شعار قسم مدونات

العِلم خارج أروقة الأكاديميا

البروفيسور الفيزيائي فريمان دايسون (مواقع التواصل)

يبدو حبّ العلم هوسًا يصعب ترويضه، ماردًا يخرج من قمقمه لا ليجيب الأمنيات بل ليلتهمَ القلب ويأخذ بمجامع النفس.

"منهوم".. هكذا يسميه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه وصفًا لجوع طالبه، جوع قلبي بليغ، وصبر على ظمأ الحياة؛ فيضحّي في سبيله بكل ثمين ليبلغ مبلغه، زاهدًا في أعين الناس، مكانته مع كل تضحية يبذلها. فإذا وصل اغترف غرفة من كأس علم الله فاستلذ، ثم أقبل فأسرف، يسرف في الرغبة، يسرف في الطلب، يسرف في الإقبال، يسرف في الرجاء، ويسرف في بذل وقته وجهده، فيكلّف نفسه ما لا تطيق ليستزيد أكثر، فتتغير معاني الدنيا في عينه، ومن بعدها معالم الوجود؛ ليلقي به في الختام بين أحضان اليقين.

لكنْ شتان بين من يطلب العلم حبًا ورغبة في نيل معرفة مغمورًا بشغف الصبا، فيجد الشهادات الأكاديمية تتويجًا لشغفه ودافعًا لتحقيق أحلامه، وبين من يسعى للحصول على الشهادات والمناصب الأكاديمية ليس حبًا في العلم، بل طمعًا في الوجاهة الاجتماعية والعلمية المدعاة.. هؤلاء يرون في الشهادات وسيلة لإشباع ثَقب أسود في أعماقهم، طمعًا في مكانة أكاديمية يظنون أنها سترفع من خسيستهم وتستر جهلهم. لكن هيهات! شتان ما بين لهاث ولهاث.

البروفيسور الفيزيائي فريمان دايسون (Freeman Dyson)، أحد كبار العلماء الأفذاذ الذين قادوا مشروعات بحثية رائدة، المشهور بأعماله في مجال الكهرومغناطيسية الكمومية، والفيزياء النووية، ونظرية الحقل الكمومي، وعلم الكونيات

في رسالة كتبها الدكتور زكي مبارك إلى أحد أصدقائه، قال: "وأنا لا أزهد في المال ولا أدعو إلى الزهد فيه، ولكني أفهم أن الغنى بالنسبة إلى أهل العلم والأدب غنى محدود، وينبغي أن يظل كذلك، لتبقى لأهل العلم والأدب أشواق إلى المعاني، وليتحرروا من أسر الغنى الفضفاض، فله شواغل تحدّ من وثبات العقول، وسبحات الأرواح، وخطرات القلوب".. هذه الكلمات تعكس فلسفة عميقة حول العلاقة بين العلم والغنى، وتؤكد أن السعي وراء العلم يجب أن يكون مدفوعًا بالشغف والرغبة في الفهم والاكتشاف، بدلًا من التطلع إلى المكاسب المادية والمكانة الاجتماعية.

وحتى في السياق التاريخي الغربي، تحدث إيفان إيليتش- مثلًا- عن الجامعات كيف كانت مجتمعات للنقاش العلمي الرصين وبحث الأفكار، لا لتحقيق أهداف استهلاكية في أطر سياسية أو عابرة للحدود كما هي اليوم. ويحضرني في هذا المقام اسمان؛ أحدهما زهد حتى في الشهادة الأكاديمية واكتفى بشغفه للعلم والبحث، والآخر أفنى عمره في طلب العلم حتى آخر سنوات حياته، ولم يُقعده تقدمه في العمر عن بلوغ حلمه.

الاسم الأول هو البروفيسور الفيزيائي فريمان دايسون (Freeman Dyson)، أحد كبار العلماء الأفذاذ الذين قادوا مشروعات بحثية رائدة، المشهور بأعماله في مجال الكهرومغناطيسية الكمومية، والفيزياء النووية، ونظرية الحقل الكمومي، وعلم الكونيات. بدأ دايسون رحلته العلمية بشغف وحب للاستكشاف، وقدم إسهامات كبيرة في الفيزياء النظرية، وعلى الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، فإن أعماله وأبحاثه كانت بمثابة شهادة على عبقريته.

كان دايسون يعتبر نفسه متمردًا على النظام الأكاديمي التقليدي، حيث أثبت أن الشغف الحقيقي بالعلم يمكن أن يتجاوز الحاجة إلى الألقاب والشهادات الرسمية. لقد ساهم بشكل كبير في تطوير نظرية الكم والفيزياء النووية، ما جعله أحد أعظم العلماء في عصره.. وكان دايسون أيضًا معروفًا بكتاباته العلمية الشعبية، ومقالاته التي تناولت موضوعات علمية معقدة بطريقة مبسطة ومفهومة للجمهور العام.

تقاعد شتاينر من عمله عام 2000 وهو في سن السبعين، وهنا عاد ليكرس ما تبقى من حياته لمتابعة حلمه الأكاديمي بشغف لا ينضب، لذلك بدأ في أخذ دروس في الفيزياء الأولية والمتقدمة في معهد MIT الشهير

أما الاسم الثاني فهو البروفيسور النمساوي مانفريد شتاينر (Manfred Steiner)، والمثير عنده أنه ظل طيلة حياته المهنية شغوفًا بالعمل على تحقيق حلمه.. أن يكون فيزيائيًا. حين أنهى شتاينر دراسته الثانوية كان يطمح لدراسة الفيزياء، إلا أن عائلته شجعته على دراسة الطب، لأنها قد تكون توجهًا مهنيًا بعيدًا عن متطلبات أوروبا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. فخضع لرغبتهم وحصل على شهادة M.D.

ثم هاجر إلى الولايات المتحدة ودرس في جامعات عدة حتى حصل على شهادة الدكتوراه الأولى له في مجال الكيمياء الحيوية، وعمل في الوقت ذاته أستاذًا لعلم أمراض الدم (Hematology) في جامعة براون 1985-1994.

تقاعد شتاينر من عمله عام 2000 وهو في سن السبعين، وهنا عاد ليكرس ما تبقى من حياته لمتابعة حلمه الأكاديمي بشغف لا ينضب، لذلك بدأ في أخذ دروس في الفيزياء الأولية والمتقدمة في معهد MIT الشهير، ثم عاد إلى جامعة براون، حيث توج سعيه بالحصول على دكتوراه في الفيزياء النظرية عن عمر يناهز الـ 89.

كان شتاينر يخطط بادئ الأمر للحصول على الدكتوراه في الفيزياء النووية؛ إلا أنه فضّل الفيزياء النظرية آخر المطاف لأنه لم يشأ أن يستخدم في دراسته أكثر من عقله مدعومًا بحاسوب وأقلام وأوراق. لم يكن العلم بالنسبة لشتاينر مجرد وسيلة لتحقيق مكانة أو منصب، بل كان رحلة استكشافية مستمرة لإشباع فضوله العلمي.

حين سُئل شتاينر: لماذا الفيزياء بالذات؟ قال: "في الطب، شعرت دائمًا أن هناك الكثير من المتغيرات، ولكن في الفيزياء، هناك بعض المتغيرات، الكثير منها في الواقع، ولكن يمكنك الذهاب إلى دقة لا مثيل لها في أي مكان في العالم العلمي الآخر".. لقد سعى دائمًا لفهم العالم من حوله بعمق أكثر.

في سنة تخرجي في مرحلة الماستر، دفعتني رغبة جامحة لاستكشاف مختبرات جديدة، شيدت حديثًا بشكل منفصل في الجامعة، مخصصة للتحليلات الفيزيائية والكيميائية

ليس بوسع المرء منا إلا أن يمتلئ شغفًا ويتقد حماسًا وهو يمر عبر تاريخ هذه الأسماء، مدركًا مدى حيوية العقل البشري وقدرته اللانهائية على الإبداع الخلاق في أي عمر بوجود الشغف والنهم، ودون أدنى مطامع في وجاهة أو سلطة.

وأذكر قولًا للإمام أحمد بن حنبل، حين رآه أحد السلف يعدو مع الصبيان وبيده محبرته قاصدًا طلب العلم، فعاتبه بقوله "ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟" فأجابه: "مع المحبرة إلى المقبرة". فلم يُقعده بلوغه منزلة "إمام المسلمين" عن طلب العلم، لأنها لم تكن مطمعة، بل نتيجة مترتبة عن سعيه الدؤوب في طلب العلم، فظل شغفه دائمًا للاستزادة.

في سنة تخرجي في مرحلة الماستر، دفعتني رغبة جامحة لاستكشاف مختبرات جديدة، شيدت حديثًا بشكل منفصل في الجامعة، مخصصة للتحليلات الفيزيائية والكيميائية. زرت الأرضية متنقلة بين أقسامها، وقرأت دليل كل مختبر، حتى توقفت عند مختبر يستخدم تقنية الانفجار الذري.

دخلت المختبر ووجدت مهندسًا شابًا، فطلبت منه أن يشرح لي التقنية. سألني حينها إن كنت طالبة في السنة الأولى بالجامعة، وعندما أخبرته أنني على وشك التخرج، فوجئت برده: "طالبة ماستر وما زال لديك فضول؟ من المفترض أنك تجاوزت ذلك".

منذ ذلك الحين وأنا أتساءل: هل ينتهي فضول العلم حقًا؟ هل تتوقف رغبتنا في التعلم؟ هل تخمد دهشتنا تجاه العالم من حولنا؟ لست أبحث عن إجابات، فهي بالنسبة لي واضحة؛ فبعد كل هذه السنوات من ذلك الموقف لا أشعر إلا بالفضول العلمي يزيد، بل ويلتهمني، وشغفي نحو التعلم يتقد. لكني أتساءل في محاولة لرؤية العالم بعين هؤلاء الذي انطفأ فضول التعلم بداخلهم.

ولن أنكر أنني خلال الفترة الأخيرة تداعت أمامي صور ديستوبية قاتمة بشأن مستقبل الجامعات والشهادات الأكاديمية، الممنوحة- في معظمها- برثاثة ومجانية، وأقول هذا وأنا من وسط الحال الجامعي الجزائري المتخم بالسلبيات الإشكالية القاتلة. والمؤلم حقًا في هذا الشأن أن هذه الإشكاليات وما فيها من التسيب ليست قدرًا مفروضًا علينا، إنما هي صناعة بشرية مقصودة، تسعى لتدمير كل البنى التحتية الساندة للدولة المدنية في تفاعلها مع متغيرات عصرنا الراهن.

لكنّ عزائي الوحيد أن الطموحات النبيلة في النهاية لا تليق إلا بشرفاء الضمائر ومحبي العلم وطالبي المعرفة، ولا مكان لها في نفوس المزيفين اللاهثين خلف الوجاهة بشهاداتهم الأكاديمية، ولن يبلغ نورَ العلم حقًا إلا النفوسُ الزكية التي تصون منابع النور في دروبنا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان