يبدو أن أبواب الأحلام في تونس موصدة.. فهل الهجرة هي الحلم البديل؟
الهجرة غير القانونية في تونس أصبحت من أكثر الظواهر الاجتماعية التي تشغل الرأي العام المحلي والدولي؛ فالشاب التونسي، الذي يكبر مع حُلم بناء مستقبل مشرق في بلاده ليكون فخرًا لأبيه وسندًا لأمه وقدوة للأجيال القادمة، يجد نفسه اليوم مدفوعًا إلى المخاطرة بحياته في عرض البحر؛ بحثًا عن فرصة أفضل في أوروبا. هذه الظاهرة لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة تراكمات اقتصادية واجتماعية وسياسية تعاني منها البلاد.
في تونس، أصبحت أحلام الشباب أشبه بالمنازل المهجورة، يكسوها الغبار وتتراكم في زواياها ذكريات أملٍ ضائع؛ إذ يجد الشباب أنفسهم محاصرين بين جدران هذا الوطن، حيث الآمال تتضاءل يومًا بعد يوم
تعترض السلطات التونسية سنويًا آلاف المحاولات للهجرة غير القانونية.. في شهرَي يوليو/ تموز وأغسطس/ آب لعام 2024، تم توقيف أكثر من 14,000 مهاجر على السواحل التونسية. هذ الرقم يعكس حجم الأزمة، حيث تشهد البلاد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الشباب الذين يخاطرون بحياتهم عبر البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى أوروبا.
- ولكن هل لنا أن نلوم هؤلاء الشباب على اختيارهم؟
من الصعب أن نوجّه اللوم لهم عندما نجد أن الخيارات المتاحة أمامهم محدودة، أو شبه معدومة!. هؤلاء الشباب لم يختاروا الرحيل لأنهم يبحثون عن المغامرة، بل لأنهم يشعرون بأنهم مُجبرون على ذلك.
لوم هؤلاء الشباب على اختيارهم قد يبدو ظالمًا، خاصة عندما نأخذ في الاعتبار أنّ الظروف التي دفعتهم إلى هذا الطريق هي الأوضاع الاقتصادية المتردية، كالبطالة وارتفاع تكاليف المعيشة، وكذلك التهميش الاجتماعي، وانعدام الفرص، وتجاهل طموحاتهم.
في تونس، أصبحت أحلام الشباب أشبه بالمنازل المهجورة، يكسوها الغبار وتتراكم في زواياها ذكريات أملٍ ضائع؛ إذ يجد الشباب أنفسهم محاصرين بين جدران هذا الوطن، حيث الآمال تتضاءل يومًا بعد يوم، والحياة التي رسموها في مخيلتهم بحب الوطن والعائلة، لم تعد تكفي لسد رمق طموحاتهم، فصار البحر طريقهم نحو أوروبا، نحو أرض يرون فيها خلاصًا، وإن كان زائفًا.
الهجرة غير القانونية ليست فقط رحلة من مكان إلى آخر، بل هي انتقال من واقعٍ معقد إلى مستقبل أكثر تعقيدًا، حيث يواجهون الغربة، والرفض، وربما الضياع. ولكن رغم كل ذلك مازال الشباب يفضلون السفر إلى مستقبل معقد على البقاء في وطن يحبطهم
يرتمون في عرض البحر وبعضهم لا يجيد السباحة، تاركين أنفسهم إما للموت أو الخلاص، وكأن الموت في عرض البحر أقل ألمًا وقسوة من الموت في وطن لهم فيه حقوق، لكنهم لا يمارسونها، كالحق في الكرامة والعمل.
يتركون خلفهم قلوبًا تنبض بحبهم، وأعينًا تذرف الدموع لفراقهم، ويسيرون نحو مستقبل مجهول، مدفوعين بوهْم حياة أفضل، غير مدركين ما ينتظرهم من صعاب.. يعبرون المياه الباردة ظانّين أن أوروبا هي الحلم، لكنها قد تكون قسوة جديدة وحلمًا آخر مهجورًا، وأرضًا لا ترحب بهم كما تخيلوا، لن تمنحهم أمان الوطن وكرامة السعي خلف طموحاتهم.
فقد أصبح الشاب التونسي يفضل أن يغامر بماله في رحلة مجهولة، محفوفة بالمخاطر، مدفوعة بالأمل الهش، على أن يستثمرها في مشروع صغير داخل وطنه. ويعود ذلك إلى اليأس والإحباط من الإجراءات البيروقراطية، وعدم توفر الدعم اللازم له لبدء مشاريعه الخاصة؛ فكلما اقترب من تحقيق حلمه في وطنه، واجه عراقيل لا حصر لها، حتى أصبح اليأس يسكنه، ولم يعد يرى في بلاده سوى سراب من الأحلام الموؤودة، ليختار أن يدفع ما يملك ليقفز في عرض البحر، باحثًا عن حياة جديدة.
لكن الهجرة غير القانونية ليست فقط رحلة من مكان إلى آخر، بل هي انتقال من واقعٍ معقد إلى مستقبل أكثر تعقيدًا، حيث يواجهون الغربة، والرفض، وربما الضياع. ولكن رغم كل ذلك مازال الشباب يفضلون السفر إلى مستقبل معقد على البقاء في وطن يحبطهم.
تونس يجب أن تعيد الأمل إلى قلوب شبابها، وتفتح لهم أبواب الفرص في وطنهم، حتى لا يضطروا إلى المغامرة بآخر ما يملكون، وهو حياتهم
كثير من الشباب التونسيون ابتلعهم البحر مع أحلامهم التي أبحروا من أجلها، وألمهم الذي تركوه خلفهم. هؤلاء الشباب يعرفون جيدًا أن نهاية رحلتهم قد تكون الموت، ومع ذلك لا يترددون في مواجهة هذا المصير! لقد تركوا أمهاتهم يبكينهم، وفضلوا المغامرة بحياتهم على البقاء في وطن ما عادوا يجدون فيه سوى القسوة.
تونس، التي كانت يومًا ملاذًا لأحلامهم، أصبحت قاسية لدرجة أنها تدفع بأبنائها نحو الموت.. ربما يجب أن نتذكر كارثة غرق قارب كان يُقِلّ عددًا من المهاجرين غير النظاميين في مدينة جرجيس، الواقعة في الجنوب الشرقي التونسي، وذلك عام 2022، وقد راح ضحيتها 18 مهاجرًا، ومن بينهم رضيع.
ألم يحن الوقت للدولة أن تواجه هذه المأساة بجدية؟ أن تبحث عن حلول جذرية لتحسين ظروف الحياة في تونس؟ الشباب بحاجة إلى دعم حقيقي لبناء مستقبلهم داخل بلادهم، بدلًا من المخاطرة بحياتهم في مغامرة بحث عن حلم قد يتحول إلى كابوس.
تونس يجب أن تعيد الأمل إلى قلوب شبابها، وتفتح لهم أبواب الفرص في وطنهم، حتى لا يضطروا إلى المغامرة بآخر ما يملكون، وهو حياتهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.