ما أكثر النقاشات التي نخوضها في حياتنا، فلا يكاد يمرُّ على أحدنا يومٌ دون أن يكون طرفًا مشاركًا أو على الأقل حاضرًا أو مشاهدًا لنقاش ما، ويبقى العامل المشترك بين أغلب هذه النقاشات هو أنها تبدأ نقاشات ثم تنتهي إلى جدل عقيم لا تكاد تخرج منه بثمرة نافعة إلا في أدنى الحدود، وأحيانًا تحت سيف الضرورة القصوى فقط، حين لا يكون هناك مفرٌ من التوافق على شيء ما؛ كي تستمر عجلة الحياة في الدوران.
الطريف هنا فعلًا أننا دومًا نبدأ بنية النقاش الهادئ البناء ولكننا ننتهي في أغلب الأحيان إلى الجدل المحتدم دون أن نلحظ تلك النقطة التي تحول فيها الأمر من نقاش مدني سلمي متحضر إلى جدل مُسلحٍ مشتعل تقف حتى الأمم المتحدة عاجزة أمامه
في المنزل، وفي العمل، وفي المدرسة، وفي الشارع، وعلى شاشة التلفاز، وطبعًا على وسائل التواصل الاجتماعي.. نقاشات مستمرة تنتهي بك دومًا وأنت تشعر أنها كانت حلقة أخرى من برنامج الاتجاه المعاكس لا ينقصها إلا أن ترى الأستاذ فيصل القاسم هنا أو هناك يفصل بين المتناقشين أو المتجادلين بتعبير أدق.
ولكن إذا كان الأستاذ فيصل يؤدي دوره كإعلامي يحاورُ وينكأ الجراح ليبحث عن الحقيقة في الهفوات هنا وهناك أثناء الجدال، أو حتى يمارس إثارة الجدل كهواية على وسائل التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر، فلماذا يجب أن نحول أنا وأنت حياتنا كلها إلى سلسلة لا تنتهي من الاتجاه المعاكس؟!
والطريف هنا فعلًا أننا دومًا نبدأ بنية النقاش الهادئ البناء ولكننا ننتهي في أغلب الأحيان إلى الجدل المحتدم دون أن نلحظ تلك النقطة التي تحول فيها الأمر من نقاش مدني سلمي متحضر إلى جدل مُسلحٍ مشتعل تقف حتى الأمم المتحدة عاجزة أمامه.
إنني لا أبالغ كثيرًا هنا، فإن شئت الحقيقة الكاملة فإن أغلب النزاعات المسلحة في العالم ما هي إلا شكل عنيف من أشكال الجدال بعد أن تعبر الأطراف نفس تلك النقطة التي يتحول فيها النقاش المتحضر إلى جدال عقيم لا تحسمه إلا القوة أو الفصل بين المتحاربين.
- فما هو ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين النقاش والجدل؟
إن الطريق إلى الحوار المثمر الذي يخرج الجميع منه بنتائج مفيدة حتى وإن لم تكن النتيجة اتفاقًا بينهم في الرأي يبدأ من الاحترام المتبادل ثم الفهم المتبادل. وكلاهما يبدأ من الذات أولًا ثم يمتد للآخر تاليًا. والنقطة التي تتحطم عندها هذه الأبجديات، هي اللحظة التي تظهر فيها آفة الشخصنة وآفة التماهي مع الرأي، وكلتا العلتين وجهان لعملة واحدة، هي انعدام التمييز بين ذوات الأفراد وآرائهم.
الشخصنة من طرف تقود إلى التماهي مع الرأي من الطرف الآخر والعكس صحيح.. فحين يخلط المرأُ بين رأيه وذاته ولا يتمكن من تمييز الحد الفاصل بينهما فإنه يَعدُّ كل معارضة لرأيه هجومًا على ذاته يستوجب الدفاع باستماتةٍ عن الرأي وعن ذاته في نفس الوقت
ففي الشخصنة يخلط المهاجم أو المعارض لرأي ما بين الرأي وصاحبه فتراه بدلًا من أن ينتقد الرأي بذاته يهاجم الشخص نفسه ولو بشكل غير مباشر من طريق التعريض واللمز، والبعض يتخطى ذلك إلى الهجوم المباشر الصريح. وتكون ردة الفعل الطبيعية أن يتولد عند صاحب الرأي محل الهجوم رغبة في الدفاع عن شخصه إما بتفنيد التهمة المنسوبة لذاته أو بإقامة حاجز دفاعي من التماهي بينه وبين رأيه يجعله يصر على الذود والدفاع عن رأيه.
حتى وإن أدرك في لحظة ما أنه مخطئ، فإنه سيواصل القتال لأنه بدلًا من مجرد التصدي للهجوم على آرائه فإن الأمر هنا صار هجومًا على ذاته نفسها، وهنا تصبح ذاته ورأيه في ذهنه أمرين مترادفين سقوط أحدهما يستدعي في عقله سقوط الآخر بالضرورة، إنه الآن يتصدى لهجوم مباشر على ذاته ولتهديد مفترض لكيانه تتضاءل أمامه غريزيًا أهمية التواصل أو البحث عن الحقيقة.
إن الشخصنة من طرف تقود إلى التماهي مع الرأي من الطرف الآخر والعكس صحيح.. فحين يخلط المرأُ بين رأيه وذاته ولا يتمكن من تمييز الحد الفاصل بينهما فإنه يَعدُّ كل معارضة لرأيه هجومًا على ذاته يستوجب الدفاع باستماتةٍ عن الرأي وعن ذاته في نفس الوقت، ويفترض جدلًا في اللاوعي أن الدفاع يقتضي الهجوم على شخص الطرف المقابل بدلًا من مقارعة الحجة بالحجة في الرأي موضوع الخلاف، مما يؤدي إلى تفعيل الآليات الدفاعية عند الطرف الآخر، وهلم جرًا تستمر دوامة الشخصنة والتماهي والجدل العقيم الذي ينتهي إلى الفشل في التواصل وإلى طريق مسدود.
والمؤسف أن هاتين السمتين صارتا جزءًا لا يكاد يتجزأ من شخصية الكثيرين، وليس مجرد عرض مؤقت يحدث أثناء النقاشات وينتهي بانتهائها، بل إنه أصبح طريقة تفكير وحياة حيث يصبح المتماهون مع آرائهم أكثر راديكالية وعنفًا في مواقفهم عمومًا، ولهذا السبب نجد صعوبة في إجراء أي مناقشة معقولة مع واحد من هؤلاء، إذ إنهم أذابوا آراءهم في ذواتهم، ولم يعد بإمكانهم فصلها.
في أي نقاش وحين يشعل أحد الطرفين عن قصد أو دون قصد نار الشخصنة أو التماهي وكلنا عرضةٌ لذلك مهما اجتهدنا، فإنه من الضروري إطفاؤها أولًا بالتوضيح والتذكير اللطيف قبل أن يستمر النقاش
إن أي محادثة مع مثل هؤلاء عادة ما تكون مؤلمة جدًا، فهم عادةً عنيدون، ونادرًا ما يستمعون، ويميلون بلا هوادة إلى إطلاق صواريخهم المضادة للطائرات ضد كلماتك قبل أن تهبط في أذهانهم. ومن شدة هذا التماهي مع آرائهم يصلون إلى أن يؤمنوا بداخلهم وبطريقة ما بأنهم يحملون الحقيقة ويجب أن يسير التواصل في اتجاه واحد، بينما الاتجاه المعاكس هو فقط لإكمال ديكور الحوار، ولكن ليس لإبداء أي اختلاف أو معارضة حقيقية.
فبالنسبة لهم، أي معارضة تعني هجومًا مباشرًا على ذواتهم، وسيكون دفاعهم شرسًا للغاية؛ لأنهم في الواقع يدافعون عن وجودهم، وليس عن آرائهم، ولذا تراهم عادة ينتقلون سريعًا إلى الشخصنة، ومن مهاجمة آراء الآخرين لمهاجمتهم هم أنفسهم؛ فالأمر بالنسبة لهم معركة وجودية.
باختصار شديد؛ فإنه في أي نقاش وحين يشعل أحد الطرفين عن قصد أو دون قصد نار الشخصنة أو التماهي وكلنا عرضةٌ لذلك مهما اجتهدنا، فإنه من الضروري إطفاؤها أولًا بالتوضيح والتذكير اللطيف قبل أن يستمر النقاش، وإلا وجدت نفسك من جديد ضيفًا على حلقة جديدة من الاتجاه المعاكس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.