شعار قسم مدونات

كيف تفكر كمؤرخ؟

التاريخ الاسلامي
التاريخ لا يقتصر على حفظ التواريخ والحقائق بل يتجاوز ذلك ليصبح أدبًا وفلسفة وفنًا وسياسة (وكالات)

يدرَّس مقرر التاريخ في المدارس عادة بطريقة سرد الأحداث وحفظ التواريخ، بعيدًا عن النقد والفهم والتفكير كمؤرخ، ما يُغيّب المهارات التي يفترض أن يكتسبها التلميذ من مخرجات مقرر التاريخ، برغم أننا نحتاج في حياتنا اليومية إلى اكتساب الآلية التي يفكر بها المؤرخ، خصوصًا مع الكمّ المعلوماتي الذي نتعرّض له في اليوم الواحد.

ويشوب هذه المعلومات الكثير من التدليس والمغالطات التي ننساق وراءها دون فحص أو تمحيص، ما يجعلنا بحاجة ماسّة إلى التفكير بعقلية المؤرخ، التي ستجعلنا نحاول التأكد والتثبت من المعلومة قبل أن نشاركها مع أحدهم، وستجعلنا نطرح العديد من الأسئلة التي ستساعدنا في فهم الموضوع الذي نطالعه أو المقطع المرئي الذي نشاهده.

سنتعرف في بداية هذا المقال على ماهية المؤرخ، ثم ننتقل إلى 7 نقاط إرشادية لنتعلم كيف نفكر كمؤرخين.

إنّ هذه المداخلة هي خلاصة قراءة معمقة في عدة كتب حول التاريخ ومناهجه، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "تاريخ التاريخ" لوجيه كوثراني، وكتاب "دفاعًا عن التاريخ" لريتشارد إيفانز، وكتاب "الذاكرة والتاريخ" لجاك لوغوف، و"تفسير التاريخ" للدوري وآخرين. ونستطيع بعد قراءتنا هذا المقال أن نطبق مهارات تفكير المؤرخ في حياتنا اليومية.

المؤرخ ليس مجرد حارس للمعرفة، بل هو أيضًا مفسر لها؛ فبينما يعد حفظ المواد من الأرشيف جزءًا من عمل المؤرخ، فإن القدرة على وضع هذه المواد في سياقها التاريخي هو ما يجعل التاريخ لا مجرد دراسة للماضي، بل هو حوار مستمر مع الحاضر أيضًا، يُثري فهمنا له

من هو المؤرخ؟

يعرّف المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ (Marc Bloch) المؤرخ بأنه "الشخص الذي يدرس ويدوّن عن التاريخ، محاولًا فهمه وتفسيره بموضوعية"، ويشير إلى أن عمل المؤرخ يتطلب الجمع بين المعرفة الأكاديمية والقدرة على تحليل المصادر بشكل نقدي. وقد تحول التأريخ إلى مهنة قائمة بذاتها في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، مع وضع معايير محددة لمن يرغب في احتراف هذا المجال.

إعلان

هذه المعايير جعلت عقل المؤرخ يفكر بطريقة مختلفة؛ فهو في حقيقة الأمر يُشبه المحقق الجنائي إلى حد كبير، فكلاهما يسعى لكشف الحقائق باستخدام الأدلة المتاحة، لكن المحقق يتعامل مع أحداث معاصرة، أما المؤرخ فيغوص في أعماق الزمن، ليجمع شظايا الماضي ويعيد تشكيلها لفهم مجريات الأحداث. وهذه العملية لا تقتصر على جمع التواريخ والحقائق فقط، بل تتجاوز ذلك لتشمل التأويل والتحليل، ووضع الأحداث في سياقاتها المختلفة.

كما أنّ المؤرخ ليس مجرد حارس للمعرفة، بل هو أيضًا مفسّر لها؛ فبينما يعد حفظ المواد من الأرشيف جزءًا من عمل المؤرخ، فإن القدرة على وضع هذه المواد في سياقها التاريخي هو ما يجعل التاريخ لا مجرد دراسة للماضي، بل -أيضًا- هو حوار مستمر مع الحاضر، يُثري فهمنا لأنفسنا وزماننا.. إن التاريخ لا يقتصر على حفظ التواريخ والحقائق، بل يتجاوز ذلك ليصبح أدبًا وفلسفةً، وفنًّا وسياسةً؛ إن جمع هذه العناصر في إطار واحد هو ما يجعل من التاريخ مصدرًا غنيًا لفهم أعمق للحياة الإنسانية بأبعادها المتعددة.

في العصر الرقمي الحالي، شهد دور المؤرخ تحولًا جذريًّا؛ فقد أتاح الفضاء الرقمي لغير المتخصصين ممارسة دور المؤرخ، ما أدى إلى بروز "تواريخ موازية" متعددة. هذه التواريخ الجديدة، المرتبطة بالفرد أكثر من الجماعة، تعتمد على المعلومات الهائلة المتوفرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتُشكِّلُ ما يشبه الوثيقة التاريخية الجديدة.

هذا التقدم التكنولوجي غيّر أيضًا من طبيعة توثيق الأحداث، حيث أصبح من الممكن تسجيلها بالصوت والصورة بشكل مباشر ما جعل عملية كتابة التاريخ أكثر انفتاحًا وتعقيدًا، ولا تتقيد بالضوابط التقليدية للكتابة التاريخيّة، وهذا سيؤدي إلى تلاشي السرديات الكبرى وفتح الباب أمام قراءات جديدة للتاريخ. وقد سبق للفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو- بونتي (Maurice Merleau-Ponty) أن أطلق رنّانة تحذيرية في منتصف القرن الماضي حول زوال السرديات الكبرى، مؤكدًا أن هذه الظاهرة تتجاوز حدود ما بعد الحداثة.

إعلان

هذا التحول قد يعيد صياغة مفهوم المؤرخ نفسه؛ فلم يعد المؤرخ مجرد ناقل للأحداث، بل أصبح مشاركًا في تشكيل الوعي بالتاريخ من خلال خياراته الأيديولوجية والمصادر التي يعتمد عليها. وبإمكاننا القول إنّ المؤرخ في الزمن الرقميّ الجديد لم يعد مجرد موثِّق للمعلومات، بل أصبح صانعًا لرؤى متعددة ومتنوعة للتاريخ، تعكس تعقيدات الحاضر، وتساهم في فهم أعمق للماضي والمستقبل.

فعلى المؤرخ أن يتحلّى بالشجاعة ليتجاوز ما هو مسلَّم به، ويتحدى الروايات الرسمية والمألوفة والمتعددة، واضعًا في اعتباره أن المعرفة التاريخية تتطلب غوصًا عميقًا في التفاصيل، وإعادة النظر في الحقائق السائدة من زوايا متعددة.

في عصر المعلومات المتدفقة والتحولات الرقمية السريعة، يتعين على المؤرخ ألا يكتفي بمجرد تجميع الأحداث، بل أن يسعى لفهم أعمق للتأثيرات الثقافية والاجتماعية التي تشكل الروايات التاريخية؛ فالوعي النقدي والتحليل العميق هما ما يجعل من دراسة التاريخ علمًا حقيقيًّا، قادرًا على تقديم رؤى جديدة وتفسير أكثر دقة للماضي، بدلًا من الرضوخ للأيديولوجيات أو الانجراف مع التيارات السائدة، وهذا ما يقودنا إلى معرفة كيف يفكر المؤرخ لكسب الوعي في زمن التدفق الرقمي اللامحدود.

لا يوجد أيّ عالم مختص في تاريخ مصر قد عاصر الفرعون رمسيس، كما أنّه لا أحد من المتخصصين في الحروب النابليونية قد سمع دوي مدافع أوسترليتز، وليس بيننا من عاصر الشعوب التي سبقتنا.. كل ما لدينا هو ما تناقله الأشهاد

كيف يفكر المؤرخ؟

"التاريخ لا يستقيم إلا بالاحتكاك بالمعارف متسعة الفضاء، والنظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء".. يُعد هذا القول لابن خلدون تلخيصًا عميقًا وبليغًا لجوهر تفكير المؤرخ السليم. فدعونا نفكّك هذه العبارة، ونتعرف على كيفية تفكير المؤرخ:

  • التفكير التاريخيّ

يعتمد التفكير التاريخي على مجموعة من العمليات العقلية، التي تتجاوز مجرد حفظ الحقائق والتواريخ. وكما أشار ابن خلدون، فإن هذا النوع من التفكير يتطلب "الاحتكاك بالمعارف متسعة الفضاء"، وهو ما يتوافق مع الرؤية الحديثة للتفكير التاريخي باعتباره نشاطًا معرفيًّا متعدد الأبعاد؛ فهو يشمل العمليات الأساسية للتفكير، مثل الملاحظة والاستقصاء والقياس والتصنيف والتوقع والاستنتاج والمقارنة والتحليل، ويشمل كذلك القدرة على تنظيم العلاقات بين الأحداث التاريخية لدراسة طبيعتها والوصول إلى الحقيقة التاريخية.

إعلان

كما أنّ التفكير التاريخي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحلّ المشكلات؛ فالمؤرخ – كما يشير أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) – يتعامل مع التاريخ كتفكير نسبيّ محكوم بعاملي الزمان والمكان. ووفقًا لما ذكره بلوخ، فإن الخطوة الأولى التي يعتمد عليها المؤرخ هي أن يضع نفسه في "دراسة الماضي"، لأن المؤرخ لا يمكنه أن يكون شاهدًا مباشرًا على الأحداث التي يدرسها.

فعلى سبيل المثال، لا يوجد أيّ عالم مختص في تاريخ مصر قد عاصر الفرعون رمسيس، كما أنّه لا أحد من المتخصصين في الحروب النابليونية قد سمع دوي مدافع أوسترليتز، وليس بيننا من عاصر الشعوب التي سبقتنا.. كل ما لدينا هو ما تناقله الأشهاد، ممّا يضع المؤرخ في وضعية "قاضي التحقيق"، الذي يحاول إعادة بناء "مسرح الجريمة" التي لم يكن شاهدًا عليها. وبالتالي، يتعين على المؤرخ محاولة فهم المشكلات التي واجهها الناس في الماضي، والاندماج مع الحدث لتحديد أسبابه وتداعياته بشكل دقيق.

أما "النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء" كما يقول ابن خلدون، فهو يتجلى في قدرة المؤرخ على تحديد المصداقيّة وتقييم الأدلة؛ فالتفكير التاريخي يتطلب القدرة على التمييز بين ما هو مهم وما هو غير مهم من الأدلّة، وسدّ الفجوة بين ما هو معلوم وما يمكن استنتاجه. هذا النهج النقديّ يساعدنا على التعامل بوعي مع المصادر المختلفة، سواء كانت وثائق تقليديّة أو مصادر رقميّة حديثة، وتقييم مصداقيتها وأهميتها.

ويساهم التفكير التاريخيّ في إرساء قيم المواطنة، إذ إنّ فهم سلوكيات الناس في الماضي ينعكس على حياتنا المعاصرة. يتجلى هذا التأثير في استلهام القدوة الصالحة، وتعزيز شعور المسؤولية، والارتباط العميق بالوطن.. كما أنّ تصرفاتنا اليوم ستؤثر على الأجيال القادمة.

لذا، لا يقتصر التفكير التاريخيّ على مجرد استحضار الماضي، بل يقتضي من الفرد أن يتقمص دور المؤرخ، مستوعبًا ما ورثناه من بقايا الماضي، ثم يتخذ من ذلك أساسًا ليكون صانعًا للمستقبل، ما يمكِّنه من إحداث تغيير إيجابي في مجتمعه.

يمكن للمؤرخ أن يدرك أن رسالة نابليون كانت جزءًا من إستراتيجية سياسية، تهدف إلى كسب التأييد المحلي، وليست بالضرورة تعبيرًا عن قناعة شخصية بالإسلام

  • السياق التاريخي
إعلان

يعتمد المؤرخ على فهم السياق التاريخي للأحداث، ما يساعده على تفسيرها بشكل صحيح، والسياق يشمل العناصر التي وقعت فيها الأحداث، وتتضمن الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والموقع الجغرافيّ. هذا الفهم يساعد المؤرخ على تجنّب الإسقاطات الزمنيّة والتفسيرات المغلوطة، التي قد تنشأ عندما يتناول حدثًا منزوعًا من سياقه.

لنأخذ على سبيل المثال رسالة نابليون بونابرت إلى الشيخ المسيري عام 1798م، التي عبّر فيها عن أمله في إنشاء حكومة في مصر تحكم بشرع القرآن الكريم، واصفًا إياها بأنّها "الشريعة الوحيدة التي تمثل الحقيقة، والقادرة على إسعاد البشر".

لفهم هذه الرسالة بشكل صحيح، يجب على المؤرخ أن يضع في اعتباره السياق السياسيّ لتلك الفترة، حيث كانت بداية الحملة الفرنسية على مصر، وكان نابليون يسعى لكسب تأييد المصريين، كما يتعين النظر إلى الخلفية الثقافية لمصر آنذاك، حيث كان الإسلام الدين السائد والعلماء والمشايخ يتمتعون بمكانة مرموقة في المجتمع، وفي الوقت نفسه كان المجتمع المصري يعاني من حكم المماليك، وكان هناك تطلع للتغيير.. إضافة إلى ذلك، كان لموقع مصر الجغرافي أهمية إستراتيجية كبيرة، لكونها جزءًا من الإمبراطورية العثمانية ومحط اهتمام القوى الأوروبية.

بهذا الفهم الشامل، يمكن للمؤرخ أن يدرك أن رسالة نابليون كانت جزءًا من إستراتيجية سياسية، تهدف إلى كسب التأييد المحلي، وليست بالضرورة تعبيرًا عن قناعة شخصية بالإسلام.

ويمكن تطبيق هذا المنهج في فهم السياق التاريخي أيضًا عند تحليل الأحداث والأخبار في حياتنا اليومية؛ فعندما نتلقى خبرًا أو نشهد حدثًا، من الضروريّ أن نحاول فهم الخلفيّة السياسيّة والاجتماعيّة للحدث، والمصالح الاقتصاديّة التي قد تكون وراءه، والتأثيرات الثقافيّة والدينيّة المحتملة، والعوامل الجغرافيّة والبيئيّة ذات الصلة، والسياق التاريخيّ الأوسع الذي يندرج فيه الحدث.. بهذا الأسلوب، نستطيع تكوين فهم أعمق وأكثر دقة للأحداث الجارية، متجنبين التفسيرات السطحيّة أو المتحيزة، ويساعدنا هذا النهج على أن نكون أكثر وعيًا وقدرة على التحليل النقديّ في عالمنا المعاصر المعقد.

يتجنّب المؤرخ التعميمات الواسعة، مثل القول إن "النساء كنّ دائمًا مضطهدات في العصور القديمة"، فالواقع التاريخيّ أكثر تعقيدًا، ففي بعض الحضارات القديمة مُنحت المرأة حقوقًا كثيرة، بينما كانت أوضاع النساء في حضارات أخرى مختلفة تمامًا

  • نقد المصدر
إعلان

ينظر المؤرخ بعين فاحصة إلى كل معلومة قبل أن يعتمدها في دراسته، وهو ما يميز عمل المؤرخين عن غيرهم من العلماء في العلوم الاجتماعية؛ حيث يتساءل حول أصل الوثائق والحقائق التي يستند إليها، ويدقق في مدى صحتها. فعلى سبيل المثال، عند تناول إحصائيات معينة- كإحصائيات إضراب ما- لا يقبل المؤرخ الأرقام الرسمية كأمر مسلم به، بل يتساءل عن كيفية جمعها، ومن قام بذلك، ووفقًا لأي إجراءات إدارية.. هذه الأسئلة تبرز أهمية التحقق من مصداقية المعلومات في أيّ دراسة تاريخية.

  • الموضوعية والاحترام

يتعامل المؤرخ مع الماضي وأهله بمنظور أخلاقيّ موضوعيّ.. يبدأ هذا النهج باحترام كرامة الأشخاص الذين عاشوا في فترات زمنية مختلفة، والاعتراف بأنهم كانوا بشرًا حقيقيّين يتفاعلون مع ظروف معقدة، ويتجنب بذلك الأحكام المسبقة والتعميمات السطحيّة، فلا ينبغي النظر إلى الأشخاص الذين عاشوا في الماضي على أنهم أقل ذكاءً أو أكثر وحشيّةً (أو على العكس، أكثر براءةً وأخلاقًا) مقارنةً بنا. كما لا يصحّ وصف الشخصيات التاريخيّة بأنها "متقدمة على عصرها" أو "متخلفة"، فمثل هذه الأوصاف تعكس نظرة متعالية وغير منصفة.

ويتجنّب المؤرخ التعميمات الواسعة، مثل القول إن "النساء كنّ دائمًا مضطهدات في العصور القديمة"، فالواقع التاريخيّ أكثر تعقيدًا، ففي بعض الحضارات القديمة مُنحت المرأة حقوقًا كثيرة، بينما كانت أوضاع النساء في حضارات أخرى مختلفة تمامًا. بدلًا من ذلك، ينبغي فهم أفكار وأفعال هؤلاء الأفراد في سياقها الخاصّ، وعدم استيراد قيم الحاضر ومعتقداته وممارساته ونقلها إلى الماضي، وهو ما ينبغي التعامل وفقه في واقعنا.

  • ديناميكية التاريخ.. فهم التغير والاستمرارية

يُطلب  من المؤرخ أن يُفكر في كيفية تطور المجتمعات والمؤسسات والأفكار عبر الزمن، من خلال دراسة التحولات الكبرى والعوامل المسبّبة لها، إلى جانب العناصر الثابتة رغم التغيير؛ ويعتمد النهج على رؤية الأحداث جزءًا من سياق أوسع، حيث لا تقتصر الدراسة على الأحداث المباشرة، بل تشمل التغيرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة الممهدة لها. يساعد هذا في تجنب التبسيط المفرط، وفي فهم تعقيد التاريخ بشكل أعمق.. من خلال هذا التفكير، يمكن رسم خطوط الاتصال بين الماضي والحاضر، ما يوفر أدوات لفهم واقعنا الحاليّ واستشراف المستقبل.

التفكير كمؤرخ ليس حكرًا على الأكاديميين والباحثين، بل هو مهارة قيّمة يمكن لكل فرد تطبيقُها في حياته اليوميّة.. هذا النهج يُمكّنُنا من تقييم المعلومات والأخبار بشكل نقديّ، وفهم الأحداث الجارية في سياقها التاريخيّ الأوسع

  • التثبّت من الروايات الأُحادية
إعلان

لا يمكن للمؤرخ أن يعتمد على رواية واحدة بشكل مطلق لبناء سرد تاريخيّ موثوق؛ فطبيعة التاريخ- ببعده الزمنيّ وافتقاره إلى الشواهد المباشرة- تجعله عرضة لتأويلات متعددة. فالاعتماد على مصدر واحد يفتح الباب واسعًا أمام التحيز والخطأ، فقد تكون هذه الرواية مشوبة برؤية شخصية أو أغراض محددة؛ لذلك يسعى المؤرخون إلى مقارنة وتدقيق الروايات المختلفة، فهم يدركون أنّ الحقيقة التاريخية ليست حقيقة مطلقة، بل هي نتيجة لتفاعل بين روايات متعددة، كل واحدة منها تحمل جزءًا من الحقيقة الكاملة.

وعندما يضطر المؤرخ إلى الاعتماد على رواية واحدة، فإنّه يحرص على التنبيه لهذا الأمر، ليُعلم القارئ بمحدودية هذه الرواية، وبالتالي يتسنى للقارئ تقييم المعلومات بشكل نقديّ. وعندما تتعارض الروايات، يواجه المؤرخ تحديًا كبيرًا؛ فبدلًا من البحث عن "الحقيقة"، يسعى المؤرخ إلى فهم أسباب هذه التناقضات، وكيف يمكن أن تعكس وجهات نظر مختلفة أو تحيزات ثقافيّة أو اجتماعيّة.

  • تجاوز الميول الشخصية

يواجه المؤرخ تحديًا مستمرًا يتمثل في تجاوز ميوله الشخصيّة وتحيزاته عند دراسة الماضي؛ فالتاريخ- كأيّ نشاط بشريّ- يخضع لتأثير العوامل الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، التي يُعتبر المؤرخ جزءًا منها؛ فقد يتأثر المؤرخ بتحيزات وطنيّة أو أيديولوجيّة أو حتى زمنيّة، ما يؤثر على اختياره للمواضيع والمصادر وتفسير الأحداث.

للتغلّب على هذه التحدّيات، يتطلب العمل التاريخيّ جهدًا واعيًا لتحييد هذه التحيزات، وأن يُطور المؤرخ القدرة على التمييز بين التعاطف التاريخيّ والموافقة الأخلاقيّة. وفهم سبب تصرّف الناس بطريقة معيّنة في الماضي لا يعني بالضرورة الموافقة على تلك التصرّفات من منظور معاصر.. إنّ من المفيد ممارسة ما يسمّى بـالتفكير المضادّ للحدس؛ وهو محاولة فهم وجهات النظر التي تتعارض مع معتقداتنا الشخصيّة، وتحدّي افتراضاتنا الخاصة حول الماضي.

إعلان

في الأخير؛ نؤكد أنّ التفكير كمؤرخ ليس حكرًا على الأكاديميين والباحثين، بل هو مهارة قيّمة يمكن لكل فرد تطبيقُها في حياته اليوميّة.. هذا النهج يُمكّنُنا من تقييم المعلومات والأخبار بشكل نقديّ، وفهم الأحداث الجارية في سياقها التاريخيّ الأوسع، كما يساعدنا على تجنب الأحكام المتسرعة والتعميمات الواسعة، ويعزز قدرتنا على فهم التعقيدات والتناقضات في الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة.

ومن خلال تبني هذه الطريقة في التفكير، نصبح أكثر وعيًا بتأثير الماضي على الحاضر، وأكثر قدرة على التفكير الموضوعيّ البعيد عن التحيزات والميول الشخصيّة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان