ثمّة نداءات كثيرة في السنوات الأخيرة، نسمعها في دورات تنمية الذات وفي البرامج الإذاعية، ونشاهدها على التلفاز، ونتأمل مقاطعها في مواقع التواصل الاجتماعي، فيها الدعوة إلى مغادرة (منطقة الراحة)!. هذه المنطقة الرمادية التي يثار حول كنهها الكثير من الأسئلة التي تستحقّ التوقف عندها مليًا، لعلنا معًا نصل إلى الإجابات الشافية!
فعندما يكون الشخص مستقرًا في حياته يقولون له: "احذر فأنت في منطقة الراحة، وعليك البحث عن تحدّ جديد"!. وإذا وجدوه مرتاحًا في وظيفته قالوا له: "وظيفتك لا تحقق لك شغفك، فأنت مكانك ليس هنا، ويجدر بك أن تكون هناك"!. وإذا وجدوه منسجمًا مع وضعه الاقتصادي قالوا له: "ستتغير الأيام وتجد نفسك مفلسًا، وعليك أن تتحول إلى رائد أعمال"!. وإذا وجدوه مستأنسًا في حياته الأسرية قالوا له: "إذا لم تؤمن لهم مستقبلهم فلن تكون سعيدًا، وعليك البحث عن دخل إضافي"!. وإذا وجدوه سعيدًا في عمله قالوا له: "الوظيفة ليست آمنة، وراتبك ليس لك، وعليك الدخول في مجال التجارة"!
هذه فقط نماذج بسيطة من بعض الأمثلة التي تمرّ عليكم في حياتكم، والتي تتلقون فيها التحذيرات الكثيرة ممن حولكم من أهل الإرجاف الذين يخوفونكم من بعبع ما يسمى بـ"منطقة الراحة".
لو فكرنا في (منطقة الراحة) لوجدنا أنها تتجدد! فكل مرحلة من مراحل حياتنا الدراسية، والاجتماعية أو العملية والوظيفية فيها مناطق راحة
هذا يذكرني بقصة ذلك الملياردير الذي اكتأب، فذهب لكي ينفس عن نفسه في إحدى الجزر النائية، فلاحظ أن كثيرًا من الصيادين يذهبون كل يوم لاصطياد ما يكفيهم لذلك اليوم، ويبيعون شيئًا منه، ويستهلكون الباقي!. فتوقف عند أحدهم وقال له: لماذا لا تصطاد كمية أكبر؟ فقال له الصياد: ولماذا أفعل ذلك؟ فردّ عليه: لكي تبيع أكثر فتملك قاربًا آخر للصيد.
ردّ عليه بذات السؤال، فقال له: لكي يمنحك الكثير من فرص البيع، فتصبح لديك عدة قوارب، وتوظف فيها الصيادين، وتصبح مديرًا عليهم، وتجني أموالًا أكثر، وحينها ستصبح من أكبر التجار، والمحصلة النهائية أنك سترتاح!! فقال له الصياد بكل هدوء: إذا كان الهدف من كل هذا الركض الطويل أن أتحصل على الراحة، فأنا مرتاح الآن!
وأخشى أن تشبه نداءات مغادرة (منطقة الراحة) نداءات قوم سبأ، الذين خلد الله سبحانه وتعالى لنا قصتهم في القران الكريم، وفي السورة التي سميت باسمهم.. سورة سبأ: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}.
ولاحظوا هذا الجمال الذي وصفه الرحمن الرحيم بقوله: {بلدة طيبة ورب غفور}، ويتواصل النعيم المقيم في قوله تعالى: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأيامًا آمنين}.
ولأن الحال كما قال الله – سبحانه وتعالى – في سورة الأعلى {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}، قالوا: {ربنا باعد بين أسفارنا}، وهم بذلك {وظلموا أنفسهم}! لتكون النتيجة في قوله تعالى: {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}.
وأكد سبحانه وتعالى أمر إعراضهم حينما قال: {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}، وبين سبحانه وتعالى السبب {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين}، وذلك حينما قال لهم اخرجوا من (منطقة الراحة) ذاهبًا بهم نحو الجحيم!
جميل أن يسعى الإنسان نحو التغيير للأفضل، ولكن بدون أن يعيش في التذمر الدائم، والركض الأعمى هنا وهناك
ولو فكرنا في (منطقة الراحة) لوجدنا أنها تتجدد! فكل مرحلة من مراحل حياتنا الدراسية فيها مناطق للراحة، وكل مرحلة من مراحلنا في الحياة الاجتماعية أو العملية أو الوظيفية فيها مناطق راحة.. ولذلك، كلما هربنا من منطقة راحة وجدنا أنفسنا مرتاحين في منطقة أخرى، متمثلين قوله تعالى في سورة آل عمران: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم}.
ولا يمنع استمتاع الإنسان بمناطق الراحة أن يسعى في تطوير نفسه، مستصحبًا أهدافه في عقله اللاواعي، مستفيدًا من الاستقرار الحاصل في حياته لاكتشاف ذاته من جديد، فكما يقول أهل الاقتصاد: "في الأزمات ينكمش الاقتصاد، وتتقهقر التنمية"!. وجميل أن يسعى الإنسان نحو التغيير للأفضل، ولكن بدون أن يعيش في التذمر الدائم، والركض الأعمى هنا وهناك، هاربًا من (منطقة الراحة) عاكسًا المنهج الذي يقول: "في الحياة إما أن نهرب من الألم، أو نذهب إلى الراحة".
فنتائج ذلك التهور قد تكون هجرة خاطئة، أو استقالة مفاجئة، أو انفصالًا غير متوقع، أو نقطة تحول غير مدروسة، أو تركًا غير مخطط له بشكل صحيح!.. ما يترتب عليه الكثير من مشاعر الندم، والإحساس بشعور الخيبة.. ثم يحاول أحدنا تدارك شيء من الخسائر مرددًا قول الشاعر: "ومن يرفض العشر يقبل عقبها سبعًا"، ويتذكر بحسرة تلك الوصية القديمة: "لا تعبر الجسر قبل أن تصل إليه".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.