ليس غريبًا أن يستشهد مراسل الجزيرة، الزميل إسماعيل الغول، بينما إسرائيل تصبّ جام قوّتها العسكريّة والتكتيكيّة على قادة رفيعي المستوى، أمثال: محمّد الضيف، وإسماعيل هنيّة، وفؤاد شُكر؛ فالكيان يحاول عبر رئيس حكومته بنيامين نتنياهو حصد نقاطٍ تبقي التركيبة السياسية الليكودية على حالها من جهة، وإطالة أمد الحرب لتغيير صورة إسرائيل الدمويّة في أذهان أعضاء المُجتمع الدولي من جهة أخرى.
استُهدِف إسماعيل الغول وزميله المصور رامي الريفي، في محاولة لكسر الصورة الفلسطينية التي انعكست خوفًا إسرائيليًّا أبديًّا من الصورة والكلمة، لتظهر الإشكاليّة الآتيّة: لماذا إسماعيل الغول في هذا التوقيت والمكان؟ وكيف يغطّي الاحتلال ثغراته الإعلامية بقطرات الدم؟
ما ينطبق على شيرين أبو عاقلة ينطبق اليوم على إسماعيل الغول، فالمكان والزمان ظهرا كعنصرين أضيفا إلى جانب التأثير الإنساني لاستشهاد مراسل شابّ، يتقن لغة الأنقاض وما تحمله من صمود مدنيّ
المكان والصورة أقوى من الرصاص
ينقسم التنكيل الإسرائيلي العبثي بالصحافة العربية عمومًا، والفلسطينية خصوصًا، إلى فئتين: محاولة الإقصاء، والتصفية.
فلنبدأ بالتصفية، بدءًا باغتيال المراسلة شيرين أبو عاقلة، التي حرصت على نقل صورة الإبادة الجغرافية والإنسانية في حيّ الشيخ جرّاح وما يحيط به. فصورة أبو عاقلة كانت واضحة، تحمل تركيبة العنف الاسرائيلي بدقّة، بدءًا من الاعتداء الجسدي لعناصر الجيش والأمن الإسرائيليين، مرورًا بالاعتقال، وصولًا إلى القتل العلني، وهو الشكل الكلاسيكي المعتمد من قبل الاحتلال، على الأقل منذ فترتي الانتفاضة: الأولى والثانية.
قوبلت صورة أبو عاقلة برصاصة من قنّاص إسرائيلي، أي بردّ عسكريّ بحت، وهو ما يجعلنا دلاليًّا ننظر إلى "ميكروفون" شيرين أبو عاقلة على أنّه آلة قنص، تفضح تعتيمات الاحتلال ومحاولات الحجب التي ينتهجها.. زدْ على ذلك، فإنّ اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة أتى في الميدان، وكأنّ الاحتلال يقاتل جيشًا وليس فردًا.
ما ينطبق على شيرين أبو عاقلة ينطبق اليوم على إسماعيل الغول، فالمكان والزمان ظهرا كعنصرين أضيفا إلى جانب التأثير الإنساني لاستشهاد مراسل شابّ، يتقن لغة الأنقاض وما تحمله من صمود مدنيّ، ويحمل صبرًا يمكّنه من نقلها بلغة عربيّة فصيحة يفهمها الجميع، وتصل بسلاسة المترجمين إلى العالم ككلّ.
إسماعيل الغول استشهد في مخيّم الشاطئ، حين كان يحمل سرديةً تخبر محبّي رئيس حركة حماس إسماعيل هنيّة وتجربته الغزّية والسياسيّة الدبلومسية، ليظهر الاحتلال بالعنف الذي ارتكبه بحق الغول وزميله الريفي في وضع مرتعب من رسالة صحفية، ينقلها صحفيّ مؤثّر بحقيقته ومهنيّته إلى جمهور يبحث عن تحصين تماسكه بعد الاغتيالات المتتالية لقادةٍ؛ والرسالة -شئنا أم أبينا- هي في موضع خصومة سياسيّة وعسكريّة لكيان بدأ يشعر بتباينات وتخلّيات من قِبل حلفائه، ليأتي الاغتيال وفقًا لتطلّعاتهم الإجراميّة شبه إنقاذ "مؤقّت" لإسرائيل في مكان وزمان قد يكونان "مناسبين".
إسرائيل اليوم تخشى عين إسماعيل الغول، وستخشى أكثر عيون الصحفيين في غزّة، المتسلحين بقوّة تبدأ بالاحتكاك المدني، ولا تنتهي عند القدرة على نقل الصوت والصورة
الإعلام الإسرائيلي وثغراته الأبديّة
لم يكن الإعلام الإسرائيلي- أو حتى صحافته – يومًا يرتدي قناع الإنسانية، ولم يدّعِ ارتداءه، هو – باختصار- وجه واحد اسمُه "هيئة البثّ الإسرائيليّة"، بل تتعدد تسمياته (قناة 12- قناة 13- قناة 14). صورة هذه المنظومة الإعلاميّة تكبر ثغراتها لكونها تتغذى على عاملين: الشائعات، والحملات الدعائيّة المستنزفة (اغتيال الضيف، واستثماره أنموذجًا) ببيانات رسميّة تجلب مشاهدين مؤقتين وَفقًا للحدث وطبيعته.
هذا قد يضعنا في حالة تحامل ممزوجة بالحقد تجاه الإعلام العربي القائم على تحليلات ونقل معلومات، وتقديم صورة عن مراسلين يتساوون مع العزّل في الحروب، ويتعايشون معهم وفقًا لما يعرف في علم الاجتماع بـ"الملاحظة" بنوعيها، المؤقت والدائم.. يحاول هذا الإعلام تجاوز البذلة العسكريّة التي لم تشبع من حلقات الإبادة حتّى الآن، فيقع في مستنقع الخلافات الداخليّة الإسرائيليّة، ويتغاضى عن محاولة تلميع صورة الكيان المهزوزة، القائمة على الدم والانتصارات الوهميّة.
لهذا يأتي اغتيال إسماعيل الغول، وقبله ثلّة من الصحفيين وعوائلهم، كنقاط دماء تحاول سدّ فجوات هذه الماكينة الإعلاميّة دون جدوى.. هي تراهن على دموع الصحفيين وزملائهم، وتصعق باستمرار التغطية وولادة مؤثّرين جدد.
مشكلة الإعلام الإسرائيلي الكبرى – ونعني بالإعلام الصوت والصورة، وما يطلبه المشاهد – تموضعه السرطاني في بوتقة الجيش الإسرائيلي والسلطة الاسرائيليّة، سواء أحبّهما أم أبغضهما، هو إعلام لا يشبه ولا يتناسب مع مفهوم السلطة الرابعة المتطوّر باستمرار، يعود بخطابه الخبريّ المتوقّع وغير المتوقع إلى أجواء الحرب العالميّة الثانية، حين كانت النشرةُ الورقية الموزّعة – بين الجنود الروس خلال الغزو النازي، أو ما تبثه الإذاعة البريطانيّة ضد الألمان – متنفسًا ينعش الجنود لقتالٍ مجهول النتائج.
سيناريو اغتيال الصحفيين – البارزين خصوصًا – أعاد الإسرائيليين إلى مربع الوهن، رغم كلّ الأهداف التي ينتشون بتحقيقها، فكرة يصعب على آلة قتل نقدها ويسهل تبنيها، لكونها لا ترتوي من الدماء وتخشى التوقف.
إسرائيل اليوم تخشى عين إسماعيل الغول، وستخشى أكثر عيون الصحفيين في غزّة، المتسلّحين بقوّة تبدأ بالاحتكاك المدني، ولا تنتهي عند القدرة على نقل الصوت والصورة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.