دائمًا ما كنت أبحث في معاني الكلمات كمن يغوص في بحر من الأسرار، لا يسعى إلا إلى أن يقبض على جوهرها الخفي، فإذا هي بين يدَيه كنوزٌ من المعاني تضيء ظلمة الروح وتنفذ إلى أعماق القلب.
الكلمات عندي ليست جملًا تُلقى كما تلقى الحجارة في الماء، بل هي أرواح تتنفس، وتتجلى في النفس كما تتجلى الشمس في نور الصباح، وليست مجرد حروف تُجمع لتكوّن معنى، بل هي كائنات حيّة تنبض بمكنوناتها، تحاكي أرواحنا في لحظات الفرح والحزن.. غير أنه ثمة كلمة من بين كل تلك الكلمات، تحمل في طياتها ثقلًا لا يُحتمل، تتردد على ألسنة من عايشوا الغياب، فيشعرون بها كجرح غائر في الصدر، وكغصة عالقة في الحلق.. إنها الفقد.
لم يكن الفقد يومًا مجرد غياب بسيط فحسب، كان ولا يزال مساحة شاسعة من فراغ يكبر وينمو كوحش جائع دون أن يسد جوعَه شيء. كل الأشياء من حولك ظلال باهتة، وكل التفاصيل كأطياف من الذكرى لا تكاد تلمسها حتى تتلاشى بين يديك
ليس الفقد مجرد غياب شيء أو شخص ما فحسب، بل هو انكسار في صميم الروح، كما ينكسر الزجاج فيتناثر كالشظايا.. هو ذلك الشعور الخفي الذي يطبق على الصدر في الليالي الطويلة، حيث لا صوت إلا همس الريح العابرة، ولا ظل إلا شبح الذكريات البعيدة التي تهيم حول النفس كطائر حزين يبحث عن مأوى! إنه ذلك السهم الذي يطلقه القدر في لحظة بلا رحمة، فيمزق نسيج القلب، ويترك فيه فراغًا هائلًا لا يمتلئ أبدًا.
وكيف يكون الغياب إلا كالجبل الذي يقفُ في طريق المرء، يثقل خطواته ويمنعه من رؤية ما وراءه، كأنما الحياة بعده تصبح طريقًا مهجورة تكتنفها الأشواك، وتخيم عليها ظلال لا تبصر لها نهاية. كل لحظة كانت تملؤها البهجة، تتحول إلى ذكرى باهتة، والروح المسكينة تظلّ تسير في دروب الحياة مثقلة بهذا الحمل.
لم يكن الفقد يومًا مجرد غياب بسيط فحسب، كان ولا يزال مساحة شاسعة من فراغ يكبر وينمو كوحش جائع دون أن يسد جوعَه شيء. كل الأشياء من حولك ظلال باهتة، وكل التفاصيل كأطياف من الذكرى لا تكاد تلمسها حتى تتلاشى بين يديك.. إنه شعور بالوحدة في حضرة الجميع، لا شيء مبهرًا، لا شيء صارخًا، لا شيء لافتًا، لا شيء مكتملًا، وكأنها الرغبة في العودة إلى ما لا يمكن استرجاعه، وكأننا نحاول عبثًا أن نجد في وجوههم بقايا ذلك الوجه الذي غاب، أن نعيد عقارب الزمن إلى الوراء، أن نمسك بأطراف الحديث الذي انقطع، فنظلّ نطارد أصداء أصواتهم في فضاء الذاكرة، ونعانق خيالهم في الأحلام، ولكنهم يبقون بعيدين.. بعيدين كمسافة السماء عن الأرض.
الفقد هو أن تشعر وكأن الزمان قد توقف في لحظة ما، تلك اللحظة التي عايشتَ فيها كل شيء، ثم انقلب كل ما عايشتَه إلى سراب.. هو أن تتسرب الذكريات إلى ذاكرتك كما يتسرب الماء من إناء مثقوب، تحاول جمعها ولكنها تنفلت من بين أصابعك، وكلما ازددت حرصًا عليها، ازداد ابتعادها، حتى تجد نفسك في النهاية أمام فراغ واسع، أوسع من أن يُملأ بشيء.
يا لفداحة الفقد حين ينزل بساحتنا كأنه ليلة حالكة السواد تغشى القلب، لا ضياء فيها إلا بقايا أنجم كانت تزهر في سماء الأمس! ويا لحسرة هذا القلب حين يتخبط بلا مجيب، يدّعي الصلابة والخدوش تحيط به! ثم كيف يكون حزن الفقد نبيلًا، وهو الذي يلتهم الفؤادَ شيئًا فشيئًا، ولكنه لا يموت، يبقى ليذكرك بكل ما كان ولم يعد؟!..
كان الفراق ولا يزال سنّة الحياة التي لا تبديل لها، وكأن كل لحظة نعيشها هي استعداد لوداع قادم لا محالة، منذ أن نُلقى في هذا العالم، ونحن نخوض رحلة من اللقاءات وأخرى من التوديعات، كسلسلة من الفصول المتعاقبة
ولأن شعور الدفء يأتي من الداخل عادة، فإن الفقد يتولى مهمة حرمانك من معطف يقيك برد ليالٍ خالية من المفقود، يجعلك تتأمل أيامًا قادمة بدونه لن تكون فيها كما كنت، فتصبح أنت المشفق على نفسك، على ذلك الشخص الذي كنت يومًا ما قبل أن يبتلعك الفراغ، وتصبح كيانًا من ذكريات اختارت أن تقيم حفلًا صاخبًا في عقلك على شرف أحزانك.
كان الفراق ولا يزال سنّة الحياة التي لا تبديل لها، وكأن كل لحظة نعيشها هي استعداد لوداع قادم لا محالة، منذ أن نُلقى في هذا العالم، ونحن نخوض رحلة من اللقاءات وأخرى من التوديعات، كسلسلة من الفصول المتعاقبة.. حدثني عن فقدان الأحلام التي سعينا لتحقيقها بلا جدوى، فإذ بها تتبدد كالغبار في مهبّ الريح، عن انهيار الآمال التي رسمنا خطواتها أمام سد الواقع الأليم، عن فقد الأوطان، عن فقد الصحب، عن ابتعاد النفس عن ذاتها في دُوامة الحياة.. ألا يبدو الحديث عن كل هذا قاسيًا؟
ما زلت أذكر كيف احتضنت تلك السيدة الدانماركية دموعها عندما حدثتها عن هوايتي الجديدة المتعلقة بالتراسل البريدي، فأخبرتني أنها تحتفظ برسائل كثيرة من ابنها الذي توفي، بدا لي الأمر مهيبًا، غير أنها أردفت بالقول إنها لا تتجرأ على إعادة فتح تلك الرسائل وقراءتها حتى في أكثر لحظاتها اشتياقًا لأن قلبها لا يحتمل.
فيا أيها الفقد، يا من تهب الحياةَ معنى بعد معناها، وتكشف عن روح جديدة بعد كل فراق، من أين لك هذه القدرة على أن تزرع في القلب حزنًا لا ينقضي، وفي العقل فِكَرًا لا تهدأ؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.