آمنت الأمم بأن الحرية في كامل أبعادها لا تنفصل عن حرمة الحياة، إذ هي الفطرة التي جُبِل الإنسان عليها، فقد ولد حرًا مبرأً من كل خطيئة أو معصية، وافترضت على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا يزال كامنًا فيه، مصاحبًا له فيما يأتيه من أفعال، ولا يجوز مجازاة الإنسان عن أفعاله إلا إذا خرج بها عن الحدود المشروعة، فيرتد بهذه الأفعال عن أصل براءته.
فتعارفت الدول على مبدأ رددته في دساتيرها نصه: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، وهو ما يُطلق عليه باصطلاح فقهاء القانون الدستوري والجنائي بـ "مبدأ الشرعية"، فلا تُوصف واقعة يقترفها الإنسان على أنها جريمة إلا إذا وُجد نص قانونيٌ يُجرمها.
قرر فقهاء القانون الدستوري والجنائي أن الفكرة الشريرة مهما كان رسوخها في النفس، والتصميم الإجرامي الجازم بسبق الإصرار؛ لا تقوم بهما جريمة ما بقيا مجرد ظواهر نفسية لم تتخذ سبيلها إلى التعبير المادي الخارج عن كيان صاحبها
من دلالات "مبدأ الشرعية"
وكانت الدساتير قد دلت بمبدأ الشرعية على أن لكل جريمة ركنًا ماديًا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسًا في فعل أو امتناع وقع خلافًا لنصٍ عقابي، مفصحًا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء في زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيًا كان هذا الفعل أم سلبيًا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه؛ محورها الأفعال ذاتها، في علاقاتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية؛ إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها.
ولا يتصور بالتالي وفقًا لمؤدى هذا المبدأ أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها، بعيدًا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه.
لذلك قرر فقهاء القانون الدستوري والجنائي أن الفكرة الشريرة مهما كان رسوخها في النفس، والتصميم الإجرامي الجازم بسبق الإصرار؛ لا تقوم بهما جريمة ما بقيا مجرد ظواهر نفسية لم تتخذ سبيلها إلى التعبير المادي الخارج عن كيان صاحبها. فمادام أن النوايا والغايات والعزائم ظلت حبيسة النفوس، ولم تخرج إلى حيز التنفيذ، أو لم تتجسد في صورة مادية لا تخطئها العين؛ فلا جريمة ولا عقاب عليها.
وحينما عاقبت القوانين على الشروع في الجريمة، فقد اشترطت للعقاب عليه تحقق ركن مادي يتمثل بالبدء بتنفيذ الجريمة واتخاذ أفعال مادية ظاهرة بقصد ارتكاب جريمة حالت الظروف دون تمام ارتكابها. أما مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو الأعمال التحضيرية لذلك فلا يعتبر شروعًا؛ إذ يتعدى الشروع مرحلة مجرد الاتفاق والعزم على ارتكاب الجريمة إلى البدء فعلًا في تنفيذها، فمراحل ارتكاب الجريمة وفقًا لهذا هي: العزم ثم الشروع ثم الإتمام. فلا يكون العقاب إلا على المرحلتين الأخيرتين، وسبب العقاب؛ هو تحقق الأفعال المادية الظاهرة مناط التأثيم.
الشريعة الإسلامية – ومنذ قرون خلت – لا تعتد إلا بالأفعال المادية وظواهرها الخارجية دون غيرها مناطًا للتأثيم وعلته، والمتتبع لأقوال فقهاء الشريعة يراهم قد تناولوا بعمق ما تناوله الفقه القانوني والدستوري الحديث
فقه الشريعة والعزم على اقتراف المعصية
إن فقه الشريعة الإسلامية من قبل قد اعتد بضرورة أن يكون محل المعصية فعلًا ماديًا لكي يعاقب عليه بعقوبة دنيوية جزاءً وفاقًا، فلا يعتبر التفكير في الجريمة والتصميم على ارتكابها معصية تستحق التعزير، وبالتالي جريمة يعاقب عليها؛ لأن القاعدة في الشريعة الإسلامية أن الإنسان لا يؤاخذ على ما توسوس به نفسه أو تحدثه من قول أو عمل، ولا على ما ينتوي أن يقوله أو يعمله.
ومرد ذلك الآثار المتضافرة التي تثبت أنه لا عقاب على النيات لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : "إن الله قد تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به"، وإنما يؤاخذ الإنسان على ما يقوله من قول وما يفعله من فعل.
وفي هذا المقام يقول الإمام الشافعي (رضي الله عنه) في كتابه الأم: "إن الله، عز وجل، ظاهر عليهم الحجة فيما جعل إليهم من الحكم في الدنيا، بألا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، ألا يجاوزوا أحسن ظاهره"، ويقول في كتابه هذا أيضًا: "وبذلك مضت أحكام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، وأعلمهم جميع أحكامه على ما يظهر، وإن الله سبحانه وتعالى يدين بالسرائر".
فيتضح لنا مما سبق أن الشريعة الإسلامية -ومنذ قرون خلت- لا تعتد إلا بالأفعال المادية وظواهرها الخارجية دون غيرها مناطًا للتأثيم وعلته، والمتتبع لأقوال فقهاء الشريعة يراهم قد تناولوا بعمق ما تناوله الفقه القانوني والدستوري الحديث، فقد صال فقهاء الشريعة وجالوا في مسائل التحضير والعزم على ارتكاب الجريمة.
بيع السلاح زمن الفتن، فهو باتفاق الفقهاء حرام ويشكل معصية توجب عقابًا؛ لأن فعله ليس نية مجردة
فقد قرَّر الفقه الشافعي والفقه الحنفي أن الأعمال التحضيرية، وكذلك العزم على اقتراف الجرم، لا يدخلان في دائرة الجرم؛ لكون التحضير والعزم لا يتجاوز أن يكون وسوسة نفسية، وليس عملًا إجراميًا، ولأن الأفعال التي تصدر من الجاني يجب للعقاب عليها أن تكون معصية، ولا يكون الفعل معصية إلا إذا كان اعتداء على حق لله، أي على حق للجماعة أو حق للأفراد، وليس في الأعمال التحضيرية ما يعتبر اعتداءً ظاهرًا على حق الجماعة أو حقوق الأفراد.
ذلك إلا أن يكون العمل التحضيري معصية في ذاته، أو أن تكون الأعمال التحضيرية معصية لذاتها، كمن أراد سرقة إنسان بواسطة إسكاره؛ فإن شراء المسكِر أو حيازته يعتبر بذلك معصية يعاقب عليها لذاتها، لا لكونها أعمالًا تحضيرية لجريمة السرقة. وكذلك بيع السلاح زمن الفتن، فهو باتفاق الفقهاء حرام ويشكل معصية توجب عقابًا؛ لأن فعله ليس نية مجردة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.