يتناول علماء النفس تصنيف العواطف البشرية لتمييزها وملاحظة الفروق بينها، ويحاول الباحثون أن يصنفوا العواطف استنادًا إلى اعتبارات متعددة، أبرزها التفريق بين المشاعر الإيجابية كالحب والفرح، والمشاعر السلبية التي تعبِّر عن أضدادها كالبغض والحزن.. وأصعب تلك العواطف ما تتركَّب فيه المشاعر السلبية مجتمعةً، ومن أمثلة ذلك القهر، وأصعبه ما كان في الرجال، وهو ما استعاذ منه النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلته الشعور بالخذلان؛ حيث تتركَّز مشاعر الألم والصدمة والحزن والبغض وغيرها في صورةٍ وجدانيةٍ شديدة الألم والتأثير في النفس.
والخذلان حالةٌ لها طرفان؛ طرفٌ مارس الفعل وطرفٌ تأثَّر به، وقد يكون الخذلان بمجرد ترك أفعال النصرة والتخلّي عن المخذول، وقد ينحدر في صورةِ أفعالٍ يكرِّس فيه الخاذل من بؤس المخذول وألمه. ولا يسمّى تركُ النصرة خذلانًا إلا إذا كان صادرًا عمن كانت النُّصرة متوقعة منه فتركها.
نجد أن النصرة التي ذكرها الحديث في مقابل الخذلان، قد جعلها الإسلام من حقوق المسلم على المسلم، وفي الحديث: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحْقِره
ولمّا كان أثر الخذلان على النفس بهذه الشدة والمرارة، استحقَّ أن يكون عقابًا ربانيًا لمن خالف أمر الله فلم يستحقَّ نصرته وتأييده ﴿إِن یَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن یَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِی یَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِ﴾، وفي الوقت نفسه استحقَّ التحذير الشديد من ارتكابه في العلاقات الأخوية بين المسلمين، لذا فقد ركّزت الأحاديث النبوية وتوعدت فاعله بأشد العقوبات، ففي الصحيحين: "ما من مسلم يخذل امرأً مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حُرمته ويُنتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتقص فيه من عِرضه ويُنتهك فيه من حُرمته إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته".
وإنما كان الوعيد شديدًا لأنّ حقيقة الخذلان هي خيبة المرء بعد توقّع النصرة، ولأن حجم الضرر المعنوي والمادي الذي لحق المخذول في هذه الحال عظيم، لأنه كان متوقِّعًا نصرة أخيه ومنتظرًا لها، وربما رتَّب خططه وبرامجه بناءً عليها! كذلك نجد أن النصرة التي ذكرها الحديث في مقابل الخذلان، قد جعلها الإسلام من حقوق المسلم على المسلم، وفي الحديث: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحْقِره".
إن هذا الأثر النفسي للخذلان نجده واضحًا في حديث أم المؤمنين عائشة، حين سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، هل أَتى عليكَ يوم كان أشدَّ من يوم أُحُدٍ؟ فقال: لقد لقيتُ مِن قومكِ، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد يالِيلَ بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أَردتُ، فانطلقت وأَنا مهموم على وجهي، فلم أَستفق إلا بقرن الثعالب".
لقد كان الشعور بالخذلان أشدَّ على نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى من هزيمة أحد التي لحقت بالمسلمين، وحتى من جراحاته فيها. ولشدة تأثّره بهذا الخذلان لم يستفق من الصدمة النفسية حتى بلغ قرن الثعالب، أي إنه مشى أكثر من ستة وثلاثين ميلًا على الأقدام قبل أن يستفق من أثر تلك الصدمة.
ترك النصرة الإنسانية والسياسية لقضايا المسلمين خذلان، وإغلاق المعابر ومنع وصول المساعدات إليهم خذلان أشد، وتحميل المستضعفين المسؤولية عن جرائم عدوّهم بحقهم لمجرد مقاومتهم له أشد وأقسى
ثم إن للخذلان دركاتٍ متفاوتة وأوجهًا يتجلى من خلالها؛ فترك النصرة بحدِّ ذاته خذلان، ومنع وصولها من الآخرين خذلان أشد، ومحاربة المناصرين للمستضعفين والتضييق عليهم بالتهديد والتضييق والملاحقة أشد وأشد.. بل إن برود العاطفة واعتياد المجازر نوعٌ من الخذلان، والتقليل من قيمة هذه التضحيات – لأي سبب كان -ىخذلان أشد.
ومن صور الخذلان أيضًا ادعاء الحكمة بترك النصرة الواجبة.. فهذا خذلان، والتشنيع على المستضعف المظلوم خذلان أشد، والتهوين من آلامه وتشويه حقائق قضيته أشد وأشد.. كذلك فإنَّ ترك النصرة الإنسانية والسياسية لقضايا المسلمين خذلان، وإغلاق المعابر ومنع وصول المساعدات إليهم خذلان أشد، وتحميل المستضعفين المسؤولية عن جرائم عدوّهم بحقهم لمجرد مقاومتهم له أشد وأشد.. وأسوأ أنواعه أن يكون الخاذل قادرًا على النصرة، بل هي يسيرة عليه، ثم يُعرض عنها حسدًا أو تواطؤًا أو غيظًا..
خذلوك.. يا وجع الشعور، وبؤسهم ما ضرَّهم.. لو ناولوكِ فتيلًا..
لهذه المعاني وغيرها ندرك أبعاد قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حديث معاوية المتفق عليه: "لا يزال من أُمّتي أُمّة قائمة بأمر اللَّه، لا يضرّهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمْر اللَّه وهُمْ على ذلك"َ. فالنص لم يذكر أعداء هذه الأمة ولم يقل: "لا يضرّهم من عاداهم"!؛ فعداوتهم متوقعة، وقد أعدَّ لها القائمون بأمر لها ما استطاعوا، لكنه تجاوزهم إلى صنفين اثنين من داخل الصف المسلم؛ الخاذلين والمخالفين.
عاش القائمون بأمر الله في فلسطين وسوريا، وفي بيت المقدس وأكنافه، وفي الكثير من بلاد الإسلام هذا الخذلان مركبًا وملونًا، وقاسوا فيه مرارة تخلي القريب وكيد البعيد، لكن عزاءهم أنهم لا يضرّهم من خذلهم
فأمَّا الخاذلون، فهم الذين تركوا نصرة المستضعفين جحودًا أو تقصيرًا أو حسدًا، وأمّا المخالفون فهم الذين خذلوا المستضعفين لمخالفتهم في الاجتهاد التطبيقي أو الأسلوب التكتيكي أو الأولويات المرحلية، وكان الواجبَ في حقّهم القيام بنصرة إخوانهم في ساعة انتهاك حرمتهم والانتقاص من عرضهم، وتأجيل أي مخالفة أو خلاف لما بعد صيانة بيضة المسلمين وحماية أعراضهم.
لقد عاش القائمون بأمر الله في فلسطين وسوريا، وفي بيت المقدس وأكنافه، وفي الكثير من بلاد الإسلام هذا الخذلان مركبًا وملونًا، وقاسوا فيه مرارة تخلّي القريب وكيد البعيد، لكن عزاءهم أنهم لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم، ما تمسكوا بأمر الله حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، لأنَّ أعمق حقائق الإيمان هي أنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا ويكرمهم بالنصر ما أخذوا بأسبابه ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغلُوبࣱ فَٱنتَصِر فَفَتَحنَا أَبوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءࣲ مُّنهَمِرࣲ﴾.
هنا تأمَّل هذا الدعاء السرمديَّ الذي فاضت به أشجان الحبيب المصطفى بعد خذلان ثقيف له، تأمّل كل كلمة فيه، وعشْه بقلب المخذول المتألم والمؤمن الواثق بموعود ربّه:
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى عدو يَتَجهَّمُني أم إلى صديق ملَّكْتَه أمري؟ إن لم تكن غضبانَ عليَّ فلا أُبالي، غير أن عافيتَك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلَحَ عليه أمر الدنيا والآخرة؛ من أن ينزل بي غضَبُك، أو يَحلَّ بي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.