أعتقد أنه قد استقرّ في وعي الأمة القبول بحكم المتغلب، وأدى هذا إلى أن تصبح الدكتاتورية إحدى صلاحيات الحاكم.. ولعلنا هنا نستفيد من استعراض آراء د. عبد الكريم بكار في كتابه: "أساسيات الحكم في الإسلام" حيث إن المقاومة السلمية بكل أشكالها يجب أن تستمر، ويضرب أمثلة للمقاومة السلمية بالمقاطعة والاحتجاج والنبذ الاجتماعي. ولا شك أن هذا التعقيب مهم لترسيخ ثقافة مجتمعية لا تقبل بحكم المتغلب. وربما كانت متابعة الدكتور بكار لمسارات الأحداث في بلده سوريا سببًا لهذا الاستدراك.
وحيث أقرّ الفقهاء حكم المتغلب تفاديًا للضرر الكبير الذي ينشأ عن مقاومته، يأتي التساؤل: إذن من الذي يقرّر الضرر؟ المسألة تستحق أكثر من مجرد اجتهاد فقيه منفردًا، بل تستحق هيئة خبراء. أما رأي الفقهاء بأن مقاومة الحاكم المتغلب لا تعتبر بغيًا، فإن هذه المقولة تفتح بابًا واسعًا للصراع على السلطة؛ فكل فئة في المجتمع تعتقد أن بإمكانها أن تسقط ولاية المتغلب، فإنها حين تحل محله عادة ما يغريها السلطان، فلا تعيد السلطة للشعب.
أفضى الإقرار بشرعية المتغلب إلى قصور الفقه الإسلامي عن إرساء قواعد العقد الاجتماعي الذي يأخذ به الأوروبيون، ويعتبرونه أرقى ما وصلت إليه نظريات الحكم
المسائل واقعيًا أصعب منها على المستوى النظري، ولكن تعديل الخطاب من إجازة حكم المتغلب إلى جعله حكمًا غير شرعي، مع تحديد مقاومته بالوسائل السلمية، خروج ذكي إلى إعادة بناء الرأي العام بناء رافضًا للحكم الدكتاتوري، الذي يتوسل لشرعيته بفقهاء يسوغون قبوله بناء على الآراء الفقهية القديمة. ومع التوسع في بناء مؤسسات المجتمع المدني التي تقوم بعمل الخير، وتراقب الفساد وتحمي الشفافية، فإننا قد نصل في النهاية إلى إدراك جماعي يجعل الحكم بالغلبة أمرًا يثير الاشمئزاز بين كل شرائح المجتمع، بمن في ذلك الشريحة المتحالفة مع الحاكم المتغلب.
أفضى الإقرار بشرعية المتغلب إلى قصور الفقه الإسلامي عن إرساء قواعد العقد الاجتماعي الذي يأخذ به الأوروبيون، ويعتبرونه أرقى ما وصلت إليه نظريات الحكم. يرى هوبز -القانوني الإنجليزي- أن "تاريخ البشرية هو تاريخ عدوان الإنسان على الإنسان، ولهذا فإن الناس في حاجة إلى عقد يتنازل فيه بعضهم لبعض عن شيء من الحقوق في سبيل أمن وسلامة الجميع، وبما أن من طبيعة الإنسان الشر، فإن تنفيذ العقد يتطلب قوة تملك نفوذًا أعلى من العقد لتنفيذه بالقهر والإجبار، وهذه القوة هي الحكومة". ثم استدرك جون لوك وقال: إنه لا يصح تبرير الطغيان بحجة تنفيذ العقد بالقوة، ولذا فلا بد من أن تكون السلطة مقيدة بقبول الأفراد لها، ولهم سحب الثقة منها، وبالتالي إسقاط شرعيّتها.
يعزى لجان جاك روسو فضل تقعيد صورة العقد الاجتماعي التي تُمارس حاليًا.. وبذور فكرة العقد الاجتماعي موجودة عند الفقهاء المسلمين، فقد تحدثوا عن عقد بين طرفين: الأمة والحاكم الذي يتم اختياره، واعتبروا أن أول عقد تم إبرامه هو عقد الخليفة الراشد الأول، وقد سمّوه وقتها بيعة. ونصّ كثير من الفقهاء- كما ذكر د. بكار- على أن الإمامة عقد، واستخدموا في إنهائه ما يستخدمونه في إنهاء العقود من ألفاظ مثل: الفسخ والإقالة.
نلاحظ استفادة الحاكم المتغلب من اختلاف الفقهاء في تحديد نوع العقد بين الأمة والحاكم، أهو عقد وكالة يحق للأمة إلغاؤه، ويعني هذا عزل الحاكم ومراقبته ومحاسبته، أم هو عقد ولاية لا تستطيع الأمة تعطيله، كما لا يستطيع الأبناء الصغار عزل وليّهم؟. عقد الولاية في هذه الحالة سيفتح بابًا خلفيًا لاستبداد الحاكم، ولذا على الفقهاء المسلمين الاستفادة من تجارب البشرية حتى لا يحملوا وزر شرعنة الظلم.
تحقيق المصالح العامة مهمة لا تتعلق بالحكومة وحدها، فرغم أن على الحكومة أن تدير مسألة الواجبات الكفائية، فإن هذا لا يُغني عن مشاركة الشعب في تحمل المسؤولية
كذلك يرى د. بكار أن ما أصّله الفقهاء القدامى من حقوق للراعي على رعيته وحقوق للرعية على الراعي كان مجملًا جدًا، ما أنتج كثيرًا من سوء الفهم المتبادل، وكان سببًا للقلاقل والفتن، وكذلك يعيبها انعدام المعيارية؛ فحين يقال إن من حق المحكومين على الحاكم أن يكون قدوة حسنة لهم، فإننا نتعامل هنا مع شيء غامض، أيُقصد بذلك -مثلًا- أن يكون قدوة في كثرة التعبد، أم في العلم والقدرة على الاجتهاد؟
ولقد شهد التاريخ والواقع على أنه قد تم التغاضي عن كثير مما يُسمى واجبات الراعي أو حقوق الرعية. ويرى د. بكار أن الأصوب هو الحديث عن المسؤولية المشتركة بين الطرفين، مستدلًا بحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". في بعض الدول المتقدمة يُستشار الناس في مشروعات البنية التحتية التي تتم في أحيائهم وقراهم، فهم أدرى بمصالحهم؛ وهناك أمثلة كثيرة على مشاركة المواطن في التخطيط وإصلاح الخلل في التنفيذ. وعليه، يرى أن على الحكومات المبادرة إلى توفير أوضاع قائمة على الشراكة في اتخاذ القرار.
هناك أيضًا شبه غياب للتنظير الفقهي الذي يحمِّل الحاكمَ مسؤولية تنمية المجتمع وازدهاره، اليوم تنظر الشعوب إلى الدولة على أنها المركز والمرجعية للتوازن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا يحمِّل الدولة مسؤوليات منها توسيع مبدأ تكافؤ الفرص، وتوفير الخدمات الأساسية، وكذلك تنمية الطبقة الوسطى وإدارة التنوع الثقافي.
إن تحقيق المصالح العامة مهمة لا تتعلق بالحكومة وحدها، فرغم أن على الحكومة أن تدير مسألة الواجبات الكفائية، فإن هذا لا يُغني عن مشاركة الشعب في تحمل المسؤولية.. وعندما يكون الناس هم من اختار الحكومة، وهم من يملك مساءلتها، فإن تحقيق الشراكة العامة بين الحكومة والشعب يصبح أمرًا ممكنًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.