على المساهمة في الوقف التعليمي مقابل امتيازات ضريبية، كما يمكن الاستئناس بتجربة التخطيط الدراسي زمن كورونا، وهذا من شأنه أن يحسِّن جودة التدريس ومستوى الإشراف والمتابعة البيداغوجية.
إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان