شعار قسم مدونات

أبو ذؤيب الشاعر الذي لم تعرفه!

أبو نُخيلة.. فحل من الشعراء جنى عليه لسانه - المصدر: الجزيرة الوثائقية
يعرف الناس من أبي ذؤيب أنه شاعر الرثاء والحكمة وأنه شاعر الأحزان وذم الزمان (الجزيرة)

أبو ذؤيب الشاعر المشوق الغزل

أردين عروة والمرقش قبله .. كل أصيب وما أطاق ذهولًا

ولقد تركن أبا ذؤيب هائمًا .. ولقد قتلن كثيرًا وجميلًا

وتركن لابن أبي ربيعة منطقا .. فيهن أصبح سائرًا محمولًا

أبو ذؤيب شاعر معدود في الغزليين، ذكره مروان بن أبي حفصة بين عروة والمرقَّش وكثيّر وجميل وعمر بن أبي ربيعة، يعرف الناس من أبي ذؤيب أنه شاعر الرثاء والحكمة، وأنه شاعر الأحزان وذم الزمان، قد طافت وذاعت عينيّتُه التي رثى فيها أولادَه الخمسة:

أمِن المنون وريبها تتوجّع .. والدهر ليس بمعتب من يجزع

وإني بها وقد اشتهرت وألقت غطاء على جميع شعره، فإذا ذُكر أبو ذؤيب لا تكاد تسمع إلا ذكر عينيّته "أمن المنون" ووصف لجودتها وحسن سبكها؛ فتلقفها النقاد والشارحون بالتحليل والتعليق وتلقاها الدارسون بالدراسة والتطبيق على المناهج النقدية في قاعات الدرس والندوات والمحاضرات، حتى لم يكد يبقى فيها مغرز إبرة.

إذا قرأت العينية، ترى أبا ذؤيب الشيخ الوقور الذي خبر حَدثَان الدهر، وذاق القهر، وهو ذلك الأب الحاني الذي فُجع في أولاده فشكا، وبكى واستبكى، وتجلد للشامت والعدو، وفاضت نفسه بالحكمة وعلاها الوقار.

مع ذلك، لن تعرف أبا ذؤيب على الحقيقة حتى تقرأ ديوانه، وتعرفه في أحواله كلها، فهو الصديق الوفي الذي أفرد قصائد طوالًا يبكي فيها ابن عمه نشيبة، ويرثيه رثاء يدمي القلب، وهو المسحور بالطبيعة الهائم بوصف الوحش والبرق والرعد والمطر، وهو الحكيم الذي يقدم الصلح ويؤثر المروءة، يعظم من أبناء عمومته، ويهتم لأحوال قبيلته، وهو المتيّم بالخمر وصنوفها، وهو الفارس الشجاع، وهو الشاب الذي عرف بصولاته وجولاته مع النساء.

من قصة أبي ذؤيب مع أم عمرو بدا لي أنها أول امرأة في حياة أبي ذؤيب، وأول حب، إذ كان فتى يافعًا فأرسله عويم برسائل غرام لأم عمرو وكان قلبه خاليًا، ثم أفسدت عيناها الأمانات؛ فتمكّن الحب منه، ولم يدرِ بنفسه إلا وقد ولِه بها

أبو ذؤيب المسحور وخبره مع أم عمرو

أسرف أبو ذؤيب في ديوانه من ذكر أم عمرو وعرف بها، وأفرد لها قصائد عريضة، وكنى عنها بأم الحويرث وأم الصبيين، ولعل أم عمرو كناية كالكنايات الأخرى، استعملها في شعره ليعرّض بها، ولا ريب أن الشعراء يكنون عن محبوباتهم:

إعلان

فيهن أم الصبيين التي تبلت .. قلبي فليس لها ما عشت إنجاح

كأنها كاعب حسناء زخرفها .. حلي وأترفها طعم وإصلاح

وقد ذكر من النساء أسماء وأم سفيان، وأم الرهين، وليلى، وأفصح شعره عن مغامراته وقصص من حياته، وأبان عن صولاته وجولاته مع النساء، فتشهده متيمًا كثير الذكر للجِيد والعين وطيب الرائحة، وكثيرًا ما كان يصف ثغر المحبوبة بطعم العسل.

يأسره الدلال، ويسلبه الجمال، رجل مفتون مسحور، رقيق الحاشية، فهو زعيم للغرام بلا منازع، ومعدود في الشعراء العشاق من هذيل، ومن ديوانه تعرف قصته مع "أم عمرو"، وقد رُويت في كتاب الأغاني: "كان أبو ذؤيب الهذلي يهوى امرأة يقال لها أم عمرو وكان يرسل إليها خالد بن زهير فخانه فيها، وكذلك كان أبو ذؤيب فعل برجل يقال له عويم بن مالك، وكان رسوله إليها فلما علم أبو ذؤيب بما فعل خالد صرمها فأرسلت تترضّاه فلم يفعل".

من قصة أبي ذؤيب مع أم عمرو بدا لي أنها أول امرأة في حياة أبي ذؤيب، وأول حب، إذ كان فتى يافعًا فأرسله عويم برسائل غرام لأم عمرو وكان قلبه خاليًا، ثم أفسدت عيناها الأمانات؛ فتمكن الحب منه، ولم يدرِ بنفسه إلا وقد ولِه بها، وكم حاول أن يبثّ تلك العلائق لأسباب جمة ولا يلوي على شيء:

جمالك أيها القلب القريح .. ستلقى من تحب فتستريح

نهيتك عن طلابك أم عمرو .. بعاقبة وأنت إذٍ صحيح

فقلت تجنبن سخط ابن عم .. ومطلب شلة ونوى طروح

وقوله:

إذا هم بالإقلاع هبت له الصبا .. فأعقب نشء بعدها وخروج

وكل من حوله قد ظن أن محبته لأم عمرو شيء من اللهو والعبث، فعذلوه فيها، فأقسم أن قلبه لن يكف عن حبها، فقال:

ويأشبني فيها الذين يلونها .. ولو علموا لم يأشبوني بباطل

فتلك التي لا يبرح القلب حبها .. ولا ذكرها ما أرزمت أم حائل

وحتى يؤوب القارظان كلاهما .. وينشر في القتلى كليب لوائل

وكما أن الأرجح عندي أنها أول امرأة في حياة أبي ذؤيب، فالأرجح عندي أنه لم تكن كفتا الميزان متساويتين، فهو يحبها على وجل، ويخاف من ذلك اليوم الذي تهجره فيه، ولا يفتأ يفكر بيوم تنقطع به حبائل الوصل، ويعيد القول لها مرات ومرات أنه سيقابل هذا الهجران بمثله، إن هي صرمته فليس بمأسوف عليها، وتلك حيلة نفسية للقلق لا تخفى:

فإن تصرمي حبلي وإن تتبدلي .. خليلًا واحدًا كن سوء قصارها

فإني إذا ما خلة رث وصلها .. وجدت بصرم واستمر عذارها

فإني جدير أن أودع عهدها .. حميدا ولم يرفع لدينا شنارها

رغم أنه كان يتلطف إليها ويتمنى وصلها، ويذم الواشين بينهما:

فإن حديثًا منك لو تبذلينه .. جنى النحل في ألبان عوذ مطافيل

وحاله إذ يقتصر قلبه على محبتها هي ولا سواها؛ فأبى قلبه كل امرأة إلا أم عمرو، وانظر إلى جمال قوله: "وتلك شكاة ظاهر عنك عارها" أي أمر ظاهر عنك عاره، أي زائل، أي ضع كلام الواشين وراء ظهرك:

هل الدهر إلا ليلة ونهارها .. وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

أبى القلب إلا أم عمرو وأصبحت .. تحرق ناري بالشكاة ونارها

وعيرها الواشون أني أحبها .. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أم عمرو بقي لا ينساها، ولا ينسى حبها، وغدا يعرض بخيانة خالد ومع ذلك لم يذكرها بسوء في شعره كله، وبقي يعاتب خالدًا على أن أغواها لنفسه

مالنا كلنا جوى يا رسول!

تريدين كيما تجمعيني وخالدًا .. وهل يجمع السيفان ويحك في غمد

إعلان

أخالد ما راعيت من ذي قرابة .. فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي

دعاك إليها مقلتاها وجيدها .. فملت كما مال المحب على عمد

وطفق في ديوانه يذكرهما بشعر عريض، كناية وتصريحًا، ويبدو أنه كان يتكلف التجلد والصبر، ولم يستطع أن ينساها لابن عمه؛ وظل يندد بفعلته وبما غدر به، ويرثي ابن عمه نشيبة ويحدث بوفائه وحفظه للذمم، تعريضًا بخالد، ولم يغفر له إلا في آخر أيامه:

رعى خالد سرى ليالي نفسه .. توالى على قصد السبيل أمورها

فلما تراماه الشباب وغيه .. وفي النفس منه فتنة وفجورها

لوى رأسه عني ومال بوده .. أغانيج خود كان فينا يزورها

وأم عمرو بقي لا ينساها، ولا ينسى حبها، وغدا يعرض بخيانة خالد ومع ذلك لم يذكرها بسوء في شعره كله، وبقي يعاتب خالدًا على أن أغواها لنفسه:

خليلي الذي دلى لغي خليلتي .. جهارًا فكلا قد أصاب عرورها

ذكرها بأم الحويرث لما خانته، وطفق يفخر بأخلاقه ومحامد صفته، ويرثي ابن عمه نشيبة، ويذكر أمانته ودماثة أخلاقه، فتلك الفعلة من الخيانة أوجعت أبا ذؤيب أيما وجع، ولاقى منها نصبًا وضنى فكانت كالسكين الحاذق على حلقه:

ألا هل أتى أم الحويرث مرسل .. نعم خالد إن لم تعقه العوائق

يرى ناصحًا فيما بدا وإن خلا .. فذلك سكين على الحلق حاذق

وقد كان لي حينًا خليلًا ملاطفًا .. ولم تك تخشى من لديه البوائق

يبدو أن أبا ذؤيب أحب أن يقطع تلك العلاقة التي يخشاها ويحذرها، فحاول التعلل بشغله عنها، فتلك عادته حتى حين كان ذاك الشيخ الوقور، وتعذب بفقد أبنائه كان يبتذل في شغله، ويتلهى ويتسلى بالشغل عما يعترك في نفسه

أبو ذؤيب ذكر خبره مع أسماء، وعذوبة الغزل

ولعل أبا ذؤيب وجد في أسماء ما كان يسليه عن أم عمرو، وقد أحبها وبذل لها، لكن يتبين من ديوانه أنها كانت متزوجة ذات بعل، وأنه يحبها على خوف ووجل من بعلها ومن حراسها ورقبتها، وهو منها في يأس وقنوط، ظل يحبها ثلاث سنين، ويعترف أن محبتها ضلال.. ومتى كان في الحب هدى؟!

أبالصرم من أسماء حدثك الذي .. جرى بيننا يوم استقلت ركابها

زجرت لها طير الشمال فإن تكن .. هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها

وقد طفت من أحوالها وأردتها .. سنين فأخشى بعلها وأهابها

ثلاثة أحوال فلما تجرمت .. علينا بهون واستحار شبابها

عصاني إليها القلب إني لآمره .. سميع فما أدري أرشد طلابها

فقلت لقلبي يا لك الخير إنما .. يدليك للموت الجديد حبابها

ومن أرق ما قاله يعاتبها على فعلة لها:

رأتني صريع الخمر يومًا فسؤتها .. بقران إن الخمر شعث صحابها

ولو عثرت عندي إذن ما لحيتها .. بعثرتها ولا أسيء جوابها

ولا هرها كلبي ليبعد نفرها .. ولو نبحتني بالكلاب شكاتها

إذ يقول لها إذا أساءك مني ما رأيت وأنا أشعث -أي في حالة عدم عناية- وفي حالة سكر مغيب، فهذه إنما حال الشاربين للخمر وليست حالي وحدي!.

إعلان

ويعاتبها عتابًًا لطيفًا ويقول لها: ولو عثرت عندي أو وجدت لك زلة، ما لمتك على سقطتك، بل ما كشفت لك عيبًا، ولا حتى قبحتك به (ولا أسيء جوابها)؛ أي ولا يخشن لها جانبي، ولا عقبت على فعلتك بشيء يكره، ويعاتبها إذ شكته لقومها، بأن يطمئنها أنت في حمايتي لا يطولك أذى فحتى كلبي لا يستطيع أن يهر عليك، ولن ينالك مني قليل أذى حتى لو نالني من قبلك الأذى.

ويبدو أن أبا ذؤيب أحب أن يقطع تلك العلاقة التي يخشاها ويحذرها، فحاول التعلل بشغله عنها، فتلك عادته حتى حين كان ذاك الشيخ الوقور، وتعذب بفقد أبنائه كان يبتذل في شغله، ويتلهى ويتسلى بالشغل عما يعترك في نفسه:

ألا زعمت أسماء أن لا أحبها .. فقلت بلى لولا ينازعني شغلي

جزيتك ضعف الود لما شكيته .. وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي

فإن تك أنثى في معد كريمة .. علينا فقد أعطيت نافلة الفضل

بأحسن منها يوم قالت تدللا .. أتصرم حبلي أم تدوم على وصلي

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم .. فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

والحق أن أبا ذؤيب لو صدق في محبته مع أسماء لم يمنّ عليها بوصله، وأحيانًا أقول لعله أراد أن يبرر لها، ويظهر محبته وما بذل فيها، أو لعله أحب أن ينهي علائق أسماء، فقد سئم من محبة على يأس، ولا نوال ولا مطمع، فأسماء تحبه على وجل، وتخشى صرمه وانقطاع حبائل وصله، كما كانت حاله مع أم عمرو التي كان يخاف هجرها وانقطاع أسبابها.

وقد ذكر ليلى في شعره حاكيًا ما كانت تتودد به إليه، وقد زارها على وجل وخوف؛ فحال دونه الرجال والخيل ولم يقدر إلا على رفع الطرف:

أمن آل ليلى بالضجوع وأهلنا .. بنعف قوي والصفية عير

رفعت لها طرفي وقد حال دونها .. رجال وخيل بالبثاء تغير

فإنك عمري أي نظرة ناظر .. نظرت وقدس دونها ووقير

ديار التي قالت غداة لقيتها .. صبوت أبا ذئب وأنت كبير

تغيرت بعدي أم أصابك حادث .. من الأمر أم مرت عليك مرور

وذكر أم وهب، وقد جعل نفسه في الأبيات مطلوبًا لا طالبًا، فهي التي تبحث عنه، وتنتظره، وهو يتخلف عن موعدها، ويتركها في حيرة وقلق، هي من تتودد إليه، وتكفيه ما أهمه، وترقّ له:

تؤمل أن تلاقي أم وهب .. بمخلفة إذا اجتمعت ثقيف

فسوف تقول إن هي لم تجدني .. أخان العهد أم أثم الخليف

تقول له كفيتك كل شيء .. أهمك ما تخطتني الحتوف

وذكره لأم الرهين وقد شبه نفسه وإياها وكأنه الظبي الذي وقع في شراك الصائد، فهو حب ليس عن إرادة ولا عقل، فبينما الظبي يمشي صحيحًا ويمر مسرعًا، إذ وقعت رجله في الحبل، فحاول المراوغة والفكاك، لكن اشتدت عقدة الحبل واستحكمت:

عرفت الديار لأم الرهين .. بين الظباء فوادي عشر

ألكني إليها وخير الرسول .. أعلمهم بنواحي الخبر

بآية ما وقفت والركاب .. بين الحجون وبين السرر

وأزعم أني وأم الرهين .. كالظبي سيق لحبل الشعر

إعلان

فبينا يسلم رجع اليدين .. باء بكفة حبل ممر

فراغ وقد نشبت في الزماع .. واستحكمت مثل عقد الوتر

من الحيف على الدراسات الأدبية تصدير صور نمطية للشعراء دون التعمق والدراسة للدواوين كاملة، والاكتفاء منها على شكل واحد وصورة دون غيرها من الأشكال والصور والأغراض التي خالطت الشاعر في جميع أحواله

لعمري أي رقة وعذوبة في غزله، وأي تفاعل للغزل مع الطبيعة؟ تعلو وتسمو مطالعه الغزلية وحتى ما أفرد في شعره من قصائد للغزل فهي تبعد عن التكلف، والتخيلات والتدبيج والتنميق، هو غزل واقعي، وكأنه نفثة مصدور أو شكوى عليل:

أمن أم سفيان طيف سرى .. هدوا فأرق قلًبا قريحًا

عصاني الفؤاد فأسلمته .. ولم أك مما عناه ضريحًا

وقد كنت أغبطه أن يريع .. من نحوهن سليمًا صحيحًا

أبو ذؤيب الشاعر الذي تصف مزاج غزله بأنه ألوان تشبه هذيل، طبع فيها ألوان الغزل والنسيب من هذيل؛ فغدت الغزليات تتفرد بسمته، وفيها مزاج من طبعه وقبيلته؛ ومن الجور على أبي ذؤيب حصره في جانب واحد من الأغراض الشعرية، وتضيق ديوانه الرحب الفسيح وحصره في أثر كئيب لقصيدة "أمن المنون"، ولا غيرها دون مغامراته ولطائفه، وتمثل صورته في حالة الرثاء دون الأغراض الأخرى فهو من الظلم المبين.

ومن الحيف على الدراسات الأدبية تصدير صور نمطية للشعراء دون التعمق والدراسة للدواوين كاملة، والاكتفاء منها على شكل واحد وصورة دون غيرها من الأشكال والصور والأغراض التي خالطت الشاعر في جميع أحواله؛ فينبغي إعادة النظر في الدواوين وتقديم صورة الشاعر الضافية لأحواله غير المنقوصة ولا المقطوعة عن غيرها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان