كان هذا عنوانًا لوثائقي تعلن عنه قناة الجزيرة الوثائقيّة بين الحين والآخر، حيث تُعرض مقتطفات منه، فتسأل أحدهم: هل أخذت اللقاح؟! فيجيب ممتعضًا: "لا".. وآخر على الوتيرة ذاتها. جميع الإجابات جاءت بالنفي! انزعجت قليلًا، وشعرت بمسؤولية ما، فقررت أن أكتب حكايتي مع لقاح كورونا.
اتخذت قرارًا لا رجعة فيه منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه الإعلان عن لقاحات كورونا -سواء الأميركية بأنواعها، أو حتى الصينيّة أو الروسيّة- أن أكون من أوائل المُتقدمين لأخذه، فإن لم آخذه أنا، فمن؟! تقدمت بالفعل لكوني من الكوادر الطبية، الرد لم يستغرق وقتًا طويلًا، هما يومان على الأكثر بعد التسجيل على الموقع المخصص لذلك.. وصلتني رسالة مفادها الطلب بأن أذهب إلى مستشفى في عاصمة المحافظة لتلقي الجرعة الأولى.
لم أتناول مُسكّنات ولا حتى خافضات حرارة، لكي أتجنب حرمان الجسم من الوقت الكافي للتفاعل مع اللقاح، وهو ما يُقلل من فاعليته، طبقًا لما قرأته في دراسات ألمانيّة منشورة عن باحثين ألمان في مجلات طبية لها وزنها
علمتُ مصادفةً في ذلك الوقت أنّ مستشفى مدينتي الصغيرة قد أُنشئت بها وحدة حديثًا، فاتصلت مجددًا بالرقم الساخن بناءً على نصيحة زميلة فاضلة، وغيرت المكان. وصلتني الرسالة في يوم التعديل ذاته فجرًا: "توجّه للمستشفى الذي طلبت لتلقّي الجرعة الأولى من اللقاح".. تساءلت في نفسي متعجبًا: ما كُلّ هذه السرعة؟ لا أحد غيري متقدم ليأخذ اللقاح؟!
أخذت لقاح "أسترازينيكا" حوالي الساعة الثانية ظهرًا في يوم رمضاني ولا أروع، نهاره معتدل الحرارة، فيه نسمة رطبة على غير المعتاد في ذلك الوقت من العام، ثمّ أكملت يومي بشكل طبيعي، عملًا وإفطارًا وتراويحَ حتّى قُبيل السحور بوقت قصير، حيث خطر ببالي سؤال: أين الأعراض التي يسببها اللقاح؟! أكلُّ ما يقولونه عنه ليس إلّا محض افتراء، أم أنّ ثمة مشكلة به؟!
لم أكن أعرف أنّ هذا هو السكون الذي يسبق العاصفة؛ لم تمرّ لحظات حتّى قاربت الساعة الثانية فجرًا، أي بعد مرور اثنتي عشرة ساعة تقريبًا، داهمني هبوط شديد جعلني لا أقدر على تناول السحور، أو حتّى القيام لصلاة الفجر، ثُمّ شعرت بصداعٍ خفيف، صار يتزايد باطّراد كبير، مع التعب والألم العضلي وضيق التنفس وارتفاع درجة الحرارة التي وصلت حتى 37.6 درجة مئوية (كنت مطمئنًا مادامت لم تعبر 38 درجة مئوية)، رافقتها قُشعريرة وحمّى أصابتني بشعورٍ من عدم الارتياح، صرت مُضطربًا فلا أظل لفترة مستلقيًا أو جالسًا أو قائمًا، مُترددًا بين الأوضاع الثلاثة قلقًا، ما حرمني من النوم حتى ظهر اليوم التالي.
في كل هذه الفترة العصيبة لم أتناول مُسكّنات ولا حتى خافضات حرارة، لكي أتجنب حرمان الجسم من الوقت الكافي للتفاعل مع اللقاح، وهو ما يُقلل من فاعليته، طبقًا لما قرأته في دراسات ألمانيّة منشورة عن باحثين ألمان في مجلات طبية لها وزنها. في هذه الأثناء لم تكن هناك دراسات أو بروتوكول علاجي، كل ما كان في العالم مجرد اجتهادات لمواجهة الجائحة، ليس أكثر.
تهاويت ولم أعد أستطيع أن أصمد، استسلمت تمامًا فأخذت حقنة مضاد للالتهاب، فبدأت أغفو غفواتٍ متقطعة من بعدها، وظلّ الهبوط مصاحبًا لي حتى السادسة قبل الغروب بقليل، ثُمّ زالت الأعراض تدريجيًا حتّى أضحت كأنْ لَم تكن
ظللتُ صامدًا ومُتحملًا كدرعٍ يتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى، حتى الساعة الحادية عشرة صباحًا، لكن تحت وطأة هذا الكم الرهيب من الألم الذي ينبعث من كلّ عضلة من عضلات جسدي، حاولت مكافحة الحرارة بكمّادات الماء البارد لتهبط تارةً، وترتفع تارة أخرى، وكانت مصحوبة باحتقان شديد في الأنف، ووجعٍ متوسط في الحلق وجفافه.
حقًا، إنّها تسعُ ساعات من العذاب المتواصل، وكلُّ ما جال ببالي وقتئذٍ: لو كان هذا اللقاح متوفرًا من قبل لكانوا استعملوه كأداة من أدوات التعذيب في أقبية الجستابو، خلال فترة الحكم النازي قبل الحرب العالمية الثانية، أو في زنزانات محاكم التفتيش الإسبانيّة؟!
تهاويت ولم أعد أستطيع أن أصمد، استسلمت تمامًا فأخذت حقنة مضاد للالتهاب، فبدأت أغفو غفواتٍ متقطعة من بعدها، وظلّ الهبوط مصاحبًا لي حتى السادسة قبل الغروب بقليل، ثُمّ زالت الأعراض تدريجيًا حتّى أضحت كأنْ لَم تكن.
هذه تجربتي الشخصيّة التي لا تُلزم أحدًا، وقد تختلف من شخص لآخر، ويختلف مدى تفاعل جسمه مع اللقاح. وقد يفهم بعضكم من حكايتي تلك أني أهاجم اللقاح وأنّي ضده ولا أنصح أحدًا بأخذه، وفي الوقت نفسه قد يرى بعض آخر أني أروج للقاح وأؤيده، ولكن بطريقة غير مباشرة.
اللقاحات -برغم كُل ما يُشاع عنها أو يُنبئونك به، من أنّها قتلت فلانًا أو أصابت فلانًا بكذا أو كذا..- هي بحق نعمة من الله أنعمها على أجيالنا، حتّى لا تفعل بنا كورونا مثلما فعلت الكوليرا في القرن التاسع عشر في جميع أنحاء العالم
قبل أن أوضح غايتي من قصِّ التجربة عليكم، دعونا نتّفق قبل أي شيء على قاعدة مهمة لا بُدّ أن نضعها بين مزدوجين لإبرازها: "إنّ الأعراض الجانبيّة مهما بلغت شدّتها وقسوتها، فهي لا تبلغ مِعشار أعراض الإصابة بالفيروس الحقيقي".. أعتقد أنّ الهدف الأساسي من الكتابة حول اللقاح- سواء لكورونا أو غيرها- هو في:
- أولًا: أن تكون مُستعدًا لتلك الأعراض حين تُداهمك، ولا يصيبك الجزع أو الخوف، وأن تعلم أنّها مهما بلغت من شِدّة، فإنها ستختفي خلال فترة قصيرة أقصاها اثنتان وسبعون ساعة.
- ثانيًا: لو وجدت في نفسك عدم القدرة على تحمل تلك الأعراض فاختر اللقاحات التي لا تُحدث أعراضًا جانبية، أو بالأحرى- حتّى أكون من الدقة بمكان- تُحدث أعراضًا خفيفة بصعوبة تُلاحظ.
- ثالثًا: أردت تنبيه القائمين على الأمر أنّ الأعراض الجانبيّة شديدة الوطأة؛ لتؤخذ في الحسبان حين استيراد الجرعات القادمة.
ثم يأتي السؤال الأهم: هل ستأخذ الجرعة الثانية أم لا؟! بكل تأكيد سآخذ الجرعة الثانية في موعدها، إن شاء الله، مع اتّخاذ الاحتياطات اللازمة، من تناول المُسكنات وخافضات الحرارة لمدة 48 ساعة، وكذلك أدوية تساعد على دعم القلب وعدم تجلط الدم لمدة أسبوع إلى أسبوعين على الأكثر، وهي ليست – كما يزعم البعض – توقف عمل اللقاح.
في الأخير، اللقاحات -برغم كُل ما يُشاع عنها أو يُنبئونك به، من أنّها قتلت فلانًا أو أصابت فلانًا بكذا أو كذا..- هي بحق نعمة من الله أنعمها على أجيالنا، حتّى لا تفعل بنا كورونا مثلما فعلت الكوليرا في القرن التاسع عشر في جميع أنحاء العالم، انطلاقًا من مستودعها الأصليّ في دلتا نهر الغانج بالهند، إذ حصدت أرواح الملايين من البشر في جميع القارات، أو مثلما فعل الطاعون الأسود الذي اجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352م، وتسبب في موت ما لا يقلّ عن ثلث سكان القارة.
إجابة من متخصص ومجرب في آن معًا عن السؤال المطروح من الوثائقي: هل تثق في اللقاحات؟! نعم، بكل تأكيد.. ليس ثمة خيار آخر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.