دعا وزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف في مقابلة تلفزيونية، بثت الأحد 31 أغسطس/ آب الماضي، أكراد سوريا -الذين يسيطرون على الشمال الشرقي في سوريا- إلى إدراك أن مستقبلهم يكمن في وحدة البلاد، وليس في الاعتماد على الحماية الأميركية، وحثّهم على الدخول في مفاوضات مع النظام السوري للتوصّل إلى اتفاق يضمن حقوقهم بوصفهم مجموعة قومية.
دعوة لافروف المستقبلية هذه تحمل في طياتها رسالة، تحاكي مشروع بلاده الهادف إلى إحداث تغيير في النظام العالميّ من خلال كبح الدور الأميركي. أفتكون الدعوة اللافروفية رسالة أبعد من الشمال الشرقي لسوريا وحماية النظام السوري، أم تعتبر بمثابة إنذار موجه لحلفاء الولايات المتحدة في العالم، وعلى رأسهم الغرب الأوروبي، لوقف الانجرار وراء العبثية الأميركية في سياساتها الخارجية؟
لم تأخذ "العولمة" في صعودها مسارًا طبيعيًّا، بقدر ما حملت في كينونتها أبعاد "الأمركة" من خلال سيطرة اللغة الإنجليزية على اللغات الأخرى، وفرض الدولار نفسه كعملة للاحتياط والتبادل التجاري بين دول العالم
مسار تقويض الهيمنة الأميركية شكل أزمة حقيقية وصلت إلى الداخل الأميركي، الذي يعيش اليوم على وقع التحضيرات للانتخابات الرئاسية الأميركية؛ إذ قالت وزارتا الخزانة والعدل الأميركيتان إن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على عدة أفراد وكيانات روسية وصينية على خلفية "جهود رامية لتأثير خبيث"، تستهدف انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وفق ما أعلن وزير العدل الأميركي ميريك غارلاند، الأربعاء 4 سبتمبر/ أيلول الجاري.
التحذير الأميركي من التدخل في الانتخابات الرئاسية يضعه البعض في خانة التلاشي للهيبة الأميركية، التي فرضتها الدولة على العالم، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، مع ما رافق ذلك من انحسار للأنظمة ذات الحكم الشيوعي على حساب صعود الفكر الليبرالي ونشر القيم الديمقراطية في العالم تحت ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، أي العولمة. وهذا ما دفع بالكاتب فرنسيس فوكوياما، أبرز مفكريها، لإطلاق عبارته حول انتصار الليبرالي و"الإنسان الأخير"، معتبرًا أن الديمقراطية لن تموت ولن تهزم مجددًا.
لم تأخذ "العولمة" في صعودها مسارًا طبيعيًّا، بقدر ما حملت في كينونتها أبعاد "الأمركة" من خلال سيطرة اللغة الإنجليزية على اللغات الأخرى، وفرض الدولار نفسه كعملة للاحتياط والتبادل التجاري بين دول العالم، إضافة إلى التدخلات الأميركية في صناعة السياسة العالمية، عبر نشرها وسائل تواصلها وشبكتها العنكبوتية (الإنترنت)، لنشر قيمها والسيطرة على العقول.
هذا ما أرادته الولايات المتحدة، وما أعلن عنه الرئيس جورج بوش الأب أمام الكونغرس عام 1992، عندما بشّر بالنظام العالمي الجديد، وكان يعني بذلك "الأمركة" وهيمنتها على العالم. لكنّ تحذير وزارتي الخزانة والعدل الأميركيتين يطرح تساؤلات جديدة حول مكانة أميركا في العالم، ودورها الذي يقرأ فيه البعض تراجعًا، لا سيما بعد حرب إسرائيل على قطاع غزة، ما أفقدها دور الوساطة وجعل منها طرفًا في النزاع، دون أن تتمكن إدارة الرئيس جو بادين إلى الآن من فرض صفقتها التي عرضتها في 2 مايو/ أيار الماضي على إسرائيل لقبولها، بعدما وافقت عليها حركة حماس.
معاهدة تسليم المجرمين كانت قد وُقّعت في عام 1912، بين البلدين وتعدّ أداة تستخدمها الولايات المتحدة لمحاربة تهريب المخدرات في هندوراس
دلالات ومؤشرات باتت تحيّر المتابعين، لاسيما فيما يتعلّق بـ"ترهل" دور أميركا، وفقدانها مكانتها من خلال البعثرة في أوراقها على الساحة الدولية وتشظيها. إذ إن ما قامت به حكومة فنزويلا من احتجاز عسكري أميركي من البحرية الأميركية ردًا على احتجاز أميركا طائرة الرئيس نيكولاي مادورو، لا يقلّ أهمية عما أعلنته رئيسة هندوراس اليسارية، زيومارا كاسترو، حول إلغاء معاهدة تسليم المجرمين المبرمة مع الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن هذا القرار جاء لمنع استخدام المعاهدة في مؤامرة محتملة على حكومتها، وكبار القادة العسكريين في البلاد.
ويأتي هذا التصعيد بعد أن أدانت السفيرة الأميركية في تيغوسيغالبا، لورا دوغو، اجتماعًا بين وزيري الدفاع الهندوراسي والفنزويلي، حيث تتهمه واشنطن بالتورط في تهريب المخدِّرات. وقد أدت المعاهدة إلى تسليم نحو 50 هندوراسيًا إلى الولايات المتحدة منذ عام 2014، منهم الرئيس السابق خوان أورلاندو هيرنانديز، الذي حكم عليه أخيرًا بالسجن 45 عامًا في نيويورك بتهمة تهريب المخدّرات.
معاهدة تسليم المجرمين كانت قد وُقّعت في عام 1912، بين البلدين وتعدّ أداة تستخدمها الولايات المتحدة لمحاربة تهريب المخدرات في هندوراس. واللافت في هذه المعاهدة أنها تنسجم مع مبدأ مونرو، الذي أعلنه الرئيس الأميركي جيمس مونرو في رسالة سلمها للكونغرس الأميركي في 2 سبتمبر/ أيلول 1823. عملت الولايات المتحدة انطلاقًا من هذا المبدأ على ضمان حديقتها الخلفية- المتمثلة بالقارة اللاتينية- من التدخلات الأوروبية يومها، وبعد ذلك من تدخلات أعدائها.
هل سيشهد العالم فعلًا وداع الأمركة، أم إنه الهدوء ما قبل عاصفة الانتخابات الأميركية في انتظار أي رئيس سيأتي البيت الأبيض؟
يعيش العالم اليوم على وقع الانقسام العمودي الحاصل في ساحته الدولية، حيث تعمل الإدارة الأميركية على إدارة الصراعات فيه، من شرق أوروبا وصولًا إلى بحر الصين الجنوبي، وهذا ما دفع بأعدائها لإنشاء تحالفات جديدة فيما بينهم، بهدف تقويض جهودها العسكرية والاقتصادية على حدّ سواء.
إذ تعمل مجموعة "بريكس" التي ستنعقد في أكتوبر/ تشرين الأول في روسيا على إيجاد عُملات جديدة للتبادل التجاري بين الدول الأعضاء، إضافة إلى تفعيل الجهود الرامية إلى فرض خطط التحايل على العقوبات الأميركية، عبر تكثيف الجهود الرامية لكسر الهيمنة الاقتصادية الأميركية على العالم.
لا يخفى على أحد أن روسيا تعمل مع حليفتها الصين ومن يدور في فلكهما، من إيران إلى فنزويلا وكوريا الشمالية، على قلب النظام العالمي من أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب. هذا ما باتت نتائجه واضحة على الساحة الدولية من خلال العمل على محاصرة الدور الأميركي في الكثير من القضايا الساخنة.
فهل سيشهد العالم فعلًا وداع الأمركة، أم إنه الهدوء ما قبل عاصفة الانتخابات الأميركية في انتظار أي رئيس سيأتي البيت الأبيض؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.