شعار قسم مدونات

مأزِق الدولة العربية بين الأيديولوجيا والديمقراطية

blogs-المواطنة
المواطنة هي القادرة على بناء وطنية حقيقية قائمة على تأسيس علاقات تضامن واعتراف متبادل وتعاون شامل (رويترز)

إنّ أزمة الأيديولوجيا العربية هي في ذاتها، فهدفها هو تطبيق الأيديولوجيا كغاية متوسلة بالدولة، متناسية في الوقت نفسه إعادة بناء الأمة والدولة وقيم المواطنة والمجتمع المدني، فالأيديولوجيا تطيح بجميع إنجازات الدولة الديمقراطية وتجهضها.

الأيديولوجيون العرب تعاملوا مع مقولاتهم، كتطبيق الشريعة والوحدة العربية ومشاعية الملكية، بوصفها فِكَرًا مسبقة أو صيغًا جاهزة للتطبيق والترسيخ، فلم ينجحوا في تطبيق شيء، ولم يستطيعوا ترسيخ أي معتقد ذهني أو عملي. والشاهد البليغ هنا هو أن علاقات المثقفين الأيديولوجيين، بعضهم ببعض، هي أبعد ما تكون عن مقولاتهم.

يبقى الإنسان العربي في حالة من الانفصام الثقافي، وانفصال الفكر عن الواقع المعيش، بل ليس هناك رؤية لجمع شتات هذه الدول العربية تحت لواء الديمقراطية

إنّ علاقة الماركسيين والقوميين بالزمن علاقة رجعية، تمامًا كما هي علاقة الإسلاميين بأصولهم؛ فالابتعاد عن الأصول باعتقادهم يعدّ تراجعًا وانحطاطًا، أو خطأ وانحرافًا، أو هرطقة وضلالًا، غير أن هؤلاء قد حلموا وما زالوا يحلمون بمجتمع تحرّري مساواتي خالٍ من السيطرة والهيمنة والتفاوت، فجهلوا بذلك أمر السلطة. ولذا فهم لم يمارسوا سوى الاستبداد، أو أنهم فوجئوا بسلطات أشد عنفًا وأكثر ظلمًا.

لو عدنا إلى الوراء، وفي تلك الحقب التاريخية القديمة، وتأملنا مقولات ميكافيلي، لعرفنا كيف كان يفكر مليًا تجاه صنع مجتمع مدني، حيث كان آنذاك يعي: "أن الكنيسة بمزاعمها القديمة، لم تعد قادرة على أن توفر إطارًا ما للنشاط السياسي، فبقي موضوع فن الحكم ميدانًا شاغرًا، لم يعد من الممكن تنظيمه بمبدأ عام من مبادئ الشرعية".

هناك أنواع من المثقفين في المجتمع، منهم: الناقد، الطليعي، الملتزم، المؤدلج، المعارض، الديني، التقليدي، الحداثي، الامتثالي، القابع في برجه العاجي، الجماهيري، مثقف السلطة، الإعلامي، المأزوم، المزيف، الممزق (وهو الذي لا يعرف ماذا يختار أو كيف يتجه)، المضطرب أو الضائع الذي لا يستطيع اتخاذ قرار، الانتهازي، والمثقف العقلاني (مهما كان توجهه فإنه ينادي بسيادة العقل).

ومع ذلك، يبقى الإنسان العربي في حالة من الانفصام الثقافي، وانفصال الفكر عن الواقع المعيش، بل ليس هناك رؤية لجمع شتات هذه الدول العربية تحت لواء الديمقراطية، ما يعني أننا -نحن العرب- بحاجة ماسة إلى حالة حقيقية من التطور الاجتماعي والثقافي، وإلى الأنماط والأبنية التي ترتبط بهذين التطورين، وهو ما يتطلب إعادة ترتيب كاملة للمسرح السيسيوسياسي الذي لا يمكن فهمه إلا من منطلق تاريخي.

المواطنة في الدولة الديمقراطية يجب أن تكون عبارة عن عضوية في الدولة، إذا كانت هذه الدولة تعكس حق تقرير لجماعة أو لجماعات عديدة، وأن تكون هي القاعدة لحالة حوار بين جماعات

إن تجليات اعتماد مرجعية النزعة الوفاقية في المخاض الثوري العربي تحتفظ بفكرتها الجوهرية، التي تختزل الديمقراطية المنشودة عربيًا اليوم في حل مشكلة السلطة الاستبدادية على المستويات التشريعية والتنظيمية والمؤسساتية، غير أنها تعدّل في طبيعة المسار الانتقالي إلى هذه الديمقراطية، فتضفي عليه طابعًا ثوريًا قاطعًا وفوريًا، عوضًا عن طابع إصلاحي تدريجي، وتستبعد منه إمكانات التحالف مع أجزاء من النظام السابق، أو المراهنة على الوجوه المعتدلة منه، أو تليين بعض المواقف فيه.

يحيلنا هذا الحال إلى التساؤل عن مدى ولاء المجتمع العربي (مجتمعات الأقطار) للدولة، باعتبارها جهازًا علويًا موحدًا له، خصوصًا أن المقاربات النقدية ألحت منذ زمن على الفجوة والحواجز التي تفصل بين الطرفين.

فالفرد في المجتمع العربي يستعيض عن شرعية الدولة القائمة بالتعلق بكيانات طوباوية تقليدية أو حديثة تعلو عليها، أو بالولاء إلى جماعات عضوية أدنى منها، تتخذ أشكالًا قبلية وعشائرية ومذهبية دينية، في حين يمكن لقيمة المواطنة وحدها أن تحوّل مجتمعًا ما من مجتمع جماعات عضوية متناحرة إلى مجتمع ذي مؤسسات مدنية ممثلة؛ لأن المواطنة في الدولة الديمقراطية يجب أن تكون عبارة عن عضوية في الدولة، إذا كانت هذه الدولة تعكس حق تقرير لجماعة أو لجماعات عديدة، وأن تكون هي القاعدة لحالة حوار بين جماعات.

وهذه المواطنة هي القادرة على بناء وطنية حقيقية قائمة على تأسيس علاقات تضامن واعتراف متبادل وتعاون شامل، لا تذوب في الشعارات الخارجية أو التعبئة السياسية، وهذا البناء هو اليوم النبع الأعمق للنزعة الديمقراطية.

يجب على الدولة العربية إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع، والاعتراف بأهمية بناء مجتمع مدني ديمقراطي قادر على احتضان التعددية الفكرية والسياسية، وضمان مشاركة جميع الأطياف في صياغة مستقبلها

ختامًا، فإنّ المأزق، الذي تواجهه الدولة العربية بين الأيديولوجيا والديمقراطية، يكمن في التناقض بين رغبة النخب الأيديولوجية في فرض رؤاها المسبقة على المجتمعات، وبين متطلبات بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة والتعددية السياسية.

إن الإصرار على تطبيق أيديولوجيات ضيقة الأفق، بعيدًا عن السياقات الاجتماعية والثقافية التي تعيشها المجتمعات العربية، يؤدي إلى تفاقم الأزمات، وخلق فجوات عميقة بين الدولة والمجتمع.

ولتجاوز هذا المأزق، يجب على الدولة العربية إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع، والاعتراف بأهمية بناء مجتمع مدني ديمقراطي قادر على احتضان التعددية الفكرية والسياسية، وضمان مشاركة جميع الأطياف في صياغة مستقبلها. بذلك، يمكن للدولة العربية أن تخرج من دائرة الأيديولوجيا الضيقة إلى فضاء الديمقراطية الرحب، ما يحقق التوازن المطلوب لبناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان