شعار قسم مدونات

مجزرة الغوطة.. جرح عميق في الذاكرة السورية

صورة من مجزرة الكيماوي من مدينة عربين بالغوطة الشرقية - آب 2013
جانب من ضحايا مجزرة الكيماوي بالغوطة الشرقية أغسطس/آب 2013 (الجزيرة)

في21 أغسطس/آب من عام 2013، توسعت قائمة جرائم النظام السوري لتبلغ استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليًا لقتل المدنيين الأبرياء، بعد أن وصل النظام إلى حافة الانهيار، ولم يعد أمامه سوى إرهاب الشعب السوري بالأسلحة الكيماوية.

في ريف دمشق، وفي منطقة الغوطة الشرقية تحديدًا، تعرض الأهالي لهجوم بغاز السارين السام، أو ما يسمى بغاز الأعصاب القاتل، الذي يسبب شللًا في الجهاز العصبي، ويؤدي إلى الموت بسبب توقف عمل الجهاز التنفسي.

أثناء نوم أهالي الغوطة ومع بزوغ خيوط الفجر الأولى قام النظام بإطلاق صواريخ محملة بغاز السارين، فأصابت الناس أعراض تسمم حادة نتيجة استنشاق الغاز، كالاختناق، والتشنجات العضلية الحادة، والشلل المؤقت، وفقدان الوعي..

لكي تكتمل اللوحة المأساوية السورية، جاءت هذه الأوضاع الصعبة بالتزامن مع صعوبة واجهت الاستجابة الدولية للوصول إلى المناطق المتضررة، بسبب استمرار القتال والحصار المفروض من قوات النظام السوري على العديد من مناطق المعارضة

ومن المشاهد المؤلمة التي ذكرها أحد شهود العيان معاناة الناس من الاختناق، وهم يتلوون من الألم، فكثير من الناس لقوا حتفهم خلال دقائق، بينما عانى آخرون من اختناق تدريجي حتى الموت. والمشهد الأكثر قساوة كان جثث الضحايا المرصوصة في الشوارع والمستشفيات الميدانية، فقد كان الأطفال هم الأكثر تأثرًا بالغازات السامة، وأظهرت صور لاحقة لهم معاناتهم من حالات الاختناق والتشنجات التي تسببت بموت المئات منهم.

إعلان

الكادر الطبي عمل في ظروف صعبة، والرعاية الطبية في تلك المناطق كانت شبه منعدمة، بسبب النقص الحاد في الأدوية والمعدات الطبية والأقنعة الواقية، ما أدى إلى موت كثير من الناس. وكانت حصيلة الضحايا الذين قُتلوا ما بين 1,400 و1,700 شخص من المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء.

لم يكن تأثير هذه المجزرة على المدنيين صحيًا فقط، بل رافق ذلك الهجوم نزوح جماعي للسكّان تاركين خلفهم ممتلكاتهم وحاجياتهم، فارين إلى أماكن كالمخيمات التي تفتقر لأدنى وسائل العيش، كالماء النظيف والغذاء والرعاية الصحيّة.

ولم تكن معاناة الأطفال تقتصر على الأمراض والبرد والجوع، فقد عانوا من الصدمات النفسية؛ بسبب المشاهد المروعة التي شهدوها من الموت والاختناق، وعانى عديدون منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب والقلق الشديد، كما عاشوا في حالة من الرعب المستمرّ تحسبًا من تكرار الهجوم الكيماوي.

ولكي تكتمل اللوحة المأساوية السورية، جاءت هذه الأوضاع الصعبة بالتزامن مع صعوبة واجهت الاستجابة الدولية للوصول إلى المناطق المتضررة، بسبب استمرار القتال والحصار المفروض من قوات النظام السوري على العديد من مناطق المعارضة.

الأسلحة الكيماوية المستخدمة، مثل غاز السارين، كانت موجودة ضمن ترسانة الأسلحة السورية وفقًا لتقارير دولية قبل اتفاقية التخلص من الأسلحة الكيماوية في عام 2013

موقف المجتمع الدولي والإفلات من العقاب

المجتمع الدولي كعادته يستنكر بصوت قوي وعالي الوتيرة أي جريمة تقع بحق الشعوب، ولكن حدة الصوت تتناقص رويدًا رويدًا مع بعض التفاهمات الدبلوماسية والسياسية مع دول أخرى.

فدول الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وجّهت الاتهام ضد النظام السوري، وطالبت بتحقيق شامل وتدخل دولي لمعاقبة المسؤولين عن الهجوم.. الولايات المتحدة برئاسة باراك أوباما اتخذت في ذلك الوقت موقفًا حازمًا تجاه هذه المجزرة، وطالبت بإجراء تحقيقات دولية ومحاسبة المسؤولين.

أما الأمم المتحدة، فقد أرسلت بدورها بعثة لتقصي الحقائق بقيادة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وكانت نتائج التحقيق:

  • أن الصواريخ المستخدمة في الهجوم كانت من أنواع معروفة بأنها جزء من ترسانة الجيش السوري.
  • الأسلحة الكيماوية المستخدمة، مثل غاز السارين، كانت موجودة ضمن ترسانة الأسلحة السورية وفقًا لتقارير دولية قبل اتفاقية التخلص من الأسلحة الكيماوية في عام 2013.
  • والأهم.. أكدت أن الصواريخ التي أُطلقت على المناطق المستهدفة جاءت من مناطق تحت سيطرة النظام.
إعلان

أما النظام السوري، فقد نفى مسؤوليته – كعادته – عن الهجوم، ووجه أصابع الاتهام إلى المعارضة.

الاتفاق المشؤوم، مثّل نقطة تحول في العلاقات الروسية الأميركية في سياق الأزمة السورية. وبفضل وساطتها تمكّنت روسيا من تقديم نفسها كقوة دولية قادرة على حل الأزمات، دون الحاجة إلى استخدام القوة

الولايات المتحدة هددت بشن ضربات عسكرية ضد النظام السوري، لكن روسيا استغلت هذه المجزرة لتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية، فقامت بعرقلة أي محاولة لتوجيه اتهامات مباشرة للنظام السوري. واستغلت الهجوم الكيماوي في الغوطة لتقويض المبادرات الدولية الرامية إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، واستخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لمنع اتخاذ أي إجراءات عقابية ضد النظام السوري.

الولايات المتحدة، التي قالت إن استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة دوليًا هو "خط أحمر"، تراجعت عن موقفها بشن الضربات العسكرية، لأنه تزامن مع التحضير للاتفاق النووي "خمسة زائد واحد" مع إيران، خشية أنّ ضربةً للحليف الإيراني في دمشق قد تعرقل هذا الاتفاق، وأيضًا بعد اتفاق أميركي روسي، أبرز ما نصَّ عليه وقف الضربة العسكرية ضد النظام السوري، وإزالة وتدمير الترسانة الكيماوية السورية، ما أعطى النظام السوري فترة راحة.

وبالتالي، هذا الاتفاق رسّخ مكانة روسيا كطرف رئيس في الأزمة السورية، وكحليف أساسي للنظام السوري. ومن خلال هذا الدور، أصبحت روسيا القناة الرئيسة للحوار بين الغرب والنظام السوري، ما منحها نفوذًا دبلوماسيًا وعسكريًا أكبر في المنطقة.

فالاتفاق المشؤوم، مثّل نقطة تحول في العلاقات الروسية الأميركية في سياق الأزمة السورية. وبفضل وساطتها تمكّنت روسيا من تقديم نفسها كقوة دولية قادرة على حل الأزمات، دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية، ما أكسبها مزيدًا من الشرعية والنفوذ الدولي، وقلل من قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على التدخل المباشر في الأزمة السورية، وأبقى النظام السوري في السلطة.

كما أدى لاحقًا إلى تدخل عسكري روسي مباشر لدعم النظام في عام 2015، وقلب موازين القوى لصالح النظام السوري، باستعادة السيطرة على العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة.

مجزرة الغوطة الكيماوية كشفت مدى وحشية النظام السوري، واستخدامه أبشع وسائل القتل حتى أسلحة الدمار الشامل ضد المدنيين الأبرياء

الانعكاسات السلبية التي وقعت على المعارضة السورية

هذه المجزرة كانت نقطة تحول جذري، ولكن هذا التحول – بكل أسف – لم يكن ضد النظام السوري!

إعلان

فمن المنطق أنه يتوجب على المجتمع الدولي بعد صدور نتائج التحقيق في هذه المجزرة، تجريم الأسد واتخاذ عقوبات دولية بحقه، وإنقاذ الشعب السوري.. هذا هو المنطقي. لكن ما حصل هو العكس تمامًا؛ فالأحداث التي تلت هذه المجزرة، ابتداءً من الاتفاق الأميركي الروسي، أضعفت موقف المعارضة السورية، التي أَمِلت بتدخل عسكري غربي يقلب موازين القوى لصالحها.

لكن عدم حدوث هذا التدخل أدى إلى تراجع قدرتها على تحقيق مكاسب عسكرية ضد النظام. بل منح النظام فرصة لتمكين مواقعه وإعادة ترتيب أوراقه على الأرض، وعزز في الوقت ذاته من نفوذ روسيا في سوريا، وترك الصراع السوري يستمر لفترة أطول مع استمرار المعاناة الإنسانية.

عدم اتخاذ إجراءات حقيقية بحق المجرم الذي ارتكب هذه المجزرة أدى إلى تكرارها، كارتكابه مجزرة خان شيخون في الرابع من أبريل/ نيسان 2017، التي أدت إلى مقتل أكثر من 80 شخصًا إثر استخدام غاز السارين، ومجزرة دوما في 7 أبريل/ نيسان 2018 في استخدامه غاز الكلور، وقد قُتِل فيها مئات الضحايا من المدنيين.. هذا بالإضافة لعشرات الضربات الكيماوية لعدة مناطق في سوريا.

مجزرة الغوطة الكيماوية كشفت مدى وحشية النظام السوري، واستخدامه أبشع وسائل القتل حتى أسلحة الدمار الشامل ضد المدنيين الأبرياء.

ولقد مرّت سنوات على هذه الجريمة، التي أعقبتها تحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيماوية (OPCW)، التي شملتها مع عدة هجمات كيماوية بعد 2013، وأكدت استخدام مواد كيماوية مثل غازي السارين والكلور في بعض الهجمات. وقد توصل فريق التحقيق الدولي المشترك في عدة تقارير إلى أن النظام السوري مسؤول عن استخدام الأسلحة الكيماوية، بما في ذلك السارين والكلور.

لكن.. مع كل ذلك لم تتم محاسبة الأسد، بل تُرِك طليقًا يتفنن في إفساد البلد والتسبب بتدهوره اقتصاديًا وعسكريًا وإنسانيًا، وجعله مرتعًا للإرهاب والعصابات والاحتلال.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان