الواقع الجديد، الذي نعيشه في ظل الأزمات الاجتماعية والثورة التقنية، يكشف عن الحاجة الملحة لإعادة تقييم مفاهيمنا واحتياجاتنا النفسية.. فكيف يمكن أن يكون دور الإعلام الاجتماعي محوريًا في هذه المرحلة؟
في عالم يتغير بسرعة مذهلة، حيث تتداخل التقنيات الحديثة مع حياتنا اليومية، وتتزايد التأثيرات الاجتماعية بشكل غير مسبوق، يصبح البحث عن الاستقرار والتوازن أمرًا حيويًّا ومُلحًّا؛ فنحن في فترة انتقالية.. من عالم تقليدي إلى عالم بلا حدود
ما الذي تغيّر؟
قد تسأل نفسك: مادام أنَّ احتياجات الإنسان في كل زمان ومكان هي ذاتها، لم تتغير، ولا تتغير احتياجات عاطفية وجسدية وعقلية أيضًا.. فما الذي تغير؟
لم نعد نعيش في حارات ضيقة تفصلنا جدران، ولم تعد أصواتنا تُوقظ غفوة العاملين بعد العصر، وليالينا مظلمة جدًا لولا أشعة شاشات الهاتف، نحن- جيل الثورة التقنية- في المنتصف، بين ماضينا وتفاصيله، وبين حاضرنا البعيد جدًا عنه.. كل شيء أصبح مختلفًا، بدءًا من أدوات تنظيف المنزل، حتى أسلوب الحياة والعلم والعمل، واختيار شريك الحياة.
والآن، قد يمر بذاكرتك شريط سريع؛ الرسائل الورقية، ورائحة الكتب والحبر، والأصوات العالية، وحتى الجلوس على شرفة الدار.. وتتوقف بسرعة أيضًا، فأنت في زمن السرعة!
لقد تغيرت الأدوات أو أساليب الحياة، ولكن الظواهر الاجتماعية هي ذاتها، انتقل التحرش من الحارات الشعبية إلى وسائل التواصل، كان من الناس من يترقب الآخرين من خلال الشرفة -مثلًا- أو النافذة، واليوم من خلال الـ "ستوري".. وقس على ذلك كل شيء، وأضف عليه السرعة والسهولة والكثرة.
كلما تطورنا باتجاه المدنية تطورت احتياجاتنا النفسية والفكرية
في عالم يتغير بسرعة مذهلة، حيث تتداخل التقنيات الحديثة مع حياتنا اليومية، وتتزايد التأثيرات الاجتماعية بشكل غير مسبوق، يصبح البحث عن الاستقرار والتوازن أمرًا حيويًّا ومُلحًّا؛ فنحن في فترة انتقالية.. من عالم تقليدي إلى عالم بلا حدود، وقد أثرت الثورة التقنية، والانفتاح الاجتماعي، وارتفاع نسب الهجرة واللجوء بشكل كبير على حياتنا.
في مجلة "Current Psychiatry Reports" (2018)، نشرت دراسة بعنوان "The Impact of Digital Technology on Mental Health: A Review" .. الدراسة تُشير إلى أن التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤديا إلى مشاكل نفسية مثل القلق والاكتئاب، ما يعزز الحاجة لإعادة تقييم كيفية التعامل مع هذه التغيرات (رابط: The Impact of Digital Technology on Mental Health). وهنا قد تجد- مثلًا- إجابة عن السؤال: ما هي أسباب ارتفاع نسب الاكتئاب؟
"غياب العلاقات الحقيقية والتواصل العميق ووجود البديل بسهولة".. قد يكون هذا واحدًا من الأسباب. أما على الصعيد العربي بشكل خاص، فنحن نتحدث عن جيل وُلد من رحم الثورة، وجد نفسه بدون مقدمات خارج الصندوق! وما بين الضياع والإبداع تفاصيل حكايات، مهما تشابهت عناوينها، تجدها اختلفت بنتائجها وبأدوات التعامل معها. ولكنْ – في جميع الحالات – كل إنسان اليوم يستحق أن تُكتَب قصته.. الأموات والأحياء ليسوا مجرد أرقام؛ لكل إنسان قصة هو البطل فيها.
عاش المجتمع العربي بشكل عام -مع اختلاف التفاصيل- سنوات في غيبوبة، ومع صيحات الثورة نحو الوعي بالحقوق والواجبات وجد نفسه يحتاج إلى ثورة فكرية اجتماعية!
واقع جديد
كلما تقدمنا نحو المدنية والتكنولوجيا، تزداد احتياجاتنا النفسية والفكرية تعقيدًا، ما يتطلب منا فهمًا أعمق لذواتنا؛ من رحم الجنون والحاجة إلى التوازن، نجد أننا نحتاج للإبحار في مختلف الظواهر والقضايا الاجتماعية والغوص في أعماقها، لنعكس صورًا بين الماضي والحاضر، نُحاكيها من خلال طرح التساؤلات بصوت عالٍ، لا لنُجيب عنها، بل لنؤكد على ضرورة إعادة ترتيب أوراقنا.. كل إنسان بحسب ظروفه وإمكاناته.
لقد عاش المجتمع العربي بشكل عام -مع اختلاف التفاصيل- سنوات في غيبوبة، ومع صيحات الثورة نحو الوعي بالحقوق والواجبات وجد نفسه يحتاج إلى ثورة فكرية اجتماعية!
ثمة فوضى.. فوضى بالمفاهيم، فما هي حقوق الإنسان مثلًا؟ أهي فقط التعبير عن الرأي وحرية الكلمة، أم الحق بالحياة، بالسكن، بالغذاء، بالتعليم، بالصحة؟ وقبل أن يحصل المواطن على كل هذا، كيف يمكن أن نقول عن بقعة جغرافية ما إنّها وطن؟ وما هي الحرية؟ وما هو الحياء؟ وما هي الكرامة؟ ومن هو الرجل؟
الانتقال إلى عالم بلا حدود
في ظل ضجيج المقارنات والإيقاع السريع للعصر، يصبح تقبل الذات والتفهّم العميق لاحتياجاتنا الشخصية أساسًا لتحقيق التوازن والهدوء الداخلي.
عصر الثورة التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي قد أحدث تغييرات جذرية في كيفية تعاملنا مع العالم والآخرين؛ أصبحنا نعيش في بيئة متقلبة ومليئة بالتحديات، ما يجعل من الضروري أن نفهم أنفسنا والواقع من حولنا بعمق.. التغير السريع والضغوط الاجتماعية قد يجعلاننا نشعر بالتشتت والضياع.
تجاوز الإعلام -وخصوصًا مع بروز الإعلام الجديد- دوره التقليدي كسلطة رابعة، ليصبح السلطة الأولى التي تؤثر بشكل مباشر على عقول وقلوب الناس؛ فهو يمتلك القدرة على بناء أو هدم ثقافات، وتعزيز أو تهميش قيّم
دور الإعلام الاجتماعي في المجتمع
من المهم أن نسلط الضوء على دور الإعلام الاجتماعي في تفكيك الإشكاليات التي تواجهنا، سواء على مستوى الفرد في علاقته مع ذاته، أو على مستوى المجتمع بشكل عام. إذ يساهم الإعلام الاجتماعي في تشكيل وعينا بالعالم من حولنا، من خلال مشاهد تعكس واقعنا المعاصر، وتطرح تساؤلات تتعلق بالحياة الشخصية والاجتماعية، سواء في المسلسلات أو الأغاني أو البرامج الحوارية.
لقد تجاوز الإعلام -وخصوصًا مع بروز الإعلام الجديد- دوره التقليدي كسلطة رابعة، ليصبح السلطة الأولى التي تؤثر بشكل مباشر على عقول وقلوب الناس؛ فهو يمتلك القدرة على بناء أو هدم ثقافات، وتعزيز أو تهميش قيّم، وإحياء أو طمس مفاهيم إنسانية وثقافية مختلفة! لكن يبقى السؤال الأهم: من يقود هذا الإعلام بشكل عام، والإعلام الاجتماعي بشكل خاص؟
أليس من الضروري أن نعيد النظر في مفهوم الإعلام بكافة تخصصاته، وخاصة الإعلام الاجتماعي؟ فإذا كان هذا الإعلام هو الوسيلة الأولى للوصول إلى الأجيال الجديدة، ألا يتطلب ذلك تطوير أدوات وبرامج جديدة تتماشى مع الواقع المتغير؟
في الوطن العربي، ما زال الإعلام الاجتماعي غالبًا يتفاعل مع الأحداث بشكل آنيّ ومؤقت، دون معالجة عميقة ومستدامة. فعلى سبيل المثال، الإعلام الاجتماعي السوري، سواء من خلال الأغاني أو المسلسلات أو المقابلات التلفزيونية، غالبًا ما يكون بعيدًا عن تصوير الواقع السوري الحقيقي، بل إنه أحيانًا يساهم في ترسيخ مفاهيم معينة حول النظام، أو تشويه حقوق الإنسان وتاريخه واحتياجاته.
الإعلام الاجتماعي هو الذي يُشكل هُوية الإنسان والمجتمع، وهو الذي يدخل قلوب وعقول الجميع بدون جواز سفر؛ ولذلك نحن نحتاج إلى إعادة تصميم وابتكار الحلول المجتمعية في ظل التحديات الاجتماعية
إن الأغاني والمسلسلات والبرامج التلفزيونية، وكذلك السوشيال ميديا، وحتى الألعاب الإلكترونية، جميعها أدوات في يد الإعلام الاجتماعي، ولكن يجب أن نستخدم هذه الأدوات بذكاء ووعي، وأن نأخذ دورًا كبيرًا في توجيهها بما يخدم مصالح المجتمع.
في ظلّ الظروف الصعبة التي عاشها المجتمع العربي، والتي أثرت على جميع جوانب حياته النفسية والاجتماعية، أصبح من الضروري تعزيز مفاهيم حبّ الذات وتقديرها بعيدًا عن القوالب النمطية، وكذلك تحسين العلاقات الأسرية من خلال تعزيز لغة التواصل العاطفي والمشاعري.. ويجب أن يكون للإعلام الاجتماعي دور فعّال في تحقيق هذه الأهداف.
الإعلام الاجتماعي هو الذي يُشكل هُوية الإنسان والمجتمع، وهو الذي يدخل قلوب وعقول الجميع بدون جواز سفر؛ ولذلك نحن نحتاج إلى إعادة تصميم وابتكار الحلول المجتمعية في ظل التحديات الاجتماعية في الوطن العربي، وكذلك التحديات الاجتماعية في الغرب الذي استقبل الملايين من أصول عربية.
لذلك، وفي ظل صراع الهُوية وانفتاح العالم على بعضه، نحتاج إلى ممارسات وأدوات إبداعية، فهل يُمكن للإعلام العربي – وبالتحديد الاجتماعي – أن يعيد النظر بأدواته ليواكب العالم الجديد، وليكون أداة بناء وتطوير لا هدم وتشويه، كمستثمر حقيقي في السلوك الاجتماعي، لتحسين الأداء وتوجيه السلوكيات الفردية والجماعية؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.