في ظهوره الأخير خلال حفل نظمته حملته بالتعاون مع شخصيات يهودية نافذة في الولايات المتحدة، بمن في ذلك المليارديرة ميريام أديلسون، أكبر متبرّعة للحزب الجمهوري، قال دونالد ترامب: "لم يكن أحد يتصور قبل سنوات أن يصبح اللوبي الصهيوني بهذا الضعف في الولايات المتحدة.. قبل سنوات قليلة، لم يجرؤ أحد على انتقاد إسرائيل؛ خوفًا على منصبه، أما اليوم فنرى أعضاء في الكونغرس والجامعات يرفعون أعلامًا مناهضة لإسرائيل"!.
هذه الصراحة الفجة التي اعتدنا عليها من ترامب تكشف الوجه القبيح للسياسة الأميركيّة دون تزويق أو تورية؛ كما أنه يتعامل بوضوح مع الإسرائيليين أنفسهم، ويعرف كيف يتفاوض معهم بمنطق المصالح المتبادلة، يتجلى ذلك في قوله: "عندما أنظر إلى إسرائيل على الخارطة أجدها صغيرة جدًا مقارنة بجيرانها، وأتساءل: كيف يمكننا زيادة مساحتها؟".
هذا الرجل -وإن كانت تصرفاته قد تبدو حمقاء- يلعب بذكاء على أحلام الصهاينة بالتوسع، كما فعل سابقًا عندما وعد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، ونفذ وعده. فهو يدرك جيدًا ما يدور في خواطرهم وما يناقشونه في اجتماعاتهم السرية حول مشروع "الوطن الكبير من النهر إلى البحر"، ويلعب بكل وضوح على ذلك الحبل الشائك.
التغيرات في الرأي العام أثارت قلقًا كبيرًا لدى الحكومة الإسرائيلية وحلفائها في الولايات المتحدة، وأدت إلى تنامي التحديات أمام اللوبيات الصهيونية في الحفاظ على نفوذها التقليدي
لعبة الصناديق
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني، أصبحت التحركات السياسية المحيطة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني أكثر تأثيرًا في تشكيل ملامح المشهد السياسي الأميركي. في العامين الأخيرين، تراجعت النظرة الإيجابية تجاه إسرائيل في الرأي العام الأميركي، بفضل نشاط التواصل الاجتماعي الذي كشف فظائع إسرائيل في غزة، وسيطرة اللوبي الصهيوني على السياسة الأميركية، وقد أظهر استطلاع "غالوب" في مارس/ آذار الماضي أن 27% من الأميركيين الآن يتعاطفون مع الفلسطينيين، وهي زيادة كبيرة مقارنة بالسنوات السابقة، ويصل هذا الرقم إلى 45% بين الشباب الأميركي.
كما أظهر استطلاع آخر أجراه "Data for Progress" في مايو/ أيار أن 56% من الديمقراطيين يعتقدون أنّ إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، في حين أظهر استطلاع آخر أجرته المنظمة نفسها في يونيو/ حزيران أن 64% من الناخبين المحتملين يدعمون وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، وهذه النسبة ترتفع إلى 86% بين الديمقراطيين. بالإضافة إلى ذلك، أظهر استطلاع أجرته "Chicago Council on Global Affairs" في يونيو/ حزيران أن 55% من الأميركيين يعارضون إرسال قوات أميركية للدفاع عن إسرائيل إذا تعرضت لهجوم من جيرانها.
هذه التغيرات في الرأي العام أثارت قلقًا كبيرًا لدى الحكومة الإسرائيلية وحلفائها في الولايات المتحدة، وأدت إلى تنامي التحديات أمام اللوبيات الصهيونية في الحفاظ على نفوذها التقليدي.
رغم الخسائر، أصرت (AIPAC) على أن موقفها المؤيد لإسرائيل لا يزال يمثل "السياسة الجيدة". لكن هذا الادعاء واجه انتقادات من شخصيات مثل الناشطة اليسارية ميديا بنيامين، التي أكدت أن تصرفات (AIPAC) تكشف عن حقيقة مقلقة، وهي أن جماعات الضغط الإسرائيلية تمتلك الوسائل المالية للتأثير على نتائج الانتخابات الأميركية
مؤشرات ضعف
أحد أوضح المؤشرات على هذا التحدي تمثّل في التحركات الأخيرة التي قامت بها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، والتي تُعرف على نطاق واسع بأنها أقوى جماعة ضغط مؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة. في الأشهر الأخيرة، قامت (AIPAC) بضخ مبالغ كبيرة في الحملات الانتخابية لهزيمة المرشحين التقدميين الذين أعربوا عن دعمهم للقضية الفلسطينية.
على سبيل المثال، ساهمت (AIPAC) بمبلغ 8.5 ملايين دولار في حملة لإزاحة النائبة الديمقراطية كوري بوش في ميزوري، وخسرت في النهاية أمام المدعي العام في سانت لويس ويسلي بيل. كما أنفقت مبلغًا غير مسبوق قدره 17 مليون دولار لمحاولة هزيمة النائب التقدمي جمال بومان في نيويورك، إلا أن بومان تمكن من الفوز، ما يعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها (AIPAC) في التأثير على نتائج الانتخابات كما كانت تفعل سابقًا.
ورغم هذه الخسائر، أصرت (AIPAC) على أن موقفها المؤيد لإسرائيل لا يزال يمثل "السياسة الجيدة". لكن هذا الادعاء واجه انتقادات من شخصيات مثل الناشطة اليسارية ميديا بنيامين، التي أكدت أن تصرفات (AIPAC) تكشف عن حقيقة مقلقة، وهي أن جماعات الضغط الإسرائيلية تمتلك الوسائل المالية للتأثير على نتائج الانتخابات الأميركية.
ورغم أن إنفاق (AIPAC) يعكس استمرار قوتها، فإنه يبرز التحديات المتزايدة والمبالغ الضخمة التي يتعين عليها تقديمها للحفاظ على دعم الكونغرس لإسرائيل، وتقليص تأثير الأصوات التقدمية الصاعدة.
لعبة القوانين
مع تصاعد التحديات التي تواجهها اللوبيات الإسرائيلية، قد تلجأ إلى الضغط بالدفع نحو تشريعات تهدف إلى تجريم المظاهرات المؤيدة لفلسطين. يمكن أن تشمل هذه التشريعات معاقبة المنظمات غير الربحية التي تدعم حقوق الفلسطينيين، أو حرمان الجامعات من التمويل الفدرالي إذا سمحت بتنظيم احتجاجات مؤيدة لفلسطين.
مثل هذه الجهود التشريعية، من المحتمل إذا تم تنفيذها أن تنتهك حرية التعبير وحقوق التعديل الأول في الدستور الأميركي، ما سيزيد من إلحاق الضرر بسمعة اللوبي الإسرائيلي، وإظهاره كقوة معارضة للمبادئ الديمقراطية. هذا قد يؤدي إلى نفور المزيد من الأميركيين وإثارة رد فعل عنيف ضد من يُعتقد أنهم يحاولون خنق حرية التعبير السياسي في البلاد.
أظهر استطلاع آخر أجرته المنظمة ذاتها في يونيو/ حزيران أن 64% من الناخبين المحتملين يدعمون وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، وترتفع هذه النسبة إلى 86% بين الديمقراطيين.
لعبة السرديات
على صعيد موازٍ، ضعْف فاعلية السردية الإسرائيلية في تشكيل الرأي العام الأميركي يعود إلى عدة عوامل، منها صعود تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقدمية، بالإضافة إلى ظهور نخب مؤثرة تتعاطف بشكل واضح مع الفلسطينيين. ساهمت هذه العوامل في زيادة الوعي بين الأميركيين بالحقائق على الأرض في فلسطين، وقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن نسبة الأميركيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين ارتفعت بشكل ملحوظ، خاصة بين الشباب.
كما تصاعدت الانتقادات للأعمال العسكرية الإسرائيلية، خاصة في غزة، حيث أظهرت استطلاعات الرأي المذكورة أعلاه ذلك.
أصبحت هذه التغيرات في الرأي العام غير قابلة للتجاهل بالنسبة للسياسيين الأميركيين، وخاصة داخل الحزب الديمقراطي. وقد ظهر ذلك بوضوح الشهر الماضي عندما قرر ما يقرب من نصف أعضاء الكونغرس الديمقراطيين عدم حضور خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في خطوة رمزية تعكس الانقسام الكبير داخل الحزب حول هذه القضية.
من المرجح أن يتحول دعم اللوبي اليهودي لصالح ترامب والجمهوريين، وستحتاج (AIPAC) وأخواتها إلى التكيف مع ديناميكية سياسية جديدة يقودها ناخبون أكثر وعيًا وانخراطًا في السياسات الخارجية
الهروب إلى الأمام
في ظل هذه التطورات، أظهرت حملة هاريس قلقًا واضحًا، ما دفعها لاختيار حاكم مينيسوتا تيم والز كنائب لها بدلًا من جوش شابيرو، لتجنب ردود الفعل المحتملة حول مواقفه المؤيدة لإسرائيل. كما ألمحت هاريس إلى رغبتها في الابتعاد عن سياسات بايدن في الشرق الأوسط، داعيةً إلى وقف فوري لإطلاق النار ومعبرة عن قلقها بشأن معاناة الفلسطينيين. ووافقت أيضًا على لقاء قادة حركة "غير الملتزمين" لمناقشة مطالبهم، بما في ذلك فرض حظر على الأسلحة المرسلة لإسرائيل.
ورغم هذه التحركات، يستمر النشطاء المؤيدون لفلسطين في مطالبة هاريس باتخاذ مواقف أقوى ضد سياسات بايدن تجاه غزة، ما يشير إلى التحديات التي ستواجهها في التوفيق بين مطالب الديمقراطيين التقدميين والنهج العام للحزب.
إن خسارة اللوبي الإسرائيلي للدعم الشعبي الأميركي، والتغير في المشهد الانتخابي، يشكلان تحديات كبيرة. من المرجح أن يتحول دعم اللوبي اليهودي لصالح ترامب والجمهوريين، وستحتاج (AIPAC) وأخواتها إلى التكيف مع ديناميكية سياسية جديدة يقودها ناخبون أكثر وعيًا وانخراطًا في السياسات الخارجية، بفضل ثورة مواقع التواصل الاجتماعي، وسهولة الوصول إلى الحقائق.
هذا ما قد يعيد تشكيل مستقبل السياسة الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.