أينما ذهبت في بلداننا الشرقية، في القطار، في الحافلة، في الحديقة، في قاعة انتظار الطبيب، وأحيانًا حتى في مكاتب العمل، تلاحظ أنّ المشاهد ذاتها تتكرر، ولكن مع بعض الاختلافات البسيطة في التفاصيل.. يُخرج شخص ما هاتفه، يشغله بدون سمّاعات، ويفرض على كل من حوله الاستماع لما يسمعه، قد تكون محاضرة في الدين، أو مقابلة بشأن كرة القدم أو أغنية.
كل فرد يبدو وكأنّه لا يقيم أي اعتبار للآخرين، يحاول إقناع نفسه أنه هو محور الوجود، أو أنه على الأقل جزء من نواة ذلك المحور! وعند محاولة دراسة أسباب ذلك نتوصل إلى الأسباب المعروفة الظاهرة "apparentes"، التي تتمثل في التعليم والإعلام والفكر الديني وغيرها، لكنّ هناك سببًا مهمًا لا ينتبه له أغلب المختصين..
محاولة تجاهل الآخر وبناء سد دفاع أمامه تُثبت في الحقيقة أن هذا الآخر يبقى دائمًا موجودًا، يتربص ويتحين الفرصة للانقضاض من أجل زرع أفكاره التي ترتكز على منطق يمكنه التلاعب بالعقول
الحقيقة أنّ الفرد الشرقي يدرك بطريقة ما – ربما بلاوعيه – أنه يحمل في أعماقه ضعفًا في المعارف النظرية المجردة التي ترتكز على المنطق، وعلى رأسها الفلسفة التي بقيت في نظر الفرد الشرقي مجرد وسيلة للتلاعب بالعقول، ومجرد أداة لإقناع من يضعفون وتغريهم أنفسهم بالاستمتاع بالفكرة وبعكسها، على طريقة السفسطائيين في أثينا القديمة. وللوقوف أمام هذه الأخطار توصل الفرد الشرقي إلى وسيلة دفاع فعّالة في نظره.
كل ما عليه فعله لمحاربة الآخر الذي يمكن أن يتحول في أية لحظة إلى عدو هو تجاهله، والتصرف وكأنه غير موجود حتى لا يتمكن من التأثير فيه، عليه أن يتجنب قراءة ما يكتبه هذا الآخر إلا بتوصية ممن يثق فيهم، عندما يتكلم عليه أن يتكلم بصوت مرتفع حتى لا يسمح لنفسه بسماع ما يقوله الآخر، فيتجنب ما يمكن أن يشكله ذلك من خطر عليه بسبب ضعف منطقه، عليه أن يشغّل الهاتف بصوت مرتفع، عليه أن يعاند وألا يسمح لأحد بالتأثير على تفكيره. وعند أي حديث عليه ألا يستمع لما يقوله الآخر، إنما يصمت ويفكر فيما يقوله عندما يتوقف الآخر عن الكلام.
لكن محاولة تجاهل الآخر وبناء سد دفاع أمامه تُثبت في الحقيقة أن هذا الآخر يبقى دائمًا موجودًا، يتربص ويتحين الفرصة للانقضاض من أجل زرع أفكاره التي ترتكز على منطق يمكنه التلاعب بالعقول، لهذا لجأ الفرد الشرقي إلى حل قديم بقي يتجدد مع العصور.
يجب على النخبة في نظري كسر حاجز الخوف من المنطق والعقل والفلسفة لبناء أساسات متينة، تتمثل في الأفراد البسطاء الذين يمكنهم أن يشكلوا القوة الحقيقية لأية أمة
عليه أن يضع كل ثقته وكل آماله في يد شخص ما يتميز بالقوة، بالشجاعة، بمعارف متنوعة وبذكاء خارق، ويجب أن يكون وطنيًا مستعدًا لمحاربة أفكار الآخرين، إنه الزعيم الذي يحق له سماع أفكار الآخرين، والاطلاع على نظرياتهم من أجل محاربتها؛ لأنه قوي ومحصن، بعكس الفرد البسيط الذي يعرف في قرارة نفسه أنه هش وضعيف، عليه أيضًا أن يُحمِّل رجل الدين الذي يثق فيه مسؤولية تحديد ما يسمح به في الاطلاع على أفكار الآخرين، وما لا يسمح به ويُعتبر حرامًا. لكن هناك مشكلة في كيفية اختيار الزعيم ورجل الدين.
كل ما على الفرد الشرقي فعله هو ترك الأمر للصدف وللقضاء والقدر، قد يكون ذلك عن طريق الانقلاب، أو الثورة أو الانتخابات الانتقائية التي تحدد نتائجها مسبقًا؟ لكن.. ألا يمكن أن تكون قوة الزعيم مجرد وهم من صنع الفرد البسيط، الذي فقد الثقة في نفسه بعد عدة قرون من الهزائم؟
يجب على النخبة في نظري كسر حاجز الخوف من المنطق والعقل والفلسفة لبناء أساسات متينة، تتمثل في الأفراد البسطاء الذين يمكنهم أن يشكلوا القوة الحقيقية لأية أمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.