شعار قسم مدونات

لكن من يعيد لنا الرفاق؟

شارع الحمرا في بيروت
كان شارع الحمرا بمقاهيه ومسارحه الشهيرة في بيروت كالهورس شو وكافيه دي باريس والبيكادلي وغيرها (الجزيرة)

على كرسي من كراسيّ ما كان يعرف بمقهى (الهورس شو) في الحمرا والذي تغير اسمه من جملة ما تغير في ذلك الشارع، اجلس وبيدي جريدة النهار آخر الصحف الهامة التي ما زالت تصدر ورقيًا والتي اشتريتها من كشك الصحف الذي ما زال محافظًا على بيع الصحف والمجلات بوسط الحمرا، رغم قلة عدد المشترين مع تحول معظم الصحف نحو الإصدار الإلكتروني.

على الطرف الآخر من الشارع ومن محل بيع الفطائر والذي ربما كان سابقًا مكتبة أو مكانًا لبيع صحف أو أسطوانات وتسجيلات موسيقية، يصدح صوت صباح بإحدى أغنياتها وهي ترد على (معاكسة هاتفية) من أحدهم:  (غلطان بالنمرة، أنا مش بيضا ولا سمرة، أنا حنطية وعندي ولاد وعندي جوز بيسوا بلاد.. وبيتي بشارع الحمرا). أتظنون أن ذلك الرد المتحفظ لساكنة شارع الحمرا على تلك (المعاكسة) كان سيتغير لو أن الأغنية هي من أغاني اليوم، وليس من سنوات مطلع ستينيات القرن الماضي؟

سنوات الحرب اللبنانية المجنونة غيّرت، كما تفعل الحروب عادة، ليس شارع الحمرا وحده، بل بيروت ولبنان كله، ومع توقف الحرب عاد الحمرا ببطء ليستعيد مكانته في قلب بيروت لكن كمنطقة تسوّق وسياحة

الحمرا ببيروت بتلك الأيام التي تعود إليها تلك الأغنية، كان أكثر من مجرد شارع ومنطقة تسوق ومطاعم رصيف، إنه جزء هام من تاريخ بيروت ولبنان والعرب. قبل الحرب اللبنانية كان شارع الحمرا بمقاهيه ومسارحه الشهيرة كالهورس شو وكافيه دي باريس والبيكادلي وغيرها، ومطاعمه المعروفة كمطعم فيصل مقابل المدخل الرئيسي للجامعة الأميركية مركز لقاء الساسة والكتّاب والصحفيين والشعراء.

إعلان

على طاولات تلك المقاهي المليئة بفناجين القهوة وبقايا السجائر، كانت تكتب عناوين وافتتاحيات الصحف البيروتية الشهيرة التي كان ينتظرها القرّاء والساسة والمسؤولون في عواصم العرب ومدنهم. كانت تولد القصائد ويسمعها المتحلقون حول شوقي أبو شقرا ونزار قباني وعصام محفوظ ومحمد الماغوط ومحمود درويش وأدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج.

وفي مكتبات أنطوان وعلم والمنارة كان السوريون والمصريون والعراقيون يبحثون عن الكتب التي لا يستطيعون الحصول عليها في بلدانهم، والمجلات التي يتم تهريبها عبر الحدود، كانت الجامعة الأميركية بما تمثله من حلم في أذهان الطلبة العرب الذين يطمحون بشهادة تخرج في جامعة عريقة وذات مسموعية علمية، بدورها تمتد على أحد تفرعات الحمرا.

وكان مطعم فيصل مقابل مدخل تلك الجامعة العريقة مكانًا ليس لتناول الطعام أو شرب فناجين القهوة فقط، بل مكانًا لعقد الندوات الطلابية والمناظرات السياسية وتدبيج الشعارات والهتافات للمظاهرات والمسيرات والمؤتمرات.

وكان أصحاب المطعم والقائمون عليه يلعبون دور المرشد والناصح والموجه لهؤلاء الطلاب. ولقد روى لي أحد قدامى خريجي تلك الجامعة أنه كان من تقاليد الطلاب عند استلامهم شهادتهم الجامعية أن يطلبوا من صاحب أو مدير مطعم فيصل أن يوقع تلك الشهادات بجانب توقيع رئيس الجامعة إثباتًا ليس فقط لتخرجهم في الجامعة ، بل بتواجدهم أثناء دراستهم في ذلك المطعم والمقهى لأهمية ذلك المكان في سيرة حياتهم الجامعية.

نستعير من محمود درويش مقولته الحزينة: إذا أعادوا لنا مقاهي الحمرا، فمن يعيد لنا الرفاق؟

سنوات الحرب اللبنانية المجنونة غيّرت، كما تفعل الحروب عادة، ليس شارع الحمرا وحده، بل بيروت ولبنان كله، ومع توقف الحرب عاد الحمرا ببطء ليستعيد مكانته في قلب بيروت لكن كمنطقة تسوّق وسياحة أكثر من وسط ثقافي وفني وسياسي، كما كان من قبلُ. تحولت المقاهي الشهيرة والمكتبات لمطاعم بيع الوجبات السريعة وأجهزة الاتصالات، وما بقي منها كمقهى كالهورس شو تغير اسمه ليصبح (كوستا) أو سواه من الأسماء العالمية المشهورة.

إعلان

مطعم ومقهى فيصل بدوره، أغلق أبوابه بعد أكثر من ستين عامًا كان خلالها شاهدًا على حيوية ذلك الشارع، لم يعد الجالسون يتحلقون حول السياسيين والصحفيين والكتّاب والشعراء الذين لم يعد لهم تواجد في مقاهي ومطاعم الحمرا.

نستعير من محمود درويش مقولته الحزينة: إذا أعادوا لنا مقاهي الحمرا، فمن يعيد لنا الرفاق؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان