تُعتبر الحروب من أعقد الظواهر البشرية التي تجمع بين السياسة والاقتصاد والثقافة، والنفس الإنسانية. وحرب غزة الحالية ليست استثناءً، بل تُبرز مجموعة من الأبعاد الفلسفية والنفسية التي تلقي بظلالها على الأفراد والمجتمعات، وتتجاوز هذه الحرب المواجهة العسكرية لتشمل جوانب عميقة من الهوية والمعنى والانتماء، ما يجعل فهمها يتطلب تحليلًا فلسفيًا ونفسيًا شاملًا.
في سياق حرب غزة، يبدو أن العنف لا يؤدي إلا لمزيد من العنف، ما يساهم في تعميق مشاعر اللامعنى والعبثية لدى الأفراد. هذا الإحساس بالعبث قد يدفع البعض إلى إعادة تقييم أهدافهم ومعاني حياتهم؛ بحثًا عن ملاذ في القيم الإنسانية البسيطة
البعد الفلسفي للحرب
- مفهوم العدالة والظلم: فلسفيًا، تثير حرب غزة تساؤلات حول العدالة والظلم، ليس فقط على مستوى الدول، بل أيضًا على المستوى الفردي. بالنسبة لكثيرين، يُنظر إلى العدالة كحق مشروع للشعب الفلسطيني في الدفاع عن أراضيه وحقوقه، بينما يعتبر الاحتلال الإسرائيلي وداعموه أن العدالة تتطلب الحفاظ على الأمن والاستقرار من خلال استخدام القوة، حتى ولو وصل بهم الأمر إلى العمى الأخلاقي.
هذا التناقض يعكس ضياع مفهوم العدالة في سياق تتشابك فيه المصالح والحقوق بشكل معقد.. الدراسات الفلسفية المتعلقة بالحرب أثبتت -وللأسف- أن هذه المفاهيم ليست ثابتة كما كان يُروج لها، بل تتأثر بالسياق الثقافي والسياسي، ما يجعلها نقطة جدل مستمرة في الصراعات.
- الهوية والانتماء: تُثير الحرب أيضًا تساؤلات حول الهوية الجماعية والفردية.. الفلسفة ترى أن الحروب غالبًا ما تُستخدم كوسيلة لتعزيز الهوية الجماعية على حساب الآخر. في حرب غزة، نجد أن الهوية الفلسطينية تُعزّز من خلال المقاومة، بينما تُعزّز هوية الاحتلال الإسرائيلية من خلال إبادة الآخر، مع تحاوز كل الخطوط الحمراء تحت ذريعة الدفاع عن النفس.
دراسات مثل تلك التي أجراها إدوارد سعيد تناولت هذا الموضوع من خلال منظور متشابك يجمع بين التحليل الثقافي والفلسفي والسياسي. في كتاباته مثل "الاستشراق" (1978)، و"تمثيلات المثقف" (1993)، يُظهر كيف أن الصراعات تُعيد تشكيل الهوية وتعمّق مشاعر الانتماء، حيث تُصبح الهوية الفلسطينية رمزًا للمقاومة والكرامة في مواجهة الاحتلال.
الفلاسفة -مثل فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى- يؤكدون أن البحث عن معنى في المعاناة يمكن أن يحوّل التجارب المؤلمة إلى فرص للنمو الروحي والنفسي
يرى سعيد أن الهوية ليست ثابتة أو جوهرية، بل هي متغيرة ومتعددة، تتشكل من خلال العلاقات الثقافية والسياسية. في سياق الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، يناقش سعيد كيف تتشكل الهوية الفلسطينية من خلال المقاومة ضد الاحتلال والاضطهاد، وهو يعتبر أن المقاومة ليست فقط عسكرية، بل هي أيضًا ثقافية، حيث يسعى الفلسطينيون للحفاظ على ثقافتهم وتاريخهم في مواجهة محاولات الطمس والإلغاء.. الهوية – حسب سعيد – تُبنى في مواجهة الآخر، ما يعزز الشعور بالانتماء والجماعية في أوقات الصراع.
- اللامعنى والعبث: يطرح الصراع سؤالًا جوهريًا حول معنى الحياة في ظل العنف المستمر، والفلاسفة -مثل جان بول سارتر وألبير كامو- ناقشوا فكرة العبث واللامعنى في العالم المليء بالعنف والمعاناة.
في فلسفة العبث كما قدمها ألبير كامو، يُطرح السؤال حول كيفية مواجهة عالم مليء بالعنف والظلم واللامعنى.. الصمود في وجه الظلم يمكن أن يُعتبر رفضًا للاستسلام للعبثية، الصمود هنا يعني رفض الانصياع للقوى التي تسعى لتفريغ الحياة من معناها من خلال العنف والاضطهاد. يُصبح الصمود بذلك فعلًا فلسفيًا يعبّر عن إرادة العيش بكرامة، والإصرار على إعطاء معنى للحياة، حتى في أحلك الظروف.
في سياق حرب غزة، يبدو أن العنف لا يؤدي إلا لمزيد من العنف، ما يساهم في تعميق مشاعر اللامعنى والعبثية لدى الأفراد. هذا الإحساس بالعبث قد يدفع البعض إلى إعادة تقييم أهدافهم ومعاني حياتهم؛ بحثًا عن ملاذ في القيم الإنسانية البسيطة، أو في التمسك بالأمل رغم الظلام المحيط.
- إضفاء المعنى على المعاناة: الفلاسفة -مثل فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى- يؤكدون أن البحث عن معنى في المعاناة يمكن أن يحوّل التجارب المؤلمة إلى فرص للنمو الروحي والنفسي. في سياق الحرب، الصمود يُمكّن الأفراد من منح معاناتهم معنى أكبر.. مواجهة الظلم بكرامة وصمود يمكن أن يُنظر إليها كفعل مقاومة يحمل في طياته رفضًا للظلم وسعيًا لتحقيق العدالة، هذا المعنى الذي يُضفى على المعاناة يُعزز الشعور بالهدف والأمل، ويمنح الأفراد القوة النفسية للاستمرار.
رغم القسوة التي تفرضها الحرب، فإنها تُبرز أيضًا جانبًا نفسيًا آخر وهو التضامن.. في غزة، نجد أن المجتمعات تُظهر مستويات عالية من التكاتف والدعم المتبادل، ما يعكس الرغبة في البقاء والاستمرار رغم الظروف الصعبة
البعد النفسي للحرب
- الصدمة النفسية: من الناحية النفسية، تترك الحروب آثارًا عميقة على الأفراد، خصوصًا الأطفال والنساء، وقد كشفت دراسة من جامعة الأزهر في غزة أن حوالي 90% من الأطفال في غزة يعانون من شكل من أشكال الصدمة النفسية؛ نتيجة للعنف المستمر.. هذا النوع من الصدمات لا يقتصر فقط على الأذى الجسدي، بل يمتد ليشمل تغيرات جوهرية في كيفية فهم الفرد للعالم من حوله.
الصدمة النفسية تؤدي إلى اضطرابات مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الذي يجعل الأفراد يعيشون في حالة من الخوف والقلق المستمرين، الأمر الذي يساهم بشكل كبير في تكوين شخصيتهم المستقبلية، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية.
- التكيف النفسي وآليات الدفاع: في ظل الحرب، يلجأ الأفراد إلى آليات دفاع نفسية متعددة مثل الإنكار والتبرير والتكيف النفسي. هذه الآليات تساعد الأفراد على التأقلم مع الواقع المرير، لكنها قد تؤدي أيضًا إلى تشويه الحقيقة، أو تعزيز النزعات العدمية.. على سبيل المثال، يُلاحظ في غزة أن بعض الأفراد ينكرون حجم المأساة كتقنية دفاع نفسي، بينما يتبنى آخرون رؤية أكثر فلسفية تركز على الصمود والتحدي كوسيلة لمواجهة الظلم.
من خلال فلسفة القوة -كما طرحها ميشيل فوكو- يمكن النظر إلى الصمود كنوع من أنواع القوة الناعمة التي تمارسها الجماعات المضطهدة في مواجهة الأنظمة القمعية. فوكو يرى أن القوة ليست فقط في التحكم المباشر، بل في القدرة على التكيف والمقاومة بطرق تتجاوز القهر المباشر، الصمود -كفعل مقاومة- يتحدى السلطة ويفرض واقعًا جديدًا يمكن من خلاله بناء مجتمع أكثر عدالة.
التحليل الفلسفي والنفسي للصراع يساهم في فهم أعمق لتأثيراته، ما يفتح المجال للتفكير في حلول تتجاوز العنف، وتعزز الإنسانية في مواجهة الكوارث
- التضامن الاجتماعي والنفسي: رغم القسوة التي تفرضها الحرب، فإنها تُبرز أيضًا جانبًا نفسيًا آخر وهو التضامن.. في غزة، نجد أن المجتمعات تُظهر مستويات عالية من التكاتف والدعم المتبادل، ما يعكس الرغبة في البقاء والاستمرار رغم الظروف الصعبة.
هذا التضامن يمكن أن يُفسر نفسيًا كوسيلة لتعزيز الشعور بالأمان والانتماء في مواجهة الفوضى، والأبحاث النفسية تشير إلى أن هذا النوع من التضامن يُعدّ وسيلة فعّالة للحد من آثار الصدمات النفسية، وتعزيز قدرة الأفراد على الصمود.
تُبرز حرب غزة الحالية الأبعاد الفلسفية والنفسية التي تتجلى في مفهوم العدالة، الهوية، المعاناة والمعنى، بالإضافة إلى الآثار النفسية العميقة على الأفراد والمجتمعات. هذه الحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي مواجهة على مستوى الوجود الإنساني بأسره.
التحليل الفلسفي والنفسي للصراع يساهم في فهم أعمق لتأثيراته، ما يفتح المجال للتفكير في حلول تتجاوز العنف، وتعزز الإنسانية في مواجهة الكوارث.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.