شعار قسم مدونات

كيف سوغ الخطاب الإسرائيلي الإبادة الجماعية في غزة؟

صور من حي الدرج وسط قطاع غزة
تعمد الاحتلال الإسرائيلي استهداف مراكز تجمع المدنيين لقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين (الجزيرة)

اللغة ليست مجرد وسيلة اتصال، إنّما هي أداة قوية تشكل التصورات وتؤثر على التصرفات، وتغير الوعي الجماعي للمجتمعات. يقول عالم اللغويات إبراهيم أنيس إن السياسيين يستغلون الألفاظ استغلالًا سيئًا، ويفرضون عقائدهم على الجمهور، فـ"الفدائي يجعلونه إرهابيًا، والوطني قد يصفونه بالمتهوّر المتعصب، والهزيمة يصوّرونها في صورة النصر المبين".

كثيرًا ما يتلاعب أصحاب السلطة باللغة كي يقللوا من شأن المناوئين لهم، كخطوة تمهيدية تسبق أعمال العنف والقمع تجاههم. هذه الممارسة واضحة بشكل خاص في سياق الاستعمار، إذ استخدمت القوى الأوروبية الاستعمارية مصطلحات عنصرية ومهينة من أجل إخضاع واستغلال السكان الأصليين.

وفي العصر الحديث، لا تزال هذه التكتيكات قائمة، كما يتضح من الخطاب الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين.. إن إطلاق مفردات وألفاظ مسيئة ومهينة وعدوانية تجاه الفلسطينيين منهج تبناه الكيان المعتدي سنوات طويلة، ولا يزال مستمرًا في هذا المنهج، لكنه ظهر جليًا بعد طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم.

وصف سكان غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، ومن ثم الإعلان عن حصار كامل ومطبق، يعكس خطابًا عنصريًا لا يريد تبرير الإجراءات المتطرفة مثل قطع الموارد الأساسية فحسب، وإنما يحرض على ارتكاب الفظائع

فيما يلي ستة تصريحات أدلى بها قادة إسرائيليون، يدعون فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الإبادة الجماعية في غزة، في أعقاب طوفان الأقصى:

  • بعد أيام قليلة من طوفان الأقصى، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حصار غزة من أجل محاربة "الحيوانات البشرية"، وقال: "لا كهرباء ولا طعام ولا وقود"!.

إن وصف سكان غزة أو المقاتلين بأنهم "حيوانات بشرية"، ومن ثم الإعلان عن حصار كامل ومطبق، يعكس خطابًا عنصريًا لا يريد تبرير الإجراءات المتطرفة مثل قطع الموارد الأساسية فحسب، وإنما يحرض على ارتكاب الفظائع. ووصفُ غالانت هذا ما هو إلا حلقة في سلسلة من العبارات العنصرية والتحريضية التي استخدمتها القوى الاستعمارية الأوروبية؛ كي تمرر السياسات الوحشية ضد السكان الأصليين.

في أستراليا، كثيرًا ما كان السكان الأصليون يوصفون بأنهم جزء من "الحيوانات"؛ لتبرير استغلالهم وإبادتهم. وفي أفريقيا، أثناء استعمار الكونغو في عهد ملك بلجيكا، ليوبولد الثاني، كان الكونغوليون يُتَّهمون بأنهم همجيون وبحاجة إلى "التحضر"؛ وتأكيدًا لهذه الهمجية والوحشية التي هي أقرب إلى الحيوانات، أقيم في عام 1897 في العاصمة البلجيكية بروكسل معرض اقتيدت إليه مجموعات من الكونغوليين، وعُرضوا أمام الزوار ضمن ما عرف وقتها بحدائق الحيوانات البشرية.

وفي خضم الإبادة الجماعية في رواندا، أشير إلى التوتسي باسم "الصراصير"، وهو المصطلح الذي استُخدِم للتحريض على العنف الجماعي ضدهم. وفي الولايات المتحدة، جُرِّد العبيد الأفارقة من إنسانيتهم حين وصفوا بالحيوانات، أو أنهم مجرد ممتلكات، ولذا حرموا من حقوقهم الإنسانية. أما النازيون فقد شبه بعضهم اليهود الأوروبيين بالحشرات وأشباه الفئران.

  • في أواخر أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، في خطاب تلفزيوني موجه إلى الجمهور الإسرائيلي، استشهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالكتاب المقدس أثناء إعلانه عن العدوان على غزة، قائلًا: "يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم".

العماليق – كما في سفر الخروج – هاجموا الإسرائيليين عند فرارهم من مصر. وعلى الرغم من انتصار الإسرائيليين عليهم، فإن أحفاد العماليق حلت عليهم اللعنة الإلهية، وكما جاء في التوراة لا بد من إبادة العماليق.

في استشهاده بنص توراتي، يرسم نتنياهو مقارنة بين أعداء إسرائيل القدامى وشعب غزة، الذين يشكلون تهديدًا وجوديًا لدولة إسرائيل، ولابد إذن من القضاء عليهم. ولا تعني هذه المقارنة مبررًا دينيًا للعمل العسكري فحسب، بل إنها تموضع الصراع أيضًا في إطار عام، حيث لا تنازل أو تعايش.

أيضًا، إن من شأن هذا الاستشهاد أن ينزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين من خلال مقارنتهم بعدو قديم ملعون من الله. وهو أيضًا محاولة لحشد الدعم بين القطاعات الدينية والقومية من الإسرائيليين، الذين ينظرون إلى هذا الصراع عبر تعاليم الكتاب المقدس.

هذا، ويستشهد اليمين الإسرائيلي المتطرف بالآية رقم 1 من سفر صموئيل الأول 3:15 لتبرير قتل الفلسطينيين: "فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم بل اقتل رجلًا وامرأةً، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا".

نددت رابطة "مكافحة التشهير بإسرائيل" بتصريح الحاخام ودعت إلى محاسبته، وأضافت: "الدعوة العشوائية لإيذاء الأبرياء ظلم أخلاقي خطير، وهو ما يضر بأعمال الجيش في غزة خلال الحرب، ويشوه صورة دولة إسرائيل في العالم"

  • في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2023، أثار وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو غضبًا واسع النطاق في مقابلة إذاعية اقترح فيها وضع إسقاط قنبلة نووية على قطاع غزة كـ "أحد الاحتمالات" في الصراع الحالي، وإلياهو عضو في حزب أوتزما يهوديت (القوة اليهودية). وفي أعقاب هذه التصريحات العنصرية، سارع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى التبرؤ من تعليقات إلياهو، وعلق مشاركته في اجتماعات مجلس الوزراء.

قال مكتب نتنياهو: "تصريحات إلياهو لا تستند إلى الواقع، إن إسرائيل والجيش الإسرائيلي ملتزمان بأدق معايير القانون الدولي لتجنب إيذاء الأبرياء، وسنواصل القيام بذلك حتى انتصارنا".

  • في 9 مارس/آذار من هذا العام، دعا حاخام إسرائيلي إلى قتل النساء والأطفال في قطاع غزة، تطبيقًا لما جاء في تعاليم الشريعة اليهودية. قال: "اليوم هو طفل؛ وغدًا هو مقاتل"، ثم أضاف: "في حربنا المقدسة، وفي سياق غزة، القانون واضح.. ليس كل نفس ستعيش، والمنطق وراء هذا واضح.. إذا لم تقتلهم، فسوف يقتلونك".

إن هذه العقلية الإجرامية تؤجج نار العنف الذي تزاوله إسرائيل، لأنها عقلية تفتح النار على كل فلسطيني، مقاتلًا كان أم مدنيًا، كبيرًا أم صغيرًا، رجلًا أم امرأة. نددت رابطة "مكافحة التشهير بإسرائيل" بتصريح الحاخام ودعت إلى محاسبته، وأضافت: "الدعوة العشوائية لإيذاء الأبرياء ظلم أخلاقي خطير، وهو ما يضر بأعمال الجيش في غزة خلال الحرب، ويشوه صورة دولة إسرائيل في العالم".

  • في 18 أبريل/ نيسان من هذا العام، اقترح وزير الأمن القومي الإسرائيلي، اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، عقوبة الإعدام كحل للسجون المكتظة بالسجناء الفلسطينيين. ورحب بقرار الجيش الإسرائيلي بناء 936 سجنًا إضافيًا لـ "السجناء الأمنيين". وقال في إشارة إلى مصلحة السجون الإسرائيلية: "إن البناء الإضافي سيسمح لمصلحة السجون باستيعاب المزيد من الإرهابيين، وسيحقق حلًا جزئيًا لأزمة السجون في الشاباك".
  • في أوائل أغسطس/ آب من هذا العام، تصدر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش عناوين الأخبار، عندما اقترح أن تجويع سكان غزة يمكن أن يكون تكتيكًا مبررًا وتصرفًا أخلاقيًا حتى تتم إعادة الأسرى الإسرائيليين. أثار هذا التصريح المروع ردود فعل من المجتمع الدولي، حيث أدانت المملكة المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي تصريحات سموتريتش، باعتبارها دعوة إلى ارتكاب جرائم حرب.

في كل ساعة في غزة، يستشهد 15 شخصًا، ستة منهم أطفال، ويصاب 35 شخصًا، وتسقط 42 قنبلة، ويدمر 12 مبنى

إن هذه التصريحات غير المسؤولة، الصادرة عن شخصيات إسرائيلية يفترض أنها "مسؤولة"، تكشف عن أسلوب ممنهج مقلق للغاية، أسلوب يتم فيه إطلاق تصريحات تهين إنسانية أهلنا في فلسطين، وتحرض على قتلهم والتنكيل بهم.

إن الرد الصادر عن مكتب نتنياهو، والذي زعم أن إسرائيل وجيشها يلتزمان بأعلى معايير القانون الدولي لتجنب إيذاء المدنيين، ليس أكثر من كذب مبينٍ، وتجاهل واضح بل احتقار للقانون الدولي وحقوق الإنسان؛ ولو كانت إسرائيل ملتزمة حقًا بالتمسك بهذه المعايير، لما كان لأمثال هذه التصريحات وجود في الخطاب العام للقادة الإسرائيليين.

إن الوحشية المفرطة والهجوم العنيف المستمر على أهلنا في غزة من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي لما يقرب من عام، ما هو إلا مظهر واضح للغة الانتقام والإبادة.

بحسب أحدث البيانات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ومنظمة الصحة العالمية، والحكومة الفلسطينية، حتى 30 يونيو/ حزيران، دمرت الهجمات الإسرائيلي ما يلي:

  • أكثر من نصف منازل غزة (تدمير أو إتلاف).
  • 80 % من المرافق التجارية.
  • 88 % من المدارس.
  • 17 مستشفى من أصل 35 مستشفى تعمل جزئيًا.
  • 130 سيارة إسعاف.
  • 267 مكانًا للعبادة.

وفي كل ساعة في غزة، يستشهد 15 شخصًا، ستة منهم أطفال، ويصاب 35 شخصًا، وتسقط 42 قنبلة، ويدمر 12 مبنى.

مؤخرًا، كانت هناك تقارير تضمنت العديد من شهادات الفلسطينيين، ومنهم النساء والأطفال، الذين اعتقلتهم إسرائيل منذ بداية حربها على غزة. تعرّض هؤلاء المعتقلون إلى ألوان من التعذيب، والإساءة الجنسية، والعنف، والإذلال، والتجويع، والحرمان من الرعاية الطبية. ومن هؤلاء المعتقلين الطبيب محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء، الذي اعتُقل منذ أكثر من سبعة أشهر، وسط مزاعم عسكرية إسرائيلية بأن حماس تستخدم المستشفى قاعدة لها.

بات من الواضح لدى كثيرين أن إسرائيل ماضية في سياسة إراقة دماء الأبرياء، ونزع صفة الإنسانية الكاملة عن شعب غزة، وهي سياسة تترجم فيها الأفعالُ ما تقتضيه الأقوال

يصف أبو سلمية الظروف في الاحتجاز بأنها تنطوي على "إذلال جسدي ونفسي يومي"، وقال أبو سلمية بشأن المعاملة القاسية التي تعرض لها المعتقلون: "اعتدوا علينا بالكلاب البوليسية والهراوات والضرب، وسحبوا منا الفراش والأغطية". ووفقًا لـ"أبو سلمية"، فإنه "لمدة شهرين لم يأكل أي من الأسرى سوى رغيف خبز واحد يوميًا".

وردًا على المجازر البشعة والإبادة الممنهجة ضد أهل غزة، قدمت جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل، في محكمة العدل الدولية، في 29 ديسمبر/ كانون الأول عام 2023. وبعد شهر تقريبًا من الاستماع إلى المرافعات، والنظر في الأدلة والوقائع، أمرت المحكمةُ إسرائيلَ باتخاذ عدد من التدابير المؤقتة لحماية الفلسطينيين، ومنع الإبادة الجماعيّة في غزة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية.

لكن إسرائيل تجاهلت قرار المحكمة وما تزال تمنع توفير الخدمات الأساسية ودخول الوقود إلى غزة، متخذة التجويع والإذلال سلاحًا من أسلحتها.

بات من الواضح لدى كثيرين أن إسرائيل ماضية في سياسة إراقة دماء الأبرياء، ونزع صفة الإنسانية الكاملة عن شعب غزة، وهي سياسة تترجم فيها الأفعالُ ما تقتضيه الأقوال. وهذا بالطبع تجاهل واستخفاف بالمبادئ الأساسية، مثل: سيادة القانون، وقوانين الحرب، وحقوق الإنسان، وقواعد السلوك.

وهنا نسأل: لماذا يجب على إسرائيل مراعاة هذه الأحكام والقوانين، وهي طفل الغرب الفاسد المدلل، الذي لم يعتد لغة اللوم والتوبيخ فضلًا عن أن تأخذه يد العقاب يومًا ما؟!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان