يقول غاريث ماثيوس في كتابه فلسفة الطفولة: أبي، كيف يمكننا التأكد من أنّ كل شيء ليس حلمًا؟.
قبل أن يصير الإنسان كائنًا بالغًا، كان ذات يوم طفلًا خلاقًا مبدعًا، طفلًا وأده المجتمع بدفن أسئلته وتقزيم دهشته، فصيره بذلك كائنًا محدود الأفق، مثقلًا بالحياة وموسومًا بالسطحية وغياب الإبداع.
إن الأطفال -عادة- مالكون لنوع من العبقرية تندثر بمجرد أن يصيروا كبارًا، بعد أن تلقيهم الحياة في رحى الاعتياد القاتل للتفكير، والحال أنه لا مفرّ للإنسان الطفل من هذا المصير إن لم تُصقل عبقريته وتتطور. أما الحقيقة فهي أنه لا مجال أحق بهذا من الفلسفة: خلاقة الإبداع وقابلة الاختلاف. لذا فإن تدريس الفلسفة هو حق مشروع يضمن لنا نموًا سويًا لنا بصفتنا كائنات عاقلة.
ولئن كان التنظير لهذا الأمر يبدو من السهولة في ظاهره، فإن لسان الواقع يكذب ذلك، ولئن كانت الفلسفة توسم بالإبداع والتعددية، فإنها في الآن ذاته صرح متعالٍ لا يمكن لأي كان بلوغه، ما يجعلهاـ أي الفلسفةـ محاطة بنوع من الوقار والسمو. ومحاولة ربط محبة الحكمة بالطفولة إنما هو ضرب في هذه الهالة المتعالية.
محاولة تنمية الطفولة المتسائِلة المندهشة تطرح إذن بربطها بالفلسفة مفارقة استشكالية، فما بين طبيعة طفولية بسيطة وطبيعة فلسفية نقدية هو كما ما بين السماء والأرض، لكن ما يجمع السماء والأرض هو الخالق الصانع، وما يجمع الطفل والفيلسوف هو وحدة النوع: النوع الإنساني.. إذن هل من سبيل لخلق إنسان طفل فيلسوف؟
الدهشة شعور مشترك بين النوع الإنساني، لكنه شعور إزاء أشياء غير اعتيادية ولا متوقعة، فالمرء لن يندهش أمام قدرة طائر على الطيران، بيد أنه سيفغر فاه أمام معجزة، أو حتى كارثة طبيعية
في طبيعة الفلسفة والطفولة
الإنسان الطفل قبل كل شيء إنما هو مشروع حرّ منفتح على العالم والآخرين، مظهر انفتاحه الأول يتجلى ضمن تكتل الأسرة باعتبارها الفاعل الأول في تكوين هذا المشروع وتنشئته، وهي مهمة لا تلبث حتى تصير مهمة مشتركة بين الأسرة والمدرسة؛ لذا فإن أنشودة نرددها من قبيل "المدرسة بيتنا الثاني" لم تكن مجرد عبارة منمقة بل كانت الحقيقة: حقيقة المدرسة أو ما يجب أن تكون عليه.
لكن يحدث أن تئد الأسرة والمدرسة هذا المشروع، فالطفل إلى جانب حيويته وشغفه يكون قنبلة من الدهشة والأسئلة الفجائية المحرجة: من أين أتيت؟ كيف خُلق العالم؟ من هو الله؟.. وهي أسئلة -على بساطة صاحبها- تحمل دلالات فلسفية وجودية يدمرها من يحيط به، فتتحول مهمة الأسرة والمدرسة من تطوير المشروع الإنساني إلى قتل مشروع إنسان متفلسف حمّال للدهشة والسؤال في جوهره، والحال أن هذه الدهشة وهذا التساؤل ليسا بدخيلين على الفلسفة، بل إنهما مبدآن من مبادئ تحقق التفلسف.
الطفل بحيزاته ملكة التساؤل والدهشة بشكل فطري إنما ينم عن استعداده لتقبل وممارسة التفلسف، وهو بذلك تربة خصبة لنمو نبتة الفلسفة، هذه الأخيرة تعمل على تنمية الملكات، وتجعلها أكثر عقلانية وتماسكًا وذات قصد ووعي
الدهشة والتساؤل: بين بساطة الطفل وتعالي الفيلسوف
الدهشة شعور مشترك بين النوع الإنساني، لكنه شعور إزاء أشياء غير اعتيادية ولا متوقعة، فالمرء لن يندهش أمام قدرة طائر على الطيران، بيد أنه سيفغر فاه أمام معجزة، أو حتى كارثة طبيعية. أما الدهشة المتفلسفة، فهي دهشة تثير السخرية والضحكات، كالضحكة التي جلجلت بها الفتاة الثراكية "وهي ترى طاليس يتعثر فيقع في ماء النبع لأن عينيه كانتا مشغولتين بتأمل السماء؛ هذه الضحكة هي -في نظر أفلاطون- الجواب الذي يردُّ به "العاقلون" و"العمليون" في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي".
أما رؤية طاليس للسماء، فإنما كانت مدفوعة بالاندهاش والاكتشاف، تقودها الرغبة في تعرية العالم وفهم لمَ هذا كله؟ ولأجل من؟. هنا يقترب الطفل من الفيلسوف، لأن كليهما يرى العالم وكأنه يراه لأول مرة؛ من زاوية ترى المدهش في المألوف، والغريب في المعتاد والمعجزة فيما يقع كل يوم، لهذا وسمت دهشة الفيلسوف بأنها دهشة طفل، لأن كليهما ينظر إلى الوجود والأشياء نظرة مختلفة وبشكل متعالٍ عن سطحية تفكير "الآخرين".
وإذا كان السؤال هو جوهر محبة الحكمة، أخْذًا بقول كارل ياسبرز: "إن السؤال في الفلسفة أهم من الجواب"، فإنه -أي السؤال- هو السمة المميزة للطفل: أسئلته آنية، متمردة، فجائية وباعثة على إحراجات ومفارقات (كالإشكالات الفلسفية)، تدور غالبًا حول الله، الإنسان والعالم. فالطفل يمتلك رؤية استكشافية تدفعه للتساؤل حول كل ما يقع تحت ناظره من موجودات، بل حتى مساءلة ذاته ووجوده.
يُستخلص، إذن، أن الطفل بحيزاته ملكة التساؤل والدهشة بشكل فطري إنما ينم عن استعداده القبلي لتقبل وممارسة التفلسف، وهو بذلك تربة خصبة لنمو نبتة الفلسفة، هذه الأخيرة تعمل على تنمية هذه الملكات، وتجعلها أكثر عقلانية وتماسكًا وذات قصد ووعي.
في محاورة الجمهورية، يؤكّد أفلاطون على أن دراسة الديالكتيك والفلسفة تتحقق ابتداء من سنّ الثلاثين، إبان أن يكون المرء قد درس الرياضيات والعلوم
في إمكانية تدريس الفلسفة للطفل
في نظريته الشهيرة حول التطور المعرفي، يشير جان بياجي إلى استحالة تحقق تفكير فلسفي نقدي عند الأطفال قبل سن الثانية عشرة، وهذا عائد إلى عدم مقدرتهم على "التفكير في التفكير"، بمعنى أنهم عاجزون عن التفكير تفكيرًا تجريديًا بنفس الطريقة التي يمتلكها البالغون، وكل محاولة لإقحام الطفل في بوتقة التفلسف غير مقبول؛ بحجة أنه لا ينبغي علينا تسريع نمو الطفل.. أكان بياجي محقًا في حكمه، أم إن نظريته تنم عن عجز في الرؤية؟
- جاريث ماتيوز وميشيل طوزي كداعمين لمشروع فلسفة الطفل
من جانبه يعبر جاريث ماتيوز عن رفضه نظرية جان بياجي المعرفية، بل يرى أن نظريته تلك تدعم مفهوم عجز الطفولة، وتعكس إخفاق صاحبها في النفاذ إلى الطبيعة المتفلسفة في الأطفال: فمن خلال الحوارات التي أقامها ماتيوز مع مجموعة من الصبية حول ماهية الكون، استبان استعداد الأطفال وحماستهم للفلسفة.. "قال سام في لحظة ما من الحوار؛ الكون هو كل شيء، وفي كل مكان، ولكن إذا كان هناك انفجار عظيم أو شيء من هذا القبيل فما سببه؟ إن كل شيء لا يمكنه أن ينفجر هكذا فقط وبعد بعض من المناقشة أعلن نيك: يجب أن يكون هناك بداية للكون، وإلا فلن يكون هناك شيء اسمه هنا".
في السياق ذاته، يطرح ميشيل طوزي -ديداكتيكيا- إمكانية تعلم التفلسف قبل الأقسام النهائية للمرحلة الثانوية، على اعتبار أن خوصصة الفلسفة وربطها بفئة محددة يضربان في الفلسفة باعتبارها حقًا إنسانيًا. والحال أن المناهج التعليمية القائمة على الاستماع، والسرد والتلقين هي ما يصعب تنزيل فلسفة صالحة للأطفال، لذا ينبغي التركيز على تحقيق إمكانية تعلم التفلسف عبر الأنشطة الشفهية والمناقشة، واستحضار نصوص أخرى من التراث الفلسفي من نصوص مخصصة للأطفال (قصص، أساطير) بدل الاكتفاء بالقراءة والكتابة وحسب، في درس يكون فيه المدرس متواريًا بشكل إرادي. فإذا كان الفلاسفة القدماء قد اكتسبوا التفلسف عبر التحاور، فما الذي يمنعنا من ذلك؟
- أفلاطون كرافض لإمكانية تعليم الفلسفة دون سنّ الثلاثين
في محاورة الجمهورية، يؤكد أفلاطون على أن دراسة الديالكتيك والفلسفة تتحقق ابتداء من سن الثلاثين، إبان أن يكون المرء قد درس الرياضيات والعلوم. فمن جهة، حتى يكون الإنسان خليقًا بدراسة الفلسفة وجب أن يكون ملمًا بالعلوم، ومن جهة أخرى يفترض أن يكون الإنسان كائنًا ناضجًا، لأن هذه الدراسة تستلزم استخدام ملكة العقل على أوسع نطاق ممكن، وبأشد درجة ممكنة من التركيز.
ما يؤكد هذا الطرح هو قول أفلاطون في أحد المواضع: "من أهم الاحتياطات أن نمنعهم من دراسة الديالكتيك وهم لا يزالون في حداثتهم. ولعلك قد لاحظت من قبل أن المراهقين الذين تذوقوا الديالكتيك لأول مرة يسيئون استعماله ويتخذونه ملهاة، ولا يستخدمونه إلا للمغالطة، فإذا قام أحد بنفي حججهم فإنهم يحاكونه ويفندون حجج الآخرين على النحو ذاته، شأنهم شأن الجرو الذي يجد لذة في جذب كل من يقترب منه…"، بل إنه يسند للدولة مهمة تغيير الوضع التدريسي للفلسفة من تلقينها لصبية لم يتجاوزوا مرحلة الطفولة إلى جعلها الغاية الأخيرة للمرء في رحلة بحثه عن المعرفة.
يُكسب أفلاطون الفلسفة، إذن، صبغة متعالية، فهي ليست بمتناول من يريد متى شاء، بل إنها تلزم المرء بأن يكون جديرًا لنيل شرف معرفتها، وعليه فإنه رافض لتلقين الفلسفة لحفنة أطفال هم أشبه لديه في محاولة تعلمهم الفلسفة بشرذمة من الجراء.
من هم الفلاسفة؟ إنهم الذين يشغلون مكانًا وسطًا بين الجاهلين والحكماء، فهم حكماء بامتلاكهم شعلة السعي وراء المعرفة، وجاهلون لعدم امتلاكهم جوابًا يطفئ نار ذاك السعي اللامتناهي
ختامًا
من هو الإنسان؟ إنه ذاك الكائن الكامن بين العدم والوجود، بين الحياة والموت، يستشعر وجوده وفناءه في آن، فإما أن يتجاهل شعوره ذاك فيكون جاهلًا، وإما أن يتحسس وراءه فيكون حكيمًا، أو أن يظل فيلسوفًا.
لكن، من هم الفلاسفة؟ إنهم الذين يشغلون مكانًا وسطًا بين الجاهلين والحكماء فهم حكماء بامتلاكهم شعلة السعي وراء المعرفة، وجاهلون لعدم امتلاكهم جوابًا يطفئ نار ذاك السعي اللامتناهي.
أما عن معنى أن تكون فيلسوفًا فهو أن تتساءل، تندهش وتشكّ وتتأمل، لا في ذاتك وحدها بل في غيرك وفي عالمك، ألا تنساق وراء اعتيادية الحياة، فتموت قبل أن يحين أوانك. وأخيرًا أن تترك الطفل في داخلك حيًا، تدعه ينظر إلى الموجودات كما لو كان يراها لأول مرة، "وإلى الوجود كما وقعت عليه عينا آدم حين فتحهما أول مرة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.