واحدة من المشكلات التي يواجهها علماء الاجتماع وأصحاب الرؤى النقدية عند دراستهم للإنسان هي ذاته، فذات الإنسان- وأقصد ذات الإنسان الفردية كهوية فردية – تتمتّع بالحرية الكاملة في الاختيار، وكذلك الإرادة في فعل ما تريده، وترك ما لا تريده.
فالإنسان يتفرد بالعقل، الذي يمنحه الوعي بكل ما يدور حوله وأيضًا في نفسه، لكن العقل قد يكون في حالة ثبات لا يعمل بشكل جيّد، وذلك عندما تسيطر اللذة على الإنسان، وبمعنى آخر فالمشكلة الحقيقية للإنسان هي عندما يكون تابعًا لغرائزه غير متبصّر في أفعاله.
الثقافة الاستهلاكية أثرت علينا بشكل كبير، وأفقدتنا القدرة على وعينا بذاتنا، والاستمتاع الحقيقي بالطبيعة من حولنا.. الحياة العصرية سريعة التغير انعكست على سيكولوجيتنا سلبًا؛ فجعلتنا نعيش في قلق وخوف من القادم والمجهول
وعندما نتحدث عن الغرائز لا نقصد بها الغرائز الجنسية والطعام؛ بل ظهرت في عصرنا الحالي أنواع أخرى من هذه الغرائز غير المسيطر عليها، مثل غريزة الامتلاك وغريزة الاستهلاك، وأصبح الإنسان يعيش ليستهلك كل ما في السوق ويقوم بتجربته وشرائه على الرغم من أن ما يشتريه ليس في حاجة له، ويمكن الاستغناء عنه، ولكن عقله المغطى بغرائزه يحثه للحصول على المزيد؛ ويربط بين حريته وذاته، وبين قدرته على الشراء؛ فأصبح للشراء لذة ومتعة تساويان متعة التلذذ بالطعام.
الإنسان غير الواعي لذاته الحقيقية، والذي تسيطر عليه غريزة الاستهلاك، يصاب أيضًا بغريزة الاقتناء، وهي واحدة من المشكلات العصرية المرتبطة بالمشكلة الأولى؛ فذات الإنسان تبحث عن ذاتيّتها وكينونتها فيما تمتلك، لكن سرعان ما تفقد هذه الممتلكات بريقها، أو يظهر الجديد فيضطر للحصول على مزيد من الممتلكات؛ فبدلًا من المنزل الواحد بغرض الاستقرار يمتلك سلسلة عقارات، ولكنه يجلس في بيت واحد. وربما- أكاد أجزم- في غرفته الخاصة لا يخرج منها. وقد يمتلك هذا أسطولًا من السيارات ولا يركب إلا سيارة واحدة، ودواليب من الملابس، ثم لا يرتدي إلا ثوبًا أو اثنين.
فالثقافة الاستهلاكية أثرت علينا بشكل كبير، وأفقدتنا القدرة على وعينا بذاتنا، والاستمتاع الحقيقي بالطبيعة من حولنا.. الحياة العصرية سريعة التغير انعكست على سيكولوجيتنا سلبًا؛ فجعلتنا نعيش في سرعتها، نعيش في قلق وخوف من القادم والمجهول، حتى عندما يريد بعضنا التحكم في نفسه فإنه يحاول التحكم فيها بمقياس الحياة العصرية، مثل: "أسرع طريقة لتنزيل الوزن في يومين" و"كيف نتعلم أربع لغات في أربع وعشرين ساعة؟"..
وتنشط مع ذلك عمليات التنحيف والتكميم، ونخاف حتى أن نفقد أعمارنا ونحن نبحث عن عمليات التجميل، وهكذا فإن حياتنا تقع بين ثقافة الاستهلاك وثقافة الامتلاك من ناحية، وبين السرعة والقلق من ناحية أخرى. والتماهي مع هذه الثقافات وهذه النوعية من الحياة يُضعف من إرادة الإنسان، ويُغرقه في التفكير الزائد والصراع النفسي والقلق.
عندما تتخلى عن شيء مثل تناول السكر بشراهة، أو تتخلص من إدمان تناول الوجبات السريعة التي تعتمد على الكم، ستكتشف أنه لم يحدث لك مكروه كما كان يصور لك عقلك
تجربتي في حل المشكلة
ما بين غرق العقل في ملذاته وصراعاته، والتفكير الزائد غير الواعي وبتلقائية، ثمة شعور ولحظات من السكون تأتي، ولكننا لا نُحسن التمسك بها ولا نسيطر عليها.. هذه ذاتنا الحقيقية التي تأتي لنا. ولا أخفي عليكم، فإنني كنت أعاني من كل هذا، ولكنني تمسّكت بهذا السكون، قررت ألا أفكر!. نعم، كان قرارًا صعبًا ما زلت أشعر بمدى صوابيته.. قد يضحك منّي البعض!
ما أقصده هو أن التفكير الزائد مشكلة كبيرة، حلها في أن تكون حاضرًا بكل حواسك في هذه اللحظة الآنية.. لا تفكر في مستقبل ولا ماضٍ، ولا تحاول حتى أن تقاوم الأفكار، فقط راقبها، وراقب معها أنفاسك وهي تدخل من أنفك وتملأ رئتيك ثم تخرج، لا يمكننا الوعي بذاتنا والسيطرة على أفكارنا بدون أن نتحكم فيها.. أنحن نفكر أم عقلنا يعمل وحده؟
الحقيقة أن إيقاف التفكير الزائد مؤلم في البداية، فحتى عندما تحاول أن تحافظ على حضورك، وتركز في تنفسك، ترطمك من جديد أمواج من الخواطر في عقلك، ستُشعرك بلذة كالعادة، ولكنها – كما قلنا – كلذة تناول الطعام، ويصبح إدمان التفكير مثل إدمان تناول الطعام.
وأثناء اتباعي هذه الطريقة لمنع التفكير الزائد، بدأ الوعي يزداد، وأصبحت مراقبًا لكل أفعالي وقراراتي، أصبحت أرى كل شيء برؤية جديدة ونظرة مختلفة، أحاول أن أعرف معنى ما يكمن في الأشياء وأهميتها بالنسبة لي، فكان من السهل عليّ إعادة برمجة عقلي من جديد، وامتلاك عادات إيجابية جديدة.
فكانت العادة الرئيسية الجديدة هي الصيام بهدف التخلي وضبط الشهوات وممارسة هواياتي.. علمني الصيام أنه يمكنني أن أمارس حياتي الطبيعية دون أن يؤثر عليّ إطلاقًا! يمكنني الذهاب إلى النادي وأن أعمل وأسافر، فقد كان عقلي على خطأ عندما كان يصور لي أنني سأموت إذا لم أحصل على قطعة حلوى للطاقة، كانت برمجيات سلبية، واتضح أنه يمكنني الاستغناء عن أي شيء كان عقلي يعتقد أنه لا يمكن الاستغناء عنه ويربط ذاتي به.
فعندما تتخلى عن شيء مثل تناول السكر بشراهة، أو تتخلص من إدمان تناول الوجبات السريعة التي تعتمد على الكم، ستكتشف أنه لم يحدث لك مكروه كما كان يصور لك عقلك.
عندما تغطي شهوة الإنفاق عقولنا علينا أن نراقب أفعالنا وأفكارنا فنعرف إلى أين توجهنا؛ فذاتنا الواعية العاقلة هي التي توجهنا، وليست أفكارنا السلبية غير الواعية
العادة الثانية.. الانضباط والتخلي
إن ضبط شهوة الطعام والالتزام بنظام غذائي قادر على أن يضبط كل شيء في حياتك، يجعلك قادرًا على بناء شخصية قوية لا تؤثر فيها أي مغريات، ومن يتحكم في شهواته قادر على أن يضبط حياته ويجعلها تسير بالطريقة التي يريدها.. أتذكر كمَّ اللحظات التي كنت أرفص فيها قطعة من الحلوى لالتزامي بالنظام الغذائي لأتجهز لبطولة في رياضة كمال الأجسام، قد تجد كمًّا من الإغراءات التي حولك، والدعوات لتناول قطعة من الحلوى الصغيرة التي لا تؤثر، ولكني كنت أكثر صمودًا وإصرارًا.
هذا الرفض كان جزءًا من بناء الشخصية القوية، هو قدرتك على الرفض أو القبول!. وقول "لا" يبدأ من الالتزام والانضباط بشهواتك، حتى تصل إلى مرحلة تتغير فيها رؤيتك للطعام، وكذلك يدرك حسك الذوقي أن كل هذه الأطعمة السريعة لها مذاق سيئ! وتظهر قوتك الحقيقية في شرائك لما تحب لتُسعد به غيرك لا لتتناوله أنت! ومن ثم ستصبح شخصيتك أقوى.
وفي الختام أقول: إنّ الشخص الذي يستطيع أن يسيطر على حياته بضبطه شهوتَه، ومراقبة أفعاله بشكل ذاتي، هو الشخص الذي يستطيع أن يحقق ما يريد وما يصبو إليه فقط، وثقافة الاستهلاك نهى عنها سيدنا عمر بن الخطاب، حينما قال لجابر: "أو كلما اشتهيت اشتريت؟".. فعندما تغطي شهوة الإنفاق عقولنا علينا أن نراقب أفعالنا وأفكارنا فنعرف إلى أين توجهنا؛ فذاتنا الواعية العاقلة هي التي توجهنا، وليست أفكارنا السلبية غير الواعية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.