شعار قسم مدونات

من النص إلى القارئ: الترجمة بين الأصالة والإبداع (1)

يعد مجال الترجمة من المهام التي يمكن إنجازها عن بعد
عملية الترجمة الأدبية ليست مجرد نقلٍ للمعنى بل هي عملية إعادة خلق للنص (شترستوك)

إن الرواية المترجمة تُمثّل جسرًا بين ثقافتين، وحلقة وصل بين لغتين، وأداةً تجمع بين فنّ المؤلف الأصلي وإبداع المترجم، فهي تتيح لنا فرصة الاطلاع على عوالم وأفكار ربما لم تكن متاحة لنا لولا هذا الجسر اللغوي، إلا أن هذه العمليّة ليست مجرد نقل للمعاني من لغة إلى أخرى، وإنما هي حوار دقيق بين النص الأصلي والمترجم، وخيال الكاتب وأسلوب المترجم.

من هنا ينشأ التساؤل الجوهري: إلى من ينتمي النص المترجم؟ أيبقى النص ملكًا للمؤلف بروحه وفكره وأحاسيسه التي سكبت في الكلمات، أم أن المترجم يستحوذ على النص، لتصبح الكلمات مرآة لذائقته وأسلوبه الشخصي؟ إن هذه التساؤلات تعكس تعقيدات العملية الإبداعية التي تشترك فيها مشاعر الكاتب وخبرة المترجم.

النص الأدبي، بما يحمله من بنية معقدة وتفرد بخصائص جوهرية تحدد هويته ضمن نوع معين من الأدب، يصبح من المستحيل نقله بدقة إلى اللغة المستهدفة دون الإلمام ببعض الجوانب المعرفية، ومن ذلك الإلمام بالمبادئ الأولى للفنون البصرية والسمعية

التحديات الجوهرية في ترجمة الأدب:

تتجلى التحديات التي يواجهها المترجم الأدبي في محاولته الحفاظ على جوهر النص الأصلي في تعقيد الأحاسيس والمعاني التي تشتمل عليها الكلمات؛ إذ إنّ عملية نقل هذه الأحاسيس بدقة بين اللغات ليست يسيرة، خاصةً عندما تحتوي الألفاظ المجردة على معانٍ متعددة، ما يفرض على المترجم مسؤولية عظيمة في اختيار المفردات التي تعبّر عن المعنى الحقيقي للنص.

لكن هذه الصعوبات لا تقتصر على الألفاظ فقط، بل تمتد إلى تراكيب الجمل والأساليب البلاغية؛ فاللغة الإنجليزية تعتمد على ترتيب الكلمات لإيصال المعنى، بينما تتمتع اللغة العربية بمرونة أكبر في البناء اللغوي، ما يجعل من الصعب أحيانًا نقل التراكيب البلاغية الإنجليزية إلى اللغة العربية دون أن تفقد شيئًا من دلالاتها أو تأثيرها.

وما يزيد من تعقيد المهمة، هو أن عملية الترجمة الأدبية ليست مجرد نقلٍ للمعنى، بل هي عملية إعادة خلق للنص، فالنصوص الأدبية تتسم بتعقيداتها الأسلوبية والفكرية، والتي تتطلب من المترجم فهمًا عميقًا ليس فقط للغة، بل للثقافة التي أنتجت هذا النص.

وقد أشار شيخ المترجمين الدكتور محمد عناني في كتابه: "الترجمة الأدبية: بين النظرية والتطبيق" إلى بعض الركائز الأساسية التي قد يغفلها المترجم الأدبي في ترجماته، خصوصًا تلك التي تعتمد على الإحالة وكشف دلالات الألفاظ، بينما قد تُهمَل الركائز المعنوية أو المغزى والتأثير الذي يسعى الأديب لإحداثه في نفس القارئ.

فالنص الأدبي، بما يحمله من بنية معقدة وتفرد بخصائص جوهرية تحدد هويته ضمن نوع معين من الأدب، يصبح من المستحيل نقله بدقة إلى اللغة المستهدفة دون الإلمام ببعض الجوانب المعرفية، ومن ذلك الإلمام بالمبادئ الأولى للفنون البصرية والسمعية، مثل: توافق الألوان والأشكال أو تفاوتها وتناقضها، وفهم مغزى الاتساق في مخارج الأصوات والإيقاعات، والحسّ الموسيقي بشكل عام، وكذلك مغزى التكرار وألوانه وأنواعه، إضافة إلى دلالات المجاز والكناية والأمثال الشعبية والحكم التراثيّة، فضلًا عن القيم الدينية والعادات الاجتماعية.

يتضح أن الترجمة الأدبية تتطلب من المترجم إلمامًا عميقًا بكافة جوانب النص الأصلي، بما في ذلك الأبعاد الثقافية والبلاغية والنغمية، لضمان نقل المعاني والمشاعر بدقّة وصدق

ويستعرض الأستاذ حفيظ بورحيم في مقال له بعنوان: "صعوبات الترجمة الأدبية" أبرز التحديات التي يواجهها المترجم الأدبي، فيقول: "من بين أهم الصعوبات التي يلْقَاها المترجم صعوبة ترجمة الألفاظ، وخصوصًا المجردة منها، وهي التي تحيل على العواطف والأفكار والانفعالات. وهذه الألفاظ تحتمل أكثر من معنى واحد، وقد يتم ذلك في سياق نصّ بعينه، فضلًا عن النصوص المتباينة واستعمالات الألفاظ في سياقات تستوعب مدلولات كثيرة، وقد تكون حمّالة أوجه قريبة مثل النص الإنجليزي الذي أورده الدكتور (يقصد د. محمد عناني): "asked about civilian victims the commander cynically replied a regular harvest» pressed to explain why no had been made to reduce civilian losses he shrugged his shoulders and smiled mysteriously perhaps one had to be cynical to win a «war.6″.

وهذه المشكلة تجعل معاني اللفظ تتداخل ويشتبك بعضها ببعض، لكن الفروق تظل قائمة دائمًا، والخطأ قد نشأ عن التصور المعجمي الذي يرى أن لكل كلمة ما يقابلها في لغة الأجنبي، بحيث إن بينهما عقدًا يلزم اقترانهما معًا إلى الأبد، وهذا الأمر يطول المجردات الحديثة أيضًا مثلما يطال المجردات القديمة."

ويكشف حفيظ في موضع آخر عن أبرز المشكلات التي تعترض المترجم الأدبي، قائلًا: "من بين أهم أسباب مشكلات ترجمة التراكيب البلاغية الإنجليزية – مثلًا إلى اللغة العربية – اختلاف هذه التراكيب عن محسناتنا المعنوية والبيانية والبديعية؛ لأن اللغة الإنجليزية تعتمد على ترتيب الكلمات في الجملة لإخراج المعنى، بينما تتمتع اللغة العربية مثل اللاتينية بحرية أكبر في البناء".

ويضيف حفيظ: "يفترض محمد عناني أن من أهم الأسباب التي تجعل نقل التراكيب والحيل البلاغية عملًا صعبًا هو ارتباطها المفصلي بالدراما التي لم يعرفها العرب في القديم".

كما يوضح حفيظ في موضع آخر من مقاله "رؤية د. عناني في ترجمة النغمة في النص الأدبي"، قائلًا: يعرفها د. عناني بأنها تتصل بموقف الكاتب من المادة الأدبية، فهي تختلف تبعًا لهذا الموقف الذي قد يكون جادًا أو هازلًا. وقد تم إهمالها في الأدب على الرغم من أهميتها التي تستحق الإبانة والتوضيح، ويفترض أن سبب الإهمال هو تعلقنا الملحّ بالجد الذي كان على حساب الهزل، وهو افتراض فيه نظر.

يقول في هذا الصدد: "ولسوف يسهل على قارئ الترجمات الحديثة أن يكتشف النغمات المتفاوتة حين يلتزم المترجم الأمانة في ترجمته فلا يجفل من استخدام كلمة عامية أو تعبير عامي يساعده على نقل النغمة، وحين يدرك أن للغة مستويات هي التي تساعد الكاتب على الصعود أو الهبوط في نغماته".

ومن خلال هذه الرؤية يتضح أن الترجمة الأدبية تتطلب من المترجم إلمامًا عميقًا بكافة جوانب النص الأصلي، بما في ذلك الأبعاد الثقافية والبلاغية والنغمية، لضمان نقل المعاني والمشاعر بدقّة وصدق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان