شعار قسم مدونات

الرواقية والضغوط وعالمنا المتسارع

يشدد الفكر الرواقي على أهمية العيش في اللحظة الحالية بدلًا من الانغماس في مخاوف المستقبل أو الندم على الماضي (شترستوك)

في عالمنا ذي النمط المتسارع والتغيرات المتلاحقة، يعاني الكثيرون من القلق والخوف من المستقبل. يفرض علينا التقدم التكنولوجي والضغوط الاجتماعية والاقتصادية تحديات يومية تجعل من الصعب الحفاظ على التوازن النفسي. هذه الظروف تؤدي إلى شعور متزايد بالعزلة والقلق بشأن ما يحمله المستقبل. في هذا السياق، يمكن أن يكون للفكر الرواقي دورٌ حاسم في تعزيز القوة النفسية والهدوء الداخلي.

التقبل هو أحد الأركان الأساسية للفكر الرواقي. يعلمنا الرواقيون أن نقبل الواقع كما هو، بدلًا من مقاومته أو الشكوى منه

التحكم في الأفكار والمشاعر

أحد المبادئ الأساسية للفكر الرواقي هو التفريق بين ما يمكننا التحكم فيه وما لا يمكننا التحكم فيه. الرواقيون يؤكدون أن الكثير من القلق والخوف ينبعان من محاولتنا السيطرة على أمور خارج نطاق سيطرتنا. يقول الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس: "ليس ما يحدث لك، بل كيف تتفاعل معه هو ما يهم". ويقول مونيموس الكلبي: "كل شيءٍ هو كما يريده الفكر أن يكون" عندما ندرك أن هناك أمورًا لا يمكننا تغييرها، نحرر أنفسنا من عبء القلق المرتبط بها، ونعمل على توجيه طاقتنا نحو ما يمكننا فعله بالفعل، مما يقلل من التوتر والضغط.

العيش في اللحظة الحالية

يشدد الفكر الرواقي على أهمية العيش في اللحظة الحالية، بدلًا من الانغماس في مخاوف المستقبل أو الندم على الماضي. ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الرواقي، قال: "ذكّر نفسك كل صباح أن الوقت الوحيد الذي تملكه هو الحاضر". التركيز على اللحظة الراهنة يمكن أن يكون أداة فعالة لتقليل القلق؛ لأنه يبعد عقولنا عن السيناريوهات المستقبلية التي لا يمكن التنبؤ بها أو التحكم فيها. بهذه الطريقة، يمكننا الاستمتاع بالحاضر وتقدير ما لدينا الآن.

قبول الواقع

التقبل هو أحد الأركان الأساسية للفكر الرواقي. يعلمنا الرواقيون أن نقبل الواقع كما هو، بدلًا من مقاومته أو الشكوى منه. سينيكا، الفيلسوف الرواقي، قال: "الرجل الحكيم يتكيف مع الظروف، كما يتكيف الماء مع الإناء الذي يحويه". هذا القبول يمكن أن يكون له تأثير مهدئ على القلق والخوف؛ لأنه يعلمنا كيفية التعايش مع ما هو موجود بدلًا من التمني لواقع مختلف. بالتالي، يمكن أن يساعدنا هذا في تحقيق السلام الداخلي والاستقرار النفسي.

قد يشعر الإنسان بالعزلة نتيجةً للضغوط الاجتماعية أو الشعور بالانفصال عن الآخرين. الفكر الرواقي يقدم أدوات للتعامل مع هذه العزلة من خلال تعزيز الشعور بالاستقلالية العاطفية والفكرية

العمل على تحسين الذات

يشجع الفكر الرواقي على التركيز على تحسين الذات بدلًا من محاولة تغيير العالم الخارجي. يقول إبكتيتوس: "إذا كنت ترغب في تحسين نفسك، لا تنتظر أن تتغير الظروف، بل ابدأ بتحسين ما يمكنك التحكم فيه – نفسك". بالعمل على تحسين ردود أفعالنا الداخلية وتطوير فضائلنا، يمكننا بناء قوة داخلية تساعدنا في مواجهة التحديات الخارجية بصلابة وثقة. هذا النهج يمكن أن يكون مفتاحًا لتحقيق التوازن النفسي والتغلب على القلق والخوف.

إعلان

مواجهة العزلة والانطواء

في بعض الأحيان، قد يشعر الإنسان بالعزلة نتيجةً للضغوط الاجتماعية أو الشعور بالانفصال عن الآخرين. الفكر الرواقي يقدم أدوات للتعامل مع هذه العزلة من خلال تعزيز الشعور بالاستقلالية العاطفية والفكرية. ماركوس أوريليوس يقول: "أنت تستطيع أن تنسحب إلى داخل نفسك في أي وقت، لأنه لا يوجد مكان أكثر هدوءًا من نفسك".

يمكن أن يكون هذا الشعور بالاستقلالية مريحًا، لأنه يساعد في تقليل الاعتماد العاطفي على الآخرين، ويوفر للإنسان مصدرًا داخليًا للراحة والثبات، ويقول ماركوس أيضًا: "إنني أصحو من نومي لكي أؤدِّي عملي كإنسان، أما زلتُ كارهًا أن أذهب لكي أؤدِّي ما خُلِقتُ من أجله وما وُجِدتُ في العالم لكي أُؤدِّيه؟".

وهو ما يبرز نقطة مهمة في الفكر الرواقي وهي أن "الماجريات" لا تؤثر في عقل الرواقي إذا كانت أفعاله لا تؤثر فيها فهو يسير في وفاق مع طبيعته ويبحث عن الأشياء التي بيده تغييرها ويغيرها لما هو أفضل بصفته إنسانًا خُلق لعمارة هذه الأرض.

سلامك النفسي هو سلاحك الذي تقهر به كل ما يواجهك، وتذكر أيضًا أن الدنيا جُعلت هكذا لا بد فيها من يأس وأمل وخوف ورجاء. لا بد لنا من أن نتقبلها على حقيقتها ونستمر في السير، فما يعيق الطريق يصبح هو الطريق

الاستفادة من التأمل والتفكير

يستخدم الرواقيون التأمل والتفكير كأدوات لتطوير الحكم الجيد والهدوء الداخلي. ماركوس أوريليوس كان يدعو إلى "التفكر في الذات يوميًا لمعرفة أين يمكن التحسين". من خلال التأمل اليومي في القيم والأفعال، يمكننا بناء إطار ذهني قوي يساعدنا في مواجهة المخاوف والقلق بطريقة بناءة. هذه الممارسة يمكن أن تكون وسيلة فعالة لتعزيز السلام الداخلي وتحقيق الاستقرار النفسي.

من خلال هذه المبادئ يقدم الفكر الرواقي مجموعة قوية من الأدوات النفسية والفلسفية لمواجهة القلق والخوف من المستقبل والشعور بالعزلة. من خلال تطوير القدرة على التحكم في أفكارنا ومشاعرنا، والعيش في اللحظة الراهنة، وقبول الواقع، والتركيز على تحسين الذات، يمكننا بناء قوة داخلية تساعدنا في مواجهة تحديات الحياة بثقة وهدوء. في عالمنا المتسارع، يمكن أن يكون للفكر الرواقي دور حاسم في تحقيق التوازن النفسي والاستقرار الداخلي.

في النّهاية، تذكر، عزيزي القارئ، أن سلامك النفسي هو سلاحك الذي تقهر به كل ما يواجهك، وتذكر أيضًا أن الدنيا جُعلت هكذا لا بد فيها من يأس وأمل وخوف ورجاء. لا بد لنا من أن نتقبلها على حقيقتها ونستمر في السير، فما يعيق الطريق يصبح هو الطريق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان