بعد هدوء نسبيّ استمر قرابة 18 عامًا على انتهاج المقاومة الفلسطينية العمليات الاستشهادية كأسلوب أساسي لمواجهة الاحتلال، تخللتها عمليات محدودة أو محاولات لم تكتمل، اعتُقل مخططوها أو منفذوها، تبنَّت كتائب القسام بالاشتراك مع سرايا القدس عملية استشهادية في مكان وزمان فاجأا الجميع.
حيث دوّى انفجار وقع بجانب شاحنة في شارع هاليحي بمدينة تل أبيب مساء الأحد 18 أغسطس/آب 2024، بشكل أربك الاحتلال وأفقده القدرة على تفسير خلفيته وحيثياته في بداية الأمر، خصيصَى أن الانفجار الذي أدى لوقوع قتيل وجريح، هز قلب العاصمة الاقتصادية للكيان، المدينة الأكثر تحصينًا ومنعة حسب ما كان يعتقد الاحتلال لوقت طويل، لكن أحياء تل أبيب وشوارعها ومقاهيها وباصاتها تشهد على عشرات العمليات الاستشهادية خلال العقود الثلاثة الماضية.
لا شك أن إعادة تفعيل العمليات الاستشهادية وفي مكان مثل داخل الخط الأخضر، تشكّل تحديًا كبيرًا لجيش الاحتلال وأجهزته، وسيحمل ذلك بعض العبء عن أكتاف غزة، وقد يجعل الكيان يعيد بعض حساباته في هذه المعركة
ولا شك أن هذه العملية أثارت مخاوف المؤسسة الأمنية الصهيونية من عودة شبح العمليات الاستشهادية إلى الداخل المحتل، حيث أعلن (الشاباك) وجهاز الشرطة عن رفع حالة التأهب القصوى في مركز الكيان، فالعملية نُفذت بعبوة ناسفة تزن 8 كيلوغرامات من المتفجرات كان يحملها في حقيبة على ظهره المنفذ الذي تتبعته كاميرات المراقبة، وكشف الاحتلال عن اسمه يوم الخميس 22 أغسطس/آب، وهو الشاب وتاجر السكاكر جعفر منى، ابن مدينة نابلس في الضفة الغربية.
وفكرة إعلان القسام عن "عودة" العمليات الاستشهادية أمر مثير للاهتمام والنقاش فلسطينيًا، ومرعب لدولة الاحتلال، إذ يأتي الإعلان عنها في ظل معركة طوفان الأقصى التي تتحمل فيها غزة الكلفة الكبرى والعظمى من الحرب، ولا شك أن إعادة تفعيل هذا الأسلوب من العمل المقاوم وفي مكان مثل داخل الخط الأخضر، تشكّل تحديًا كبيرًا لجيش الاحتلال وأجهزته، وسيحمل ذلك بعض العبء عن أكتاف غزة، وقد يجعل الكيان يعيد بعض حساباته في هذه المعركة.
وعبر سنوات طويلة، ساهم هذا النوع من العمليات في تقويض أمن الإسرائيليين ورفع تكلفة الاحتلال نفسه، من حيث الخسائر البشرية والاقتصادية وحتى النفسية، إذ دفعت هذه العمليات بشكل كبير إلى تعالي الأصوات داخل الكيان، التي طالبت بتفكيك المستوطنات الصهيونية في شمال الضفة وقطاع غزة عام 2005 بعد الانتفاضة الثانية، وهو ما اعتُبر نجاحًا- ولأول مرة- في ردع المشروع الاستيطاني الصهيوني، وإخراجه ولو بشكل جزئي من الأراضي المحتلة.
في 18 يوليو/ تموز 2016 تبنت كتائب القسام أيضًا عملية استشهادية، نفذها الشهيد عبد الحميد أبو سرور (17 عامًا)، فجّر فيها حافلة إسرائيلية في القدس المحتلة، أصيب على إثرها 21 صهيونيًا بجروح مختلفة
بداية.. هل توقفت العمليات الاستشهادية؟
أمام ما قد يعد نقطة تحول في هذه المعركة إذا تكرر وكُتب له النجاح داخل كيان الاحتلال، سأحاول في هذا المقال توضيح بعض النقاط، وخصيصى فيما يتعلق بمفهوم القدرة على تنفيذ العمليات الاستشهادية. حيث إنه خلال السنوات التي تلت عام 2006 لم تتوقف العمليات الاستشهادية، كما يتم الحديث الآن سواء في وسائل الإعلام أو في النقاشات التي تدور على منصات التواصل الاجتماعي، ولم تتوقف المحاولات الدائمة لتنفيذ عمليات استشهادية على الإطلاق في الأراضي المحتلة، إنما تراجع زخمها بسبب معطيات عديدة ومختلفة سنأتي على ذكرها.
فبعد وقوع عملية مطعم روش هايير في تل أبيب، في 17 أبريل/ نيسان 2006، والتي نفذها سامي سليم حمد (21 عامًا)، وتبنتها حركة الجهاد الإسلامي، وأدت إلى مقتل 11 صهيونيًا وإصابة أكثر من 70 آخرين، تبنت كل من سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى عملية نفذها محمد السكسك (21 عامًا) في 29 يناير/كانون الثاني 2007، عندما تسلل إلى الضواحي الشمالية لمدينة إيلات وفجر نفسه في مخبز داخل مركز تجاري، ونتج عن العملية مقتل ثلاثة مستوطنين وإصابة 7 آخرين.
وبعد نحو عام، تبنت كتائب القسام بالضفة الغربية، في 4 فبراير/ شباط 2008، عملية استشهادية نفذها شادي الزغيّر ومحمد الحرباوي داخل مركز تجاري في مدينة ديمونة، وأدت العملية إلى مقتل صهيونية وإصابة 11 آخرين. وكان الشابان الفدائيان يحملان أحزمة ناسفة، استطاع أحدهما تفجير نفسه، في حين لم ينجح الآخر بتفجير حزامه، وتم إطلاق النار عليه ليرتقي شهيدًا.
وفي 18 يوليو/ تموز 2016 تبنت كتائب القسام أيضًا عملية استشهادية، نفذها عبد الحميد أبو سرور (17 عامًا)، فجّر فيها حافلة إسرائيلية في القدس المحتلة، أصيب على إثرها 21 صهيونيًا بجروح مختلفة.
خلال تلك السنوات، كانت هناك محاولات أخرى لتنفيذ عمليات استشهادية، لكنها فشلت أو لم تكتمل بسبب انكشافها، وبغض النظر عن النقاش الذي كان يدور لدى فصائل المقاومة الفلسطينية- وتحديدًا حركة حماس- حول وقف هذا النوع من العمليات من عدمه، في الضفة أو غزة أو كلتيهما، للحفاظ على العناصر البشرية من المقاتلين بشكل أساسي، كان الفيصل دومًا في استمرارية العمليات الاستشهادية صعودًا وهبوطًا هو القدرة على تنفيذها، والظروف المحيطة بالتخطيط لها، وطبيعة المكان والزمان.
فعلى سبيل المثال، أصبحت غزة بعد عام 2005 خالية من المستوطنات التي كان يتم إرسال الاستشهاديين إليها، ودخلت حركة حماس الحكم بعد فوزها بالانتخابات، فيما تطورت قدرات المقاومة وأصبحت مساحات عملها أوسع وأكبر، واجترحت أساليب قتالية جديدة للإثخان بالاحتلال، مثل الصواريخ التي تطور مداها عامًا بعد عام، والقذائف المحمولة على الكتف، والعبوات الناسفة، وغيرها من الأسلحة الأخرى.
وهذا يؤكد أن العمليات الاستشهادية كانت دومًا وسيلة وليست غاية عند كل من حركتي حماس والجهاد الإسلامي على وجه الخصوص (تبنتا مئات العمليات الاستشهادية بين 1993 وحتى اليوم)، فتطوير واجتراح وسائل جديدة للإثخان بالمحتل، حسب الزمان والمكان، والسعي لامتلاك أسلحة جديدة، سواء من الخارج أو مما يتم تصنيعها في الداخل، كانت عملية مستمرة لدى المقاومة، التي أصبحت تمتلك خلال سنوات طائرات مسيرة تحمل قنابل، وصواريخ يصل مداها إلى 250 كيلومترًا، وأنفاقًا هجومية تستطيع من خلالها مهاجمة المحتل وإيقاع قواته في كمائن مرعبة بين قتيل وأسير وجريح.
أما في الضفة الغربية، التي انطلقت منها معظم العمليات الاستشهادية ما بين الانتفاضتين، فكان مسار العمل والميدان فيها مختلفًا بشكل كلي عن غزة بعد عام 2006؛ إذ تعرضت حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وكل من يحمل سلاحًا، مثل كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح أو كتائب أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية، إلى القمع الشديد والتفكيك والمطاردة من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وزاد الفتك سوءًا بعد الحسم العسكري الذي قامت به كتائب القسام في القطاع عام 2006 ضد الأجهزة الأمنية، حيث كانت ردة الفعل لدى السلطة هي تجريف جميع أشكال العمل المقاوم وحواضنه الشعبية في الضفة، ورفع مستوى التنسيق الأمني مع الاحتلال.
وشن جيش الاحتلال – بمساعدة أمنية من أجهزة السلطة – عمليات اعتقال واسعة، طالت كل خلية كانت تعمل على تجهيز العمليات الاستشهادية أو التخطيط لها، وتم اغتيال أو اعتقال كبار قيادات العمل المقاوم في كتائب القسام وسرايا القدس وغيرهما، فيما جفف كيان الاحتلال كل المواد الخام التي كانت تستخدم في الضفة وتدخل في تصنيع القنابل مثل مادة الأسيتون، حيث كان يتم اعتقال أي شخص يشتري هذه المواد بكميات كبيرة داخل الضفة الغربية.
وفي الوقت الذي اختفت فيه المواد الخام لتصنيع القنابل والأحزمة الناسفة من الضفة الغربية، كانت تلك المواد متوفرة في غزة، التي صنعت قنابلها وأسلحتها المختلفة، وجهزت نفسها لمعارك طويلة ومواجهات متعددة مع جيش الاحتلال.
في منتصف الثمانينيات، خططت الفدائية الفلسطينية والأسيرة المحررة، عطاف عليان، لتنفيذ عملية استشهادية غير مسبوقة
تاريخ العمليات الاستشهادية أبعد من حقبة الانتفاضتين
والعمليات الاستشهادية، بمفهومها الذي يعني تحويل الأجساد إلى قنابل، كالأحزمة الناسفة أو تفخيخ السيارات وقيادتها وتفجيرها ضد أهداف الاحتلال، أو حمل القنابل في حقيبة مثلًا وتفجيرها بكبسة زر، لم يبدأ في مطلع التسعينيات كما يعتقد كثيرون، بل إنها عرفت خلال حرب النكبة، وربما قبلها أيضًا.
ومن أبرز العمليات الاستشهادية التي تم توثيقها في عام 1948 تلك التي نفذها الشهيد سرور برهم، قائد مجموعة "الكف الأسود" (التي انبثقت عن مجموعات الشيخ عزالدين القسام، ونشطت منذ ثورة 1936 وحتى حرب النكبة)، حيث كان كل من الشهيد برهم ورفيقه محمد الحنيطي، الضابط في الجيش الأردني، قد ذهبا لإحضار قافلة من السلاح والمتفجرات من بيروت إلى حيفا، وفي طريق العودة يوم 17 مارس/ آذار، وبالقرب من مستوطنة متوسكين، تعرضت القافلة التي تحمل أطنانًا من المتفجرات لكمين من قبل العصابات الصهيونية (الهاغاناه)، أدت إلى استشهاد عدد من المقاتلين بمن فيهم الحنيطي، ولكن سرور برهم قام بقيادة الشاحنة التي تحمل الأسلحة والمتفجرات والألغام، فاقتحم المستوطنة وفجر شاحنته داخلها، ما أدى إلى مقتل عشرات الجنود الصهاينة، وتدمير معسكر المستوطنة بالكامل.
وإذا ذكرنا العمليات الاستشهادية لا بد من ذكر عملية "الخالصة"، التي نفذها 3 مقاتلين (فلسطيني وسوري وعراقي) من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة"، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1974، وذلك عندما اقتحموا مستوطنة كريات شمونة شمالي فلسطين المحتلة، وسيطروا على بناية واحتجزوا من بداخلها من الإسرائيليين، ثم قاموا بتفخيخها وتفجيرها بعد معركة عنيفة مع القوات الإسرائيلية، حيث استشهد الفدائيون الثلاثة، وقتل 19 إسرائيليًا وجُرح 15 آخرون.
وفي منتصف الثمانينيات، خططت الفدائية الفلسطينية والأسيرة المحررة، عطاف عليان، لتنفيذ عملية استشهادية غير مسبوقة، حيث خططت لقيادة سيارة مفخخة وتفجيرها في مقر رئاسة الوزراء في القدس المحتلة. لكن تلك العملية التي تم التخطيط لها لسنوات من قبل ما كان يعرف بـ"سرايا الجهاد الإسلامي" (الجهاد الإسلامي لاحقًا)، وتلقت فيها عطاف تدريبًا عسكريًا على استخدام الأسلحة والعبوات الناسفة، في معسكرات تدريب القطاع الغربي في بيروت، على يد الشهيدين القائدين باسم سلطان (حمدي) ومحمد بحيص (أبو حسن)، لم يُكتب لها النجاح وتم إحباطها، حيث اعتُقلت عطاف عليان قبل أسبوع من موعد تنفيذ عمليتها، وبعد أيام من اعتقال المسؤول عن إعداد السيارة المفخخة.
ابتكر العياش من المواد الخام المتوفرة في السوق – أبرزها الفحم والأسيتون- سلاحًا جديدًا فتاكًا، ونقلت حماس على يديه العمليات الاستشهادية إلى داخل الأراضي المحتلة، وهي التي غيرت المعادلات وكسرت حاجز الردع
مدرسة العياش التي غيرت شكل الصراع مع الاحتلال
لكن نقطة التحول في تاريخ العمليات الاستشهادية الفلسطينية، والتي صنعت حالة غير مسبوقة من عمليات العبوات والأحزمة الناسفة التي ستزلزل قلب كيان الاحتلال، كانت على يد الشهيد المهندس يحيى عياش، الذي يصفه القائد القسامي الأسير إبراهيم حامد بـ "مخترع البارود الفلسطيني".
ويقول حامد إنه عندما كان العياش طالبًا في الهندسة الكهربائية بجامعة بيرزيت، بدأت أولى محاولاته لتصنيع المقذوفات، وفي ذات يوم من عام 1991 فاجأ الشهيد يحيى عياش زميله في السكن- الذي كان مسؤول الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت- بعد أن أغلق الغرفة، وفتح يده التي كانت فيها حفنة من "كحل البارود" (الذي يصنعه الفلسطينيون عادة من مسحوق الفحم النباتي وبعض نترات المواد الحمضية)، وقام بإشعال النار فيها، فوصلت الشعلة إلى سقف الغرفة تقريبًا، وعندها قال له زميله: "لا تفضحنا"، أجاب يحيى، رحمه الله: "احسبوا حسابي"! في إشارة إلى رغبته في الانخراط بالعمل الفدائي إبان الانتفاضة الأولى.
اجترح العياش من المواد الخام المتوفرة في السوق – أبرزها الفحم والأسيتون- سلاحًا جديدًا فتاكًا، ونقلت حماس على يديه العمليات الاستشهادية إلى داخل الأراضي المحتلة، وهي التي غيرت المعادلات وكسرت حاجز الردع، وفتحت – بعد استشهاده – مراحل جديدة من مقاومة الاحتلال، ستتطور وتستمر خلال الانتفاضة الثانية وما بعدها، وما زلنا نشهد آثارها وبصماتها حتى اليوم.
وكانت باكورة عمليات العياش الاستشهادية – والتي مثلت تحولًا كبيرًا في تاريخ الصراع مع الاحتلال في حقبة ما بين الانتفاضتين- هي عملية الشهيد ساهر تمام (22 عامًا)، التي وقعت بتاريخ 16 أبريل/ نيسان 1993، حيث قاد تمام سيارته المفخخة من نوع "فولكس فاغن"، وقام بتفجيرها قرب مقهى يرتاده الجنود الإسرائيليون في مستوطنة "ميحولا" القريبة من مدينة بيسان، فقُتل 2 منهم وأصيب 8 بجراح.
انطلقت عمليات العياش وزادت قوة وفتكًا بعد نجاح العملية الأولى، ومن أبرزها عمليات "العفولة" عام 1994، وعملية شارع "ديزنغوف" في تل أبيب، وعملية محطة الحافلات في القدس في ديسمبر/ كانون الأول 1994، وكذلك عملية حافلة "رامات غان" بالقرب من تل أبيب، وعملية حافلة "رامات أشكول" في مدينة القدس المحتلة عام 1995.
قبيل استشهاده في قطاع غزة، في 5 يناير/ كانون الثاني 1996، عكف المهندس يحيى عياش على تدريب أعضاء آخرين في كتائب القسام على صناعة المتفجرات، فيما تطورت من بعده تركيبة القنابل التي قادتها الكتائب خلال الأعوام التالية، وصولًا إلى انتفاضة الأقصى المباركة عام 2000، والتي كانت العمليات الاستشهادية عنوانها الأبرز، على نحو لم يسبق له مثيل.
فمنذ عملية ساهر تمام عام 1993، وحتى ما قبل اندلاع انتفاضة الأقصى، سُجلت 30 محاولة لتنفيذ عمليات استشهادية، نجح منها 24 عملية. لكنْ بعد انطلاق الانتفاضة الثانية- التي انطلقت في 28 سبتمبر/ أيلول 2000، واستمرت حتى عام 2006- بلغ عدد الاستشهاديين 451 شهيدًا وشهيدة، قدموا من الضفة وقطاع غزة والأردن والداخل.
ماذا لو أخذت ظاهرة يحيى عياش، علاوة على ظواهر الانتفاضة الأُخرى التي شرعت تتعاظم، كخطف الجنود، والاشتباك الجريء من النقطة صفر، الذي ابتدعه عماد عقل وخلاياه.. مَدَياتها وتجلياتها الانتفاضية؟
- القائد الأسير إبراهيم حامد
هل يعيد الطوفان الزخم؟
إذا وضعنا مبدأ القدرة في عين الاعتبار، فلا شك أن الإجابة عن هذا السؤال ستكون معقدة، بالنظر إلى الواقع الصعب الذي تمر به الضفة الغربية، حيث تواجه المقاومة تحديات عديدة ومركبة لاستعادة زخم العمليات الاستشهادية، وخصيصى في الداخل المحتل.
وكما هو معلوم، فإن العمليات الاستشهادية تقوم أساسًا على وجود استشهادي لديه القدرة على تنفيذها، وربما من أكبر التحديات التي تواجه المقاومة اليوم- على عكس فترتي الانتفاضتين وما بينهما- مسألة تجنيد العناصر المناسبة لتنفيذ عمليات استشهادية. وفي ظل عدم وجود عمل تنظيمي قوي، وغياب قيادات وكوادر تخطط لهذه العمليات، بسبب تعرضها للاجتثاث منذ 18 عامًا على يد السلطة والاحتلال، ناهيك أنه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول شن الاحتلال آلاف عمليات الاعتقال ضد الفلسطينيين بالضفة وحدها، فيما استشهد المئات من الشبان وجُرح آلاف آخرون، خلال هذه الأشهر العشرة.
ومن أبرز التحديات الأخرى أمام عودة زخم العمليات الاستشهادية هو تقطيع أوصال الضفة وحصار المدن والقرى والمخيمات، وشبه استحالة دخول استشهاديين إلى الداخل المحتل في تطويق الضفة وتعزيز الجبهة الداخلية للاحتلال بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ناهيك عن الرصد المكثف لأي محاولات لتصنيع أو شراء السلاح والمتفجرات أو المواد التي تدخل في صناعتها.
لكن تصاعد حالة الاشتباك التي نشهدها في شمال الضفة الغربية، والتي انطلقت بُعيد معركة "سيف القدس" في مايو/ أيار 2021 وحتى اليوم، وتطور صناعة العبوات الناسفة كمًا ونوعًا، وإن كان استخدامها في تحصين المدن والقرى والمخيمات ضد اقتحامات جيش الاحتلال والمستوطنين، قد يعطي دفعة أمل بقدرة المقاومة الفلسطينية على اجتراح الأدوات والإمكانات – كما فعلت في كل مرة- لاستعادة العمليات الاستشهادية، وكسر حالة الردع التي بنيت منذ نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحتى اليوم.
في النهاية، لا شك أن "الظاهرة الاستشهادية" – كما أحبَ أن يسميها القائد الأسير إبراهيم حامد- لم تنتهِ؛ حيث أخذت العمليات الاستشهادية بصفتها أعظم التضحيات أشكالًا أخرى طوال السنوات الماضية، فالإقبال على المحتل بالسكين أو الكارلو أو الشاكوش هو هجوم استشهادي، لا يعلم صاحبه إن كان سيعود منه حيًا يرزق.
وهنا أحب أن اختتم هذا المقال باقتباس لإبراهيم حامد من ورقته التي نشرها قبيل معركة طوفان الأقصى بنحو 10 أيام (في إعادة الاعتبار إلى "تحرير فلسطين")، إذ يقول أبو علي: "ماذا لو أخذت ظاهرة يحيى عياش (الظاهرة الاستشهادية)، علاوة على ظواهر الانتفاضة الأُخرى التي شرعت تتعاظم، كخطف الجنود، والاشتباك الجريء من النقطة صفر، الذي ابتدعه عماد عقل وخلاياه.. وسجّل صعود تلك الفعاليات الأمر الأهم في سنوات "أوسلو" الأولى نفسها (1993- 1996)، ماذا لو أخذت تلك الظواهر والتطورات كامل مَدَياتها وتجلياتها الانتفاضية؟ كيف كانت ستكون النتائج وحصاد ذلك الفعل المقاوم الواثب والمتعاظم على صعيد الاستقلال السياسي والتحرر الوطني؟".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.