لا المتنبّي سيد الفرسان، ولا نزار قباني شهريار عصره..
ثمة قول منسوب للكاتب والأديب المعروف عباس محمود العقاد، يقول فيه: عندما أسمع النقاد يتحدثون عني أظن أنهم يتحدثون عن شخص لا أعرفه، ولا تربطني به أية صلة. وحين سمع بعضهم ببيت شعر للشاعر بدوي الجبل يقول فيه:
أنا أبكي لكل قيد فأبكي .. لقريضي تغله الأوزان
سارعوا في استنتاج أن بدوي الجبل، وهو الملتزم بالشعر العربي التقليدي وزنًا وقافية، ربما يريد التحرر من ذلك الالتزام بتأثير موجة الشعر الحديث، وهو استنتاج لا صحة له، ولم يخطر على بال الشاعر أصلًا.
على أن هذين الشاهدين يفتحان لنا نافذة على ظاهرة شائعة في حياتنا الثقافية، بل والسياسية أحيانًا، فحواها الميل نحو اختراع سير حياتية متخيَّلة للشعراء بشكل خاص، وللشخصيات العامة من مشاهير الكتّاب والصحفيين والساسة بشكل عام.
إذا كان لنا أن نستشهد ببعض السير التي بُنيت بالاعتماد المباشر على النتاج الشعري لأصحاب تلك السير، بحيث اعتُبر ما قالوه في أشعارهم هو المعبَر الفعلي والحقيقي إلى شخصياتهم ودخائل أنفسهم فلنا في ذلك مثلان: قديم ومعاصر
ورغم أن تلك السير المتخيلة تتم صياغتها بتأثير ظاهرة عربية – وربما شرقية – مستحكمة في طريقة التفكير عند العرب، تتلخص في عدم تخيل المشاهير والشخصيات العامة على أنهم يعيشون حياتهم كباقي البشر الآخرين، بما فيها من سلبيات ونواقص هي من طبيعة البشر، فإنها فيما يتعلق بالشعراء خصوصًا تتأتى من طريقة نقدية مستقرة عند النقاد العرب قديمًا وحديثًا، مضمونها استقراء شخصية الشاعر وصفاته ونفسيته ودوافعه من خلال شعره.
بذلك تظهر لنا سير هؤلاء الشعراء مرسومة من خلال ما قالوه من أشعار بحق أنفسهم، فهم فرسان مقدامون، وعشّاق مخلصون، وكرماء موصوفون، بقدر ما نسبوا لأنفسهم ذلك في أشعارهم. وبالتالي، فإن تلك الطريقة النقدية المعتبرة إلى اليوم في النقد الأدبي العربي، وأعني بها دراسة شخصية ونفسية الشاعر من خلال نتاج شعره، ربما رسمت لنا شخصيات الشعراء على غير حقيقتها، بل أحيانًا نقيض حقيقتها.
وتلك الطريقة النقدية، المتمثلة باستقراء شخصيات المبدعين من خلال نتاجهم الإبداعي، لها وجود لدى مدارس النقد الغربي، إلا أن النقاد والدارسين الغربيين لا يسعون إلى بناء سيرة شعرائهم ومبدعيهم اعتمادًا على معطيات النص الإبداعي بشكل مباشر وخطي، ولكن من خلال إخضاع النص ذاته لمعطيات ومخرجات علم النفس وعلم دلائل النص وتاريخية مدلولات الخطاب، وهو ما يقترب من فهم شخصية المبدع، وهو فهم قابل للتغير بتغير الناقد، والأسس التحليلية التي يعتمد عليها، وهو أسلوب يكاد يكون غير ملحوظ في النقد الأدبي العربي.
وإذا كان لنا أن نستشهد ببعض السير التي بُنيت بالاعتماد المباشر على النتاج الشعري لأصحاب تلك السير، بحيث اعتُبر ما قالوه في أشعارهم هو المعبَر الفعلي والحقيقي إلى شخصياتهم ودخائل أنفسهم فلنا في ذلك مثلان: قديم ومعاصر.
فأما المثل القديم فهو لشاعر اعتُبر في عصره وفي كل العصور مالئ الدنيا وشاغل الناس.. هو أبو الطيب المتنبي. والخلاف ليس على أهميته الشعرية، التي لا ينكرها أحد، ولا على قدراته الفنية وعظمة إنتاجه الشعري، لكن الخلاف حول مدى كون هذا الشعر، الذي يسبغ فيه قائله على نفسه صفات عالية من الشجاعة والإقدام والرفعة والسمو، يمثل فعلًا صفات الشاعر النفسية والخلقية.. أهو كذلك أم إنه مجرد إبداع وموهبة مستقلة عن ذات الشاعر؟
وصل محمود محمد شاكر إلى النتيجة المتوقّعة، وهي أن المتنبي ذو همة ومروءة ورجولة وفروسية وكبرياء وفق ما عبر عن ذلك بشعره، بل إن شاكر ابتدع نهجًا أظن أنه لم يسبقه إليه أحد، وهو أنه وصل من خلال شعر المتنبي إلى أن شاعرنا لا يمكن أن يكون ذا نسب وضيع
النظرة العامة عند معظم من تناولوا ذلك أن ما قاله المتنبي في شعره يعبر عن ذاته، فشعره عظيم لأنه ذو شخصية عظيمة بصفاتها، بل الأمر وصل إلى أكثر من ذلك، فالباحث محمود محمد شاكر المعروف بتحقيق التراث، ألف كتابًا عن المتنبي على ذات الطريقة النقدية المعروفة لدى النقاد العرب، وهي استنتاج شخصية ونفسية الشاعر من خلال شعره.
وبطبيعة الحال، فقد وصل محمود محمد شاكر إلى النتيجة المتوقّعة، وهي أن المتنبي ذو همة ومروءة ورجولة وفروسية وكبرياء وفق ما عبر عن ذلك بشعره، بل إن شاكر ابتدع نهجًا أظن أنه لم يسبقه إليه أحد، وهو أنه وصل من خلال شعر المتنبي إلى أن شاعرنا لا يمكن أن يكون ذا نسب وضيع، وأنه ولد لشخص كان يعمل سقاءً للماء في الكوفة، كما هو معروف ومستقر تاريخيًا، وهو ما لم ينكره المتنبي نفسه، بل كان اكتشاف محمود محمد شاكر الكبير أن المتنبي علوي النسب (نسبة إلى علي بن أبي طالب)، وأن عبدان السقاء -وهو اسم أبيه- هو من تولى تربيته بدلًا من أبيه ذي الأصل العلوي الشريف، لسبب لا نعرفه.
وكان فرح محمود محمد شاكر العارم بعدها عندما جاء أحد الباحثين بالتاريخ والتراث ليخبره أنه وقع على خبر في أحد كتب التراث، يفيد أن مرضعة ذات نسب علوي تولت إرضاع المتنبي صغيرًا، فكان هذا الاكتشاف موضع سرور من محمود محمد شاكر، لكونه يقترب مما قال بنسب المتنبي الرفيع.
ورغم أن عديدًا من الباحثين كان لهم رأي آخر، مفاده أن هناك دلالة على رغبة جامحة عند المتنبي بالسلطة والنفوذ والمال، تشير إليها كثرة المديح والهجاء فيما قاله المتنبي بحق الحكام وأصحاب النفوذ، وتعدد رحلاته إلى هؤلاء، وصريح قوله في قصيدة مدح بها كافورًا الإخشيدي:
وغير كثير أن يزورك راجل .. فيرجع ملـكًا للعراقَـيْـن والـيا
تتبع المرأة في شعر نزار سيقودنا إلى أنه بالرغم من كثافة وجودها في شعره، فذلك لم يكن كله ذا طبيعة شهريارية -إن صح التعبير-؛ فمرة كانت صديقة وحبيبة، لكنها في مرات أخرى كانت قصد التحريض من قبله لتغير واقعها
لكن شاكر يرى أن ذلك لم يكن بقصد المال والسلطة والمناصب، بل لتحقيق غايات سامية، ومنها إقامة حكم عربي طال شوق المتنبي له.
وخلاصة القول إن محمود محمد شاكر وكثيرين غيره يرون أن شخصية ونفسية ودوافع المتنبي ذوات سمو ورفعة وفق ما وصف به نفسه في شعره. وظني أننا بذلك نكون أمام سيرة متخيلة أملتها الطريقة النقدية، التي تعتمد نتاج الشاعر للحكم على دوافعه وميوله وصفاته النفسية.
أما مثالنا المعاصر للسيَر المتخيلة فهو شاعر كان بدوره شاغل الناس بشعره، ونعني به نزار قباني. ولعل قرب العهد بنزار قباني يجعلنا أكثر قدرة على تلمس مدى اقتراب أو ابتعاد ما استقر في أذهان الناس بشأنه عن حقيقة صفاته وملامح شخصيته الحقيقية، وخاصة ما يتعلق بالنظرة العامة، والتي مفادها أن قباني كان بمثابة شهريار عصره بالمعنى الحقيقي لا المجازي.
وبطبيعة الحال، فإن تلك النظرة ترسخت من خلال أشعار نزار، التي تعلقت بالمرأة من مختلف الجوانب حتى لقب بـ"شاعر المرأة"، وهو لقب لم ينكره نزار بداية، بل ربما كان فرحًا به، لكنه بعد ذلك أصبح مصدر ضيق له، لا سيما بعد أن اتّجه نزار إلى الشعر السياسي، خاصة بعد هزيمة عام 1967.
لكن تتبع المرأة في شعر نزار سيقودنا إلى أنه بالرغم من كثافة وجودها في شعره، فذلك لم يكن كله ذا طبيعة شهريارية -إن صح التعبير-؛ فمرة كانت صديقة وحبيبة، لكنها في مرات أخرى كانت قصد التحريض من قبله لتغير واقعها:
ثوري، أحبك أن تثوري.. ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور.. ثوري على شرق يراك وليمة.
ومرات أخرى كانت موضع لوم:
يقتلني صمتك يا امرأة تتسلى من خلف ستار.. ثوري، انفعلي، لا تقفي مثل المسمار.. كالقشة تحت الأمطار.
نزار ربما كانت له تجارب وعلاقات حب مع بعضهن، بيد أن ذلك لم يكن السمة الغالبة على حياته وسلوكه، كما أن حياته الزوجية، لا سيما الزواج الثاني من بلقيس الراوي، كان زواجًا مستقرًا
وفي مرات أخرى كان الحديث على لسان المرأة، مثل قصيدة "كلمات".
ولعل نزار قباني يكاد يكون من القلائل الذين استطاعوا التعبير عن كوامن نفسية المرأة من خلال أشعاره. ومع ذلك فإن الصورة المتخيلة عمومًا عن شاعرنا أنه شهريار معاصر، معتمدين بطبيعة الحال على شواهد من شعره:
أيـن السـبايا أيـن ما ملـكت يـدي .. أين الحرير يضوع من حجراتي
لكننا بتتبع شهادات لأناس كانوا قريبين من نزار قباني بحكم القرابة والصداقة، ومنهم ابنته هدباء والكاتبة غادة السمان والشاعر محمود درويش وسواهم، نجدهم يؤكدون نفي تلك الصفة الشهريارية عن شاعرنا، ورغم اعترافهم بأن نزار ربما كانت له تجارب وعلاقات حب مع بعضهن، فإن ذلك لم يكن هو السمة الغالبة على حياته وسلوكه، وإن حياته الزوجية، لا سيما الزواج الثاني من بلقيس الراوي، كان زواجًا مستقرًا، وإن نزار بالإجمال كان (بيتوتيًّا) قليل المشاركة في السهرات والمناسبات الاجتماعية.
لكنها – مرة أخرى- السيرة المتخيلة، والطريقة المستقرة في أذهاننا، بأن حياة الشاعر هي مرآة شعره.. وهو- برأيي- مفهوم أبعد ما يكون عن الحقيقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.