الترجمة الأدبيّة تضعُ المترجم في مواجهة مع النص، فهو ليس مجرد وسيط ينقل المعاني، بل هو مبدع يضع بصمته الخاصة على النص.
الدكتور صالح جواد الطعمة في كتابه: "الترجمة وإشكالاتها"، يتناول هذه العلاقة المعقّدة بين النص الأصلي والمترجم، حيث يؤكد أن الترجمة الأدبية تتطلب نوعًا من التأويل الذي يسمح للمترجم بإعادة تشكيل النص؛ ليناسب جمهور اللغة المستهدفة، دون أن يخونَ روح النص الأصلي.
هذا التأويل ليس عملية سهلة، فهو يتطلب من المترجم فهمًا عميقًا للسياق الثقافي والاجتماعي للنص، إضافةً إلى معرفة دقيقة باللغة الأصلية؛ فالكاتب يسكب مشاعره وفكره في النص الأصلي، ما يجعل من الصعب على المترجم نقل هذه المشاعر بنفس القوة والتأثير.
وقد أشار الطعمة إلى أن المترجم يجب أن يمتلك حساسيّة خاصة تجعله قادرًا على قراءة ما بين السطور، والتقاط تلك الإشارات الدقيقة التي قد لا تكون ظاهرة في النص، ولكنها تحمل الكثير من المعاني الخفية.
يجب أن يكون المترجم مدركًا للعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية التي قد تؤثر بالنص، وبالتالي يكون قادرًا على نقل هذه العناصر الثقافية بدقة وحساسيّة عالية
التفاعل مع المؤلف وأهمية الحوار
من الأمور التي قد تسهم في تحسين جودة الترجمة الأدبية التفاعل المباشر بين المترجم والمؤلف، إذ يمكن لهذا الحوار أن يساعد المترجم على فهم أعمق للنص وللأهداف التي يسعى الكاتب إلى تحقيقها من خلاله.
ويشير الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه: "الترجمة وتحدياتها" إلى أن هذا التفاعل يمكن أن يزيل الكثير من العقبات التي قد يواجهها المترجم، حيث يصبح بإمكانه استيضاح بعض النقاط الغامضة في النص الأصلي، وفهم السياق الذي كُتب فيه النصّ بشكل أفضل.
وينبغي للمترجم -في غياب هذا التفاعل المباشر- أن يكون على دراية بالظروف الثقافية والاجتماعية التي أحاطت بكتابة النصّ. فعلى سبيل المثال، يجب أن يكون المترجم مدركًا للعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية التي قد تؤثر بالنص، وبالتالي يكون قادرًا على نقل هذه العناصر الثقافية بدقة وحساسيّة عالية.
يؤكد الدكتور محمد عصفور ضرورة أن يكون المترجم واعيًا بتأثير النصوص التي يترجمها في القارئ، وأن يكون حريصًا على اختيار النصوص التي تساهم في إثراء الثقافة، وتعزز من قيم المجتمع
أخلاقيات الترجمة وحسّ المسؤولية
إن عملية الترجمة الأدبية تضع المترجم أمام مسؤولية كبيرة تجاه النص والجمهور، فالمترجم لا ينقل الكلمات فقط، وإنما ينقل الأفكار والثقافة.
ويوضّح الدكتور محمد عصفور في مقاله: "أخلاقيات الترجمة" أن المترجم يجب أن يتحلى بحسّ المسؤولية، وألا يسمح لنفسه بالتلاعب بالنص أو تحريفه بما يتناسب مع أهوائه الشخصية أو رؤيته الخاصة.
كما يؤكد عصفور ضرورة أن يكون المترجم واعيًا بتأثير النصوص التي يترجمها في القارئ، وأن يكون حريصًا على اختيار النصوص التي تساهم في إثراء الثقافة، وتعزز من قيم المجتمع. فالنصوص المترجمة يمكن أن تكون أداة للتعليم والتثقيف، ولكنها قد تكون أيضًا أداة لنشر الأفكار الضارّة أو المضللة، إذا لم يتحلَّ المترجم بالأمانة العلمية.
واجه المنفلوطي في أثناء تعريب "الشاعر" تحديات تتعلق بالاختلافات الثقافية بين النص الفرنسي الأصلي والجمهور العربي
الترجمة في مقابل التعريب: (رواية الشاعر أنموذجًا)
دائمًا ما تتردّد في أذهاننا تساؤلات حول النصوص المترجمة: أتبقى هذه النصوص وفيّة لأصالة الفكرة وتفرّد المحتوى كما أراده المؤلف، أم أنها تتخذ طابعًا جديدًا، يحمل بين سطورها روح المترجم الذي يعيد تشكيلها لتكون أقرب إلى ذائقته وخبرته؟ هذا السؤال يعيدنا إلى تجربة ذات أهمية كبيرة في الأدب العربي، وهي تعريب رواية "الشاعر" على يد المنفلوطي.
لم يقتصر مصطفى المنفلوطي على الترجمة الحَرفيّة لرواية "سيرانو دي برجراك"، بل قدّم "تعريبًا" يتماشى مع الذائقة العربية في تلك الفترة. وهذا يبرز الفرق بين الترجمة الحَرفية والتعريب، حيث إن المنفلوطي أخذ النص الأصلي وأعاد صياغته بأسلوب يناسب ثقافة القراء العرب ولغتهم، مع الاحتفاظ بجوهر الفكرة الأصلية. هذا يُظهر كيف يمكن للمترجم الأدبي أن يصبح شريكًا في الإبداع، بدلًا من كونه مجرد ناقل للنص.
ولقد واجه المنفلوطي في أثناء تعريب "الشاعر" تحديات تتعلق بالاختلافات الثقافية بين النص الفرنسي الأصلي والجمهور العربي. على سبيل المثال، بعض المفاهيم أو الإشارات الثقافية التي قد تكون مفهومة لدى القرّاء الفرنسيين قد لا تكون كذلك لدى الجمهور العربي. المنفلوطي تغلّب على هذه التحديات من خلال إعادة تأطير الأحداث والشخصيات بطريقة تتناسب مع الثقافة العربية، دون أن يخون النص الأصلي.. هذا يُبرز أهمية فهم المترجم للسياق الثقافي والاجتماعي للنص الأصلي، وكيف يمكنه التعامل مع هذه التحديات بشكل إبداعي.
ولقد أحسن المنفلوطي استخدام أدواته الإبداعية لتقديم نص جديد يحمل في طياته روح النص الأصلي، ولكنه يتحدث بلغة وأسلوب جديدَين؛ فالمنفلوطي حافظ على جوهر الرواية وفِكَرها الرئيسة، لكنه أضاف نكهته الأدبية الخاصة، ما جعل النص المترجم أكثر قربًا إلى القرّاء العرب.. هذه التجربة تؤكد أن الترجمة الأدبية ليست مجرد نقل حرفي، بل هي عملية إعادة خلق للنص في سياق جديد.
النص المترجم ليس مجرد نسخة من النص الأصلي، بل هو كيان جديد يحمل في طياته بصمات المترجم، وفي الوقت ذاته، يظل وفيًّا لروح الكاتب الأصلي
بين الأمانة والإبداع
في نهاية المطاف، تبقى الترجمة الأدبية فنًا معقدًا يجمع بين الأمانة في نقل النصوص، والإبداع في التعبير عنها بلغة أخرى، وعلى المترجم أن يتعامل مع النص بحساسيّة ووعي، وأن يسعى دائمًا للحفاظ على روح النص الأصلي دون أن يضحّي بإبداعه الشخصي؛ فالنص المترجم ليس مجرد نسخة من النص الأصلي، بل هو كيان جديد يحمل في طياته بصمات المترجم، وفي الوقت ذاته، يظل وفيًّا لروح الكاتب الأصلي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.