في المقال السابق "تحديات الأمة وحركة الأهلة الخضراء"، تحدثنا عن التحديات التي تواجه الأمة، لكننا تحدثنا أيضًا إجمالًا عما ذهبت إليه حركة النجوم الخمسة الإيطالية من أهداف متجاوزين الأيديولوجيا، وحذرنا من إمكانية انحراف أهداف حركة الأهلّة الخضراء، وأكدنا على ضرورة تمسك قيادة الحركة بالأهداف، وإبعاد منتسبي الحركة وأنصارها عن التجاذبات المنهجية والأيديولوجيا التي تودي بأي تجمع يحوي بين أضلعه فسيفساء تجمعها وحدة الهدف والمصير، وعليه فإن حركة الأهلة الخضراء عليها دومًا قياس الأداء متمسكة في ذلك بالحكومة.
لعل من أهم المشكلات التي تواجه أي مشروع وحدوي ما يتمثل في الأزمات السياسية التي تعصف بهذه البقعة المهمة في العالم: العالم الإسلامي، ولعل التحولات الديمقراطية وسيطرة الأنظمة الشمولية تحول دون سير أي مشروع ناهض لهذا الهدف، وهو ما يصاحبه بطبيعة الحال تحديات اقتصادية بهيمنة هذه الطبقة الحاكمة على مفاصل اقتصادات هذه الدول، ما يخلف نسبًا مرتفعة من البطالة، فيستلزم بالتالي فك عرى هذه الهيمنة بخطوات هادئة ودؤوبة.
ولأن هذه الأنظمة تسيطر على التعليم لإخراج فرد مصنوع على عينها، فإن مساحة التثقيف يمكن أن تملأ هذه الفجوة، ما يحمِّل المجتمع المدني المؤمن بفكر الحركة مسؤولية كبيرة في مراحل متعددة من تنفيذ الفكرة.
فكرة "حركة الأهلة الخضراء"، تطمح إلى تحقيق حلم كل مخلص على أراضي هذه الأمة العظيمة لاستعادة مجدها، وقبل ذلك استعادة مقدراتها من خلال إدارة حكيمة لهذه المقدرات، وتوزيع عادل لأبناء الأرض
بعد أن وصل الأستاذ نجم الدين أربكان إلى رئاسة الوزراء في تركيا، سعى إلى تعزيز الوحدة والتعاون بين الدول الإسلامية، وكان من أبرز مشروعاته إنشاء "مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية"، وكان المشروع معوّلًا على التعاون الاقتصادي بين هذه الدول، وتقوية وضعها في الاقتصاد العالمي، من خلال تعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة للدول الأعضاء، وكذلك التجارة والتعليم والتكنولوجيا، لكن الفكرة واجهت تحديات عديدة، منها التباينات الاقتصادية الكبيرة بين الدول الأعضاء، والاختلافات السياسية، والضغوط الخارجية.
ولعل من أهم الأسباب التي أفشلت المشروع اقتصاره على البعد الاقتصادي، دون العمل على تعاون أوسع، كما أن البيروقراطية وقفت سدًا منيعًا أمام التعاون البيني لدول المجموعة؛ لذا فإن فكرة الحركة مبنية على تعاون كيانات وشركات -وحتى أفراد- نائية بنفسها عن تعقيدات الإجراءات الحكومية، التي غالبًا ما تسيّرها تقلبات السياسة.
في مقالنا هذا نريد أن نذهب أعمق إلى صلب فكرة "حركة الأهلة الخضراء"، التي تطمح إلى تحقيق حلم كل مخلص على أراضي هذه الأمة العظيمة لاستعادة مجدها، وقبل ذلك استعادة مقدراتها من خلال إدارة حكيمة لهذه المقدرات، وتوزيع عادل لأبناء الأرض.. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: إذا كان هذا الهدفُ المحوري، هو هدف لا يتعدى المحلية، فمن أين ستأتي الوحدة؟!
بداية، يجب أن نحرر الفكرة من مفهومها الضيق بمثال يزيل اللبس.. لعل كل من ركب الطائرة يعرِّفه طاقم الضيافة بالطائرة، وقبل أن تغادر الأرض إلى فضاء رحلتها يتلون على الركاب تعليمات السلامة، فإذا وصل طاقم الضيافة إلى تعليمات التعامل مع الأكسجين، تجدهم ينصحون بأن ينقذ الأب أو الأم نفسهما أولًا بأخذ جرعة من الأكسجين، وألا يندفعا بالغريزة لإنقاذ طفلهما!
أزمة أي مشروع يؤمن به قائد سياسي هو إيمانه به دون أن يكون لديه من جموع الشعب من يحتضنه، من خلال صناعة تيار حقيقي متفهم للفكرة، ويعمل على تنفيذها بأدواته البسيطة
هذا يعني أن الحركة عليها أن تتجه لتحقيق أهدافها أولًا -والتي بينّاها في المقال السابق- من غير صدام مع الأنظمة القائمة، وذلك بخلق كيانات بديلة يمكن من خلالها تطبيق الشفافية والعدالة الاجتماعية، وتهيئة مناخ اقتصادي محلي من خلال دعم المشروعات الصغيرة، ودفع الشباب إلى تعلم التكنولوجيا والتعامل بها، بالتوازي مع الجهود التوعوية من خلال المجتمع المدني لصناعة وعي شعبي قادر على حمل المشروع، ويؤمن بفكرته ويدافع عنه إذا لزم الأمر.
في المثال الذي ضربناه لمحاولة التكامل في مشروع الأستاذ أربكان، لعل الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ هو تعويله على الاقتصاد في تنفيذ مشروع الوحدة، والخطأ الثاني هو تعويله على الحكومات المكبلة بأغلال الدول العميقة من الداخل، والدول الاستعمارية والطامعة من الخارج، في حين كان بإمكانه تخفيف تلك الأغلال بتحميل المؤمنين بالفكرة من الأفراد والكيانات مسؤولية المشروع، وصناعة حاضنة ثقافية وتوعوية خادمة للمشروع، وتبشر به وتزيد من المنخرطين فيه على علم.
إن أزمة أي مشروع يؤمن به قائد سياسي هو إيمانه به دون أن يكون لديه من جموع الشعب من يحتضنه، من خلال صناعة تيار حقيقي متفهم للفكرة، ويعمل على تنفيذها بأدواته البسيطة، مع الاستفادة من الاتفاقيات البينية للدول فيما يخص الجمارك، لتكون حافزًا للحكومات للعمل بالمثل.
فما يجب على حركة الأهلة الخضراء هو صناعة تيار، وتحقيق بعض النجاحات حتى ولو كانت صغيرة، لتكون دافعًا للمترددين أن ينخرطوا في المشروع. والممكن هو أن تنفتح الحركة على الجميع متخطية الحواجز المعرفية والثقافية والاقتصادية والجمركية من خلال تنسيق الجهود في داخل المجموعات المحلية، وصولًا إلى التنسيق على مستوى الأمة كلها، وهذا ما سنتناوله في المقال القادم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.