بات معلومًا أن الحركات الصهيونية ضالعة في الاغتيالات السياسية، منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل وبعدها، وذلك لأسباب كثيرة ومختلفة، لكنها جميعًا تتلخص في "إنهاء الخطر القائم أو المحتمل" على مشروعهم الاستيطاني.
ويستوي عندهم في ذلك الأمر أن يكون التهديد من طرفٍ ناشط شيوعي أو ليبرالي، مسلمٍ أو مسيحي، بل وحتى يهودي، من أمثال الكاتب الهولندي يعقوب دي هان، الذي اغتالته الهاغانا في القدس، بسبب اتّصالاته بالعرب، ومعارضته قيام الدولة الصهيونيّة، وذلك في 30 يونيو/حزيران من سنة 1924.
إذن، مائة سنة من الاغتيالات الصهيونية تعطينا تصورًا حول عقيدة الخوف، وذلك رغم قوة سلاحهم المادي، التي تدفع بهم إلى ضرب عدوهم بكل عنف لكي لا يقوم مرة أخرى لمواجهتهم. وإزاء ذلك يمكن تركيز عناصر الاغتيال السياسي في ثلاثة أبعاد، هي: المكان، والزمان، والعلة أو الذريعة؛ وهي التي سنؤسس عليها لكي نجيب عن السؤال في العنوان أعلاه.
رغم آلاف الأطنان من القنابل والخراب الكامل لقطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإن المقاومة ما تزال قوية، وتحقق انتصارات نوعية على الأرض. وهذا يؤكد لدولة إسرائيل ومن يسندونها أن إنهاء الحرب بشكل نهائي، أو من خلال هدنة طويلة، ليس له من نتائج سوى تأكيد انتصار المقاومة
شرط المكان
يتسرع الملاحِظُ المستعجِل، ويتجاوز جميع الشروط، فيتساءل عن أبعاد المكان، لماذا اغتالوا القائد هنية في طهران؟ ولماذا لا تستطيع إيران حماية ضيوفها؟ وبعضهم تدفعه الأحكام المسبقة لاتهامات مُجانبة لكل عقل ومنطق وحكمة.
وأما دولة الاحتلال، فعندما يكون عدوّهم يحمل خطرًا فنيًا وتقنيًا أو تنظيميًا (العلة) يضعونه على لائحة الاغتيال حسب خطورته والأولوية لذلك، ولا يمثل الزمان والمكان سوى متغيرات تحقق لهم الهدف، بشرط ألا تكون له ارتدادات كبيرة. ونذكر على سبيل المثال الاغتيالات الكثيرة والفادحة، منذ عقود طويلة، لقادة فتح والفصائل الأخرى في الداخل الفلسطينيّ، أو في بيروت، وجنوب لبنان، وروما، وقبرص، ونيقوسيا، وتونس.
شرط العلة
وأما بخصوص مكان جريمتهم ضد القائد هنية، فالأمر يحتاج إلى العناصر الأخرى لكي نفهم الزمان والمكان جيدًا؛ حيث لا تختلف علة اغتيال القائد هنية عن سياقها، فهي الذريعة نفسها التي تبرّر بها إسرائيل ارتكاب مئات المجازر منذ أكثر من 300 يوم بشكل متواصل:
- ضربة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما صاحبها من تهييج ضد المقاومة.
- التأكّد من أن قادة حماس أضحوا يشكّلون حلفًا إستراتيجيًا مع إيران.
- قيام محكمة الجنائية الدولية بتوجيه صكّ الاتهام ضد إسماعيل هنية إلى جانب نتنياهو.
- هذا الأخير جدد له الكونغريس الأميركي الحماية والدعم المطلق لكل الجرائم السابقة، والتي ستأتي لاحقًا.
باستثناء إيران، لا يمكن لأية دولة عربية أو غربية أن ترد بقوة عسكرية على اغتيال رئيس حماس على أرضها.. لذلك فعلوها على أرض إيران
شرط الزمان
رغم آلاف الأطنان من القنابل والخراب الكامل لقطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإن المقاومة ما تزال قوية، وتحقق انتصارات نوعية على الأرض. وهذا يؤكد لدولة إسرائيل ومن يسندونها أن إنهاء الحرب بشكل نهائي، أو من خلال هدنة طويلة، ليس له من نتائج سوى تأكيد انتصار المقاومة، واستغلال الهدنة في ترميم بِنيتها وتجديد سلاحها.
فالزمان هنا ليس في صالح دولة الاحتلال عسكريًا، ولا في صالح حكومة الاحتلال سياسيًا، لأن رئيس وزرائها تنتظره متابعات بعد الحرب وينتظره الحساب داخليًا وخارجيًا. لذلك فشرط الزمان يدفع إلى استمرار الحرب لأسباب أخرى منها:
- الجميع تأكدوا أن محور المقاومة بات لاعبًا قويًا في منطقة الشرق الأوسط، وباتت ضرباته منسقة ونوعية وبالغة الأثر، كما تأكدوا أن قلب المحور هو إيران.. فلماذا الانشغال بالأطراف، والمركز معروف؟
- تأكدوا كذلك أن تغيير الخط السياسي لدولة الثورة، والحرس الثوري وولاية المرشد الأعلى، لا يمكن أن يأتي من المجتمع بإزاء الانتخابات، ولو جاءت سابقة لأوانها كما الأخيرة.
- كما أن شعوب المنطقة، خلال الظرفية الحالية، باتت بدون قدرة على الحركة والحشد بسبب السيطرة الأمنية عليها.
- تأكدوا أن الحياة السياسية الأميركية ستدخل في طوفان اللوبيات الداخلية للوصول إلى المكتب البيضاوي.
- كما أنه باستثناء إيران، لا يمكن لأية دولة عربية أو غربية أن ترد بقوة عسكرية على اغتيال رئيس حماس على أرضها.. لذلك فعلوها على أرض إيران.
من يضمن ألا تكون الحرب على إيران ذات مفعول عكسي على شعوب المنطقة بكاملها؟ وهل توقظ أجراس الحرب الجديدة من أصموا آذانهم عن معاناة أهل غزة التي تنفطر لها القلوب؟
خلاصة
هذا هو الجواب عن اختيار المكان، لماذا في طهران؟ لأنّ الهدف هو جرّ إيران إلى الحرب التي يشارك فيها حلف إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وإيران بين خيارين، كل واحد منهما أصعب من الآخر؛ فهي تدرك أن هيبتها العسكرية على المحك وتزداد تدنّيًا كلما كان ردها على الاختراق الإسرائيلي ضعيفًا ورمزيًّا؛ كما تدرك أن الرد القوي على اغتيال إسماعيل هنية سيكون بمثابة القشّة التي تطلق المارد الأميركي لدخول الحرب بدعوى حماية إسرائيل من الخطر الوجودي.
وحافزهم في ذلك كل ما تم سرده في العناصر أعلاه، إضافة إلى أنهم يعلمون أن المتغيرات الحالية لن تتكرر في المدى القريب، قبل استكمال إيران مشروعها النووي، لكي يجدوا ذرائع وظروفًا زمكانية مناسبة لضربها.
لكن السؤال المركزي المبهَم هو: من يضمن ألا تكون الحرب على إيران ذات مفعول عكسي على شعوب المنطقة بكاملها؟ وهل توقظ أجراس الحرب الجديدة من أصموا آذانهم عن معاناة أهل غزة التي تنفطر لها القلوب؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.