في غزة، حيثُ أصبحت الحرب ضيفًا ثقيلًا لا يغادر، يدخل شهره الثاني عشر، تتلاشى ملامح المدينة، ويزداد الدمار اتساعًا، وكأن الأرض قد ألفت صوت الانفجارات ورائحة البارود. أرى الحجارة التي كانت تشكل يومًا ما بيوتًا دافئة تتناثر في كل مكان، فيما تتبدد الأرواح التي كانت مليئة بالحياة، وتبقى فقط أشباحها تتجوّل في الشوارع الخالية.
لكنني لست هنا فقط لأشاهد، بل جئتُ كرحّالة، أتنقل بين الأزقة التي كان الأطفال يلعبون فيها يومًا ما، وبين أطلال المنازل التي كانت تحتضن الأسر بحب وحنان. يلتقط بصري مناظر الدمار، لكن ما يشدني حقًا هو وجوه الناس، وخصوصًا الأطفال والأمهات الذين يبدو أن الحياة لم تترك لهم سوى بقايا من الصبر والأمل.. هؤلاء الذين يحملون على وجوههم قصصًا لا تروى بالكلمات، بل تنقشها العيون المتعبة.
الرحلة في غزة ليست مجرد رحلة بين الحطام والدمار، بل هي رحلة في أعماق النفس البشرية!. أرى في كل وجه التقيته انعكاسًا لمعركة أكبر من مجرد صراع على الأرض، إنها معركة من أجل البقاء
أمسك كاميرتي وأتجول بين الأزقة، أبحث عن تلك الوجوه التي تختزن داخلها حكايات العذاب والألم.. أرى أطفالًا يلعبون وسط الركام، بعيون مليئة بالبراءة التي لم يمحُها القصف بعد!. أقترب منهم، ألتقط لحظاتهم العابرة، وأتساءل: ما الذي يدور في عقولهم الصغيرة؟ كيف يتصورون المستقبل، إن كان لديهم أصلًا تصور له؟
الأمهات هنَّ القلب النابض لهذا المكان، أراهنَّ يحملنَ أطفالهنَّ بين أذرعهن، يمسحنَ عنهم غبار الحرب، ويروينَ لهم حكايات الأمل رغم القسوة التي تحيط بهم.
ومع كل يوم أقضيه هنا، أكتشف أن غزة ليست فقط مكانًا تتردد فيه أصداء الحرب، بل هي مرآة تعكس أعماق الروح البشرية. أجد في عيون هؤلاء الناس بريقًا لا يمكن لأي عدسة أن تلتقطه كاملًا، بريقًا يحمل في طياته الألم والتحدي، والإصرار على الحياة رغم كل شيء.
أجلس مع امرأة شابة، تخبرني كيف كانت تحلم بمستقبل مختلف.. كانت تتمنى أن ترى أطفالها يكبرون في بيت آمن، يلعبون في حديقة، يذهبون إلى المدرسة بسلام، لكن كل ذلك تبخّر مع أول انفجار هزَّ حيها. اليوم، تحمل بين يديها بقايا ما كانت تسميه حياتها.. ورغم كل هذا، تتحدث بحنان عن أطفالها، وكيف تحاول جاهدة أن تمنحهم شعورًا بالأمان وسط هذا الجحيم.
ألتقط صورة لطفل يجلس وحيدًا على أطلال منزله المدمر، ينظر إلى الأفق بعينين تحملان الكثير من الأسئلة، في عينيه خليط من الحيرة والخوف، لكنه يظل هناك جالسًا بثبات، وكأنه ينتظر شيئًا ما!. ربما ينتظر معجزة، أو ربما تعود به ذاكرته إلى زمن كان كل شيء فيه سليمًا.
وأحيانًا، تتسلل إلى ذهني خواطر عما سأفعله بكل هذه الصور، بكل هذه القصص التي جمعتها.. كيف يمكن أن أنقل للعالم ما رأيته هنا؟ كيف أصف الألم الذي يعتصر قلوب هؤلاء الناس؟ الكلمات والصور تبدو أحيانًا غير كافية، لكنني أعود لأذكّر نفسي بأنني رحّالة، وأن مهمتي هي أن أكون شاهدًا، أن أنقل الحقيقة كما هي، دون تجميل أو تزيين.
ما رأيته هنا يجعلني أؤمن بأن الحياة في غزة لن تموت. هناك دائمًا شعلة أمل صغيرة، تكاد لا تُرى، لكنها موجودة
الرحلة في غزة ليست مجرد رحلة بين الحطام والدمار، بل هي رحلة في أعماق النفس البشرية!. أرى في كل وجه التقيته انعكاسًا لمعركة أكبر من مجرد صراع على الأرض، إنها معركة من أجل البقاء، من أجل الحفاظ على إنسانيتنا في وجه القسوة التي لا تعرف الرحمة.
وحينما أستعد لمغادرة غزة، أعرف أنني لن أغادرها حقًا.. ستظل معي تلك الوجوه، تلك القصص، تلك اللحظات التي حملت فيها كاميرتي وشهدت ما لا يمكن نسيانه.. ستظل غزة في ذاكرتي، لا كمكان دمرته الحرب، بل كرمز للصمود والتحدي.
وأينما كنت، سأظل أروي للعالم قصص غزة.. سأروي عن الأمهات اللواتي ينثرن الحب وسط الخراب، عن الأطفال الذين يلعبون وسط الحطام وكأنهم يصنعون من بين الركام عالمًا خاصًا بهم، عالمًا يتحدون به قسوة الواقع، سأروي عن شعب لا يزال يرفض أن ينكسر، عن مدينة ترفض أن تموت رغم كل ما حدث لها.
وفي النهاية، ربما تكون الحرب قد استمرت أحد عشر شهرًا، وربما تستمر أكثر، لكن ما رأيته هنا يجعلني أؤمن بأن الحياة في غزة لن تموت. هناك دائمًا شعلة أمل صغيرة، تكاد لا تُرى، لكنها موجودة.. تُضيء طريق من يعيشون هنا.
هي الشعلة التي سأحملها معي، لأذكّر العالم بأن غزة ليست مجرد مدينة تحت الحصار، بل هي قصة صمود وإرادة، قصة شعب لن يتخلى عن حقه في الحياة، مهما كان الثمن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.