مما لا شك فيه أن حادثة استهداف كوادر ومقاتلي حزب الله يوم الثلاثاء 17/09/2024 من الأحداث الجسام والتي لها ما بعدها من تبعات وعواقب، وهي منعطف حادّ في منطقة مضطربة تعجّ بالأحداث الساخنة وتضجّ بالتطورات المتلاحقة والتي تفتح الباب على مصراعيه لجميع الاحتمالات والتي لا تستثني حربًا واسعة لا تبقي ولا تذر.
بعيدًا عن التبعات والعواقب لهذا الحدث الزلزال سياسيًا وعسكريًا وأكثر، لا يسع المرء إلا أن يتوقف عند تعاظم استخدام التكنولوجيا سلاحًا في الهيمنة والاستحواذ والقتل والإفناء. في حرب 2006 وبعد حرب ضروس أصيب من مقاتلي حزب الله نحو أربعة آلاف جريح، واليوم وفي خلال ثوانٍ ومن غير حرب عسكرية ولا حتى الإعلان عنها يخسر الحزب عددا يكاد يكون مقاربًا لتلك الحرب أو على الأقل يمكن مقارنته وبدقائق معدودة.
نتباهى بقدراتنا الإلكترونية وخدماتنا المتطورة فيما نحن في واقع الحال تحت "الاستعمار الإلكتروني" لا نملك من أمرنا الإلكتروني شيئًا
بعد هجوم إسرائيل على مقاتلي حزب الله، استوقف الكثيرين في تركيا وخارجها، كلامٌ لسلجوق بيرقدار قاله قبل يومين من الهجوم: إنهم يخترقون الساعات والهواتف، إن وجود نظامنا الخاص أمر مهم للغاية لسيادتنا، وسوف نقوم ببنائه. والكلام لا يحتاج إلى شرح وتفسير، فإما أن تمتلك أسباب التقدم العلمي والتقنية المتطورة وإما أن يمتلك مصير حاضرك ومستقبلك من يمتلكها.
لقد أصبح اعتمادنا على التكنولوجيا وارتباطنا بها كبيرًا، سواء كان هذا الاعتماد ناشئًا عن الحاجة إليها أو الإدمان عليها، كما في التعامل مع الجوالات وتطبيقاتها ووسائل التواصل الاجتماعي المرتبطة بها. ومع التقدم السريع والتطور المتسارع في عالم التكنولوجيا والاتصالات، تتوسع الهوة التقنية بيننا نحن العرب وبين العالم المتطور.
ومع أننا لا نعدو أن نكون مستهلكين لا نكاد نتقن حتى الاستخدام فإن كثيرًا منا يتباهى بامتلاكه جهازًا متقدمًا عوض أن يشعر بالأسى على تخلفنا وعجزنا عن الاختراع. نتباهى بقدراتنا الإلكترونية وخدماتنا المتطورة فيما نحن في واقع الحال تحت "الاستعمار الإلكتروني" لا نملك من أمرنا الإلكتروني شيئًا.
الأمر ينطبق على الأفراد والدول والمجتمعات، فنحن في مجملنا نستخدم التكنولوجيا في الظاهر، وفي الواقع هي من تستخدمنا! ومن يقدمها لنا بطريقة أو أخرى يهيمن علينا وعلى حياتنا ويوجهنا وبشكل مباشر وغير مباشر في مناحي حياتنا المختلفة.
فعلى مستوى الخدمات العامة، يمكن للانقطاع في خدمات الإنترنت أن يشل حياتنا ويعطل مصالحنا وبشكل كبير قد يصل إلى الشلل الكامل، فلا نستطيع أن نسافر أو نصل إلى أموالنا في البنوك، خصوصًا مع التوجه إلى استخدام البطاقات البنكية، وبعد ذلك التطبيقات الذكية.
أحد أسباب الصمود الأسطوري في غزة، هو اهتمام المقاومة بالتقنيات وتأسيسها بنية علمية تحتية وتطويرها نظمًا سيبرانية وتسخيرها التكنولوجيا في التصنيع وابتكار الأسلحة القادرة على استنزاف الاحتلال
وعلى المستوى الشخصي، انتهت الخصوصية من حياتنا، فالجوال يتجسس علينا ويحصي علينا أنفاسنا ويراقب خطواتنا وسلوكياتنا. وهكذا نستخدم التطبيقات المجانية والتي تجمع عنا المعلومات وتلتقط منا البيانات لتستخدمها في تسويق المنتجات محققة أرباحًا خيالية وتستخدمها أيضًا في دراسة سلوكياتنا أفرادًا وجماعات ومجتمعات؛ لتستخدمها سلمًا أو حربًا في الهيمنة والاستحواذ.
ومع الصراعات البشرية وسنة التدافع والتي لا ولن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها وإن اختلفت صورها وأشكالها، فإن من يمتلك التكنولوجيا وأدواتها هو الأقرب لامتلاك القرار. وما دعوات السلام، إن كانت إقليمية أو دولية، إلا شكل من أشكال الصراع والتدافع ومحاولات الاستعلاء والسيطرة، وإن بأدوات ناعمة أو أساليب جديدة، وحتى في هذا فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
ولعل أحد أسباب الصمود الأسطوري في غزة، هو اهتمام المقاومة بالتقنيات وتأسيسها بنية علمية تحتية وتطويرها نظمًا سيبرانية وتسخيرها التكنولوجيا في التصنيع وابتكار الأسلحة القادرة على استنزاف الاحتلال وهز صورة صناعاته العسكرية إن كان في دباباته ميركافا، والتي كان يباهي بها، أو في غيرها.
المطلوب من الدول العربية أن تستثمر في العلم الحقيقي والعملي وليس في صوره ومظاهره، وعلى جامعاتنا أن تنتقل من التنافس على نشر الأبحاث العلمية لتتبوأ مركزًا متقدمًا في لوائح تصنيف الجامعات
وفي خضم التنافس الإقليمي على المكانة والأدوار، نجد تنافسًا إيرانيًا، تركيًا، وإسرائيليًا تركز أدواته على امتلاك ناصية العلم والتقنية والتصنيع، وفيما تستثمر دولة الاحتلال وتتفوق على المستوى العالمي تقنيًا، نجد أن الدول العربية غائبة ومغيبة وتكتفي إن تطورت أن تتطور في الاستخدام والاستهلاك لا في الإبداع والتطوير والابتكار.
ومع تعاظم دور الذكاء الاصطناعي عالميًا، وقدراته في التجسس والتنبؤ والتأثير، تتوسع الهوة بين الدول العربية والعالم المتطور. لنجد أننا قد ننتقل من طور الاستعمار الإلكتروني إلى الطور الاستعباد الإلكتروني، ولتتعاظم هيمنة من يمتلك ناصية العلم علينا ويتضاعف اعتمادنا على التكنولوجيا استهلاكًا واستخدامًا.
المطلوب من الدول العربية أن تستثمر في العلم الحقيقي والعملي وليس في صوره ومظاهره، على جامعاتنا أن تنتقل من التنافس على نشر الأبحاث العلمية لتتبوأ مركزًا متقدمًا في لوائح تصنيف الجامعات، لتصبح مكانًا تترجم فيه الأفكار والأبحاث إلى واقع عملي وصناعات ومنتجات.
في عالم لا يرحم وفي تنافس لا يتوقف، مكانة الدول وإنجازاتها تحددها أساسًا مكانتها علميًا وتقنيًا، الفشل العربي الرسمي سياسيًا واقتصاديًا، والعجز في مواجهة التوسع والهيمنة الصهيونية والركون إليها حتى مسميات السلام والتطبيع، يتعمق ذلك مع الفشل العلمي ولتصبح دولنا والتي تستورد كل شيء تقريبًا تصدّر العقول والمهارات العربية التي يلتقطها الغرب مرحبًا بها وبقدراتها في مقابل حياة كريمة وفرص واسعة وجواز سفر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.