بكلمات انتصار يهزها الخوف من اليوم التالي للحرب على غزة، ومع التصفيق المتواصل والمتكرر على تبريرات نتنياهو لجرائمه، يستمع الكونغرس الأميركي لخطاب رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني، كما لو أنّه يقدم دروسًا في الديمقراطية لأصدقائه.
وفي الوقت الذي تسعى دول لتقديم حكومة الاحتلال للمساءلة القانونية في محكمة العدل الدولية بلاهاي، ومنع "استثناءات إسرائيل" التي ترسم إجراءات أكثر عنفًا ضد الفلسطينيين، يصف نتنياهو أمام الكونغرس انتهاكات حكومته المتطرفة بأنّ الحوادث الاستثنائية بغزة لا تعتبر أدلة على حدوث إبادة جماعية. وفي الوقت الذي يحاجج فيه أحرار العالم الديمقراطي لمقاضاة نظام الفصل الصهيوني، كون الحصار المطبق على القطاع وجهًا آخر من الاستعمار.
مع أنّ حكومة الاحتلال باتت رهينة مصيدة تفكير أشخاص لا يعبؤون إلا بمستقبلهم السياسي، فإنّها مازالت تلقى الدعم الكامل من الأعداء الحميمين للديمقراطية الحضارية؛ فرئيس الولايات المتحدة الأمريكية لا يتأخر في تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية فشل اتفاق الهدنة
الديمقراطية السوداء
حين ترافع أحرار العالم عن الحق الفلسطيني، كانوا يتمثّلون تاريخًا إنسانيًا مناهضًا للأبارتايد وسياسات التطهير العرقي، ولمقاربة إجراءات تلك الدول التي تقاضي الاحتلال في محكمة العدل الدولية، ارتكزت في ملف اتهامها لإسرائيل على تفعيل تجريم "نية القتل" لحكومة نتنياهو، الأمر الذي حرّك حفّاري القبور لتقديم مشروع في الكونغرس الأميركي يمهّد لملاحقة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في حال استصداره مذكرة اعتقال في حق قادة الاحتلال، في وقت كانت تصريحات السيناتور الأميركي ليندسي غراهام بقصف الغزيين بقنبلة نووية تجوب العواصم الديمقراطية من دون أن تلقى تنديدًا أو استنكارًا من طرف الجامعة العربية.
شكّل دعم الديمقراطية الغربية للاحتلال الصهيوني الحلقة الأكثر تعقيدًا في سلسلة تصفية الاستعمار، وبالنظر إلى تجلي الديمقراطية الأوروبية وانجرارها نحو حروب لا طائل منها سوى الدمار والتهجير، فإنّها تستهدف بشكل ممنهج وخطير جميع "تمثلات تحضر الآخر" التي تغاير النزعة النيوليبرالية، تلك النزعة وإن اندمج خطابها مع دعم المثلية وتصاعد معاداة الآخر، إلا أنّها سقطت في دوّامة العنف الأعمى ضد كل ما هو إنساني. ووقوفُها في صفّ المحتل الذي يمعن في استخدام آلة القتل والتخويف، جعلها خارج الالتزام الحضاري والأخلاقي، وإن تعالت دعواتها عدة مرّات لمساندة الأقليات المضطهدة.
اعتبرت الديمقراطية الغربية أهم مخرجات الحداثة ضمن شرطية تاريخية طوّعت مفهوم الاستعمار، لتستنسخ من الكولونيالية نموذجًا جديدًا يسطر المناهج التعليمية، ويرسم الخطط الاقتصادية، ويمنح القروض لتقويض مؤسسات الدول، ديمقراطية نيوليبرالية أصبحت اليوم تمنع الغربي ذاته من إسماع صوته ضد من صوّت لهم، وضد من منحتهم السترات الصفراء الحق في تقرير السياسات الاقتصادية، وانزاحت من قُطرية الدولـة إلى مركزية الاتحادات التي ساهمت مؤسساته في استهداف التنوع القومي، وفوّضت لديمقراطية الشرق الأوسط القوّة المطلقة في استخدام العنف، وباتت تساؤلاتها على لسان جوزيب بوريل عقب المجازر المتكررة للاحتلال ترسم الصورة السوداء لتاريخه الدموي في المنطقة، فهل سيتم طرد الفلسطينيين للقمر؟
لا تهتم الديمقراطية الغربية بإيجاد جواب لسؤال بوريل، بقدر ما هي معنية أو بالكاد تجزم أن ليس ثمة بشر يملكون الحق في الحياة والمقاومة، فالحرب على غزّة ساهمت في إضعاف الجبهة الداخلية للاحتلال، وفاقمت معاناة الكابينت لإيجاد تسوية حقيقية وشاملة للصراع، وبدل إسكات صوت البنادق، تزداد الخلافات بين مجلس الحرب بعد تهديدات أعضاء الحكومة بالانسحاب منها، والدعوة إلى انتخابات مبكرة في حال رضوخ نتنياهو لاتفاق الهدنة.
ومع أنّ حكومة الاحتلال باتت رهينة مصيدة تفكير أشخاص لا يعبؤون إلا بمستقبلهم السياسي، فإنّها مازالت تلقى الدعم الكامل من الأعداء الحميمين للديمقراطية الحضارية، فرئيس الولايات المتحدة الأميركية لا يتأخر في تحميل المقاومة الفلسطينية فشل اتفاق الهدنة، كما لا يتوانى الغرب وفي مقدمته البريطانيون الذين دفعوا بالأوكرانيين إلى حتفهم ضد الروس، عن استهداف المتظاهرين الذين يناصرون الحق في المقاومة.
مثّل ارتباط الديمقراطية في سياقها الحضاري الملغّم بالعولمة والمنحاز إلى حفاري القبور الاستعماريين، حالة رعب مقلقة على استمرارية الإنسانية، بعد التخاذل الفاحش للغرب ضد الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وتبريره عنف الكابينت الصهيوني الأعمى، أما عن الاحتلال وتصريحات وزرائه بأنّ إنهاء الحرب مرتبط بالقضاء على حماس، لم يعد له مكان في عالم يخوض صراعًا وجوديًا مع الهيمنة الغربية.
وقد أوقعت عملية طوفان الأقصى "الاحتلال الصهيوني" في مصيدة الانكسار، وتصفية ما تبقى من تركة الاستعمار الغربي. ورهانُ العالم لتخليصه من هيمنة نخبة متطرفة، متعلق بمدى قدرة المقاومة على استنزاف الديمقراطية السوداء.
مع ما تمثله مجالس التنديد والشجب العربية، تظل الآمال منعقدة على حفنة من المقاومين، حرّكوا مجاميع العالم نحو فلسطين، وأحيوا الموات بعد خديعة السلام العربي الإسرائيلي، ومنحوا الحرية وسام الحق وهي تطلق صافرات التحذير والتغيير
أنظمة الكابينيت
تبدو المسألة الفلسطينية وحلولها المستعصية متعلقة بشرطية التخلص من الدكتاتوريات، فالأنظمة العربية إلى الآن لم تتخذ موقفًا ينهي حالة الجمود ضد المحتل، إذ لا ترتقي تصريحات الجامعة العربية إلى المأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة وغزة، كما أن اختيار بعض الدول الإقليمية تجريم المقاومة، ساعد حكومة الاحتلال في إخراجها من وحل الحرب، بالدعوة المتكررة لإدارة القطاع من طرف مجموعة دولية أو عربية بالضرورة، بغية إنهاء ما بدأه الاحتلال ضد الغزيين.
أصبحت الأنظمة العربية غير قادرة على حل النزاعات الداخلية لدولها، أو تفعيل السوق العربية الموحدة، ولا حتى تصفية الاستعمار وتخليص الذاكرة، بل باتت هي الأخرى غارقة في وحل التطبيع ومصيدة الخذلان، ووقوفها ضد تطلعات شعوبها في الحرية والعدالة الاجتماعية، كان شاهدًا على أن استحكام الدكتاتوريات بجغرافيتها يعد الحلقة الأولى في سلسلة التغيير والتحرير الوطني.
ترتكز الأنظمة العربية على قدم تجرها أمام سطوة الاحتلال الصهيوني، وتتماهى مع سياساته الخارجية، لكن ومع ما تمثله مجالس التنديد والشجب العربية، تظل الآمال منعقدة على حفنة من المقاومين، حرّكوا مجاميع العالم نحو فلسطين، وأحيوا الموات بعد خديعة السلام العربي الإسرائيلي، ومنحوا للحرية وسام الحق وهي تطلق صافرات التحذير والتغيير، ومهما تسارعت الأنظمة العربية لتقديم فروض الولاء للإمبراطورية، فإنّها ستظل ورقة بالية من تاريخ الإنسانية، وسرطانًا ينخر في الأمة بالخديعة والخذلان.
لن تتوقف المقاومة في أي بقعة في فلسطين ضد المحتل، وسيظل الخطاب السائد لغة الحرب والرصاص، وستنبعث عواصم أخرى نحو تغيير جذري لم تكتمل فصوله التراجيدية بعد، وسينحصر الموقف الغارق في وحل التطبيع يمد يديه نحو سياسات التطهير والتهجير، والحق يقال، إنّ الذي يعيش النكبة الكبرى ليسوا الفلسطينيين، بل العالم بهشاشة حضارته وارتهانها لمخادع يمتهن ديمقراطية سوداء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.