- مفهوم الشمولية في الإسلام.. الثبات مقابل الهشاشة
هذا الجزء الرابع من سلسلة مناقشة حلقة الدكتور برهان غليون على منصّة سوريا بودكاست مع الصحفي محمد طاهر، بتاريخ 27 يوليو/ تموز 2024، والتي أثارت مجموعة من الفِكَر التي أرى أنّها تحتاج مزيدًا من التبيان والتوضيح، خاصّة حينما تصدر عن شخصية أكاديمية وفكرية لها رمزيتها.
في هذا المقال سنناقش جزئية اعتبار الإسلام منهجًا شاملًا لشتّى مناحي الحياة، واختلاف الدكتور مع هذه الفكرة، واعتبارها شيئًا جديدًا وبدعة لم تكن حاضرة عند المسلمين الأوائل، وأنّ منهج الشمول- خاصة في الجانب السياسي- أمر طارئ على الإسلام، مُستدلًا بقول الإمام ابن القيم "أينما وجد العدل فثم وجه الله"، والعدل ليس حكرًا على الإسلام وحده، بل كل الحضارات السابقة واللاحقة تعاملت مع العدل باعتباره إحدى القيم التي يتشاركها العالم آنذاك.
مبدأ شمولية الإسلام يعد من أكثر المفاهيم الإسلامية التي نالت توافقًا بين المسلمين عبر التاريخ.. هذا المبدأ لا يزال محتفظًا بدور محوري في تشكيل الوعي العام والعقل الجمعي للمجتمعات الإسلامية، ويؤثر بشكل كبير على بناء التصورات الكُلية والجزئية والمواقف العامة
إلا أنّ الدكتور غليون في سياق حديثه عن العدل عرّج على مفهوم تغيّر معايير القيم والمبادئ عبر التاريخ، وأنّه قد أصاب مفهوم العدل من التغييرات ما يُصيب القيم والمبادئ، فما كان يُعتبر عدلًا في العهود السابقة لا يُعتبر عدلًا اليوم، فالعدل الحديث اليوم هو المساواة بين كل الأفراد. وقد ضرب الدكتور مثلًا بالمرأة المسلمة في العصر الحديث، التي شعرت لمدة طويلة بالظلم مع الإتيان على الآية المشهورة ﴿الرجال قوامون على النساء﴾ [النساء: 34]، تسويغًا لهذه المظلومية المُدّعاة، فأصبحت اليوم من أكثر المطالِبين بالمساواة بسبب هذا التمييز عبر التاريخ.
وفي الحقيقة، أظنّ أنّنا بحاجة لنقاش إطلاقات الدكتور بشكل منهجي، لضبط المخرجات والوصول إلى نقاط واضحة ضمن نقاش القيم الثابتة والسائلة، ومفهوم الشمولية في الإسلام، عوضًا عن زحمة الأفكار هذه التي تصل بنا إلى اللاشيء في نهاية المطاف.
إنّ مبدأ شمولية الإسلام يعد من أكثر المفاهيم الإسلامية التي نالت توافقًا بين المسلمين عبر التاريخ.. هذا المبدأ لا يزال محتفظًا بدور محوري في تشكيل الوعي العام والعقل الجمعي للمجتمعات الإسلامية، ويؤثر بشكل كبير على بناء التصورات الكُلية والجزئية والمواقف العامة. وبالرغم من أهمية هذا المبدأ، فإنّه لم يخضع لتحليل دقيق وعميق على المستوى المفاهيمي لدى كثير من المفكرين العلمانيين، لذلك قد يتوهم البعض أنّه مفهوم جديد كلّيًا على المنظومة المعرفية للإسلام.
والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه في سياق حديث بعضهم عن الشمولية: أتعني هذه الشمولية وجود نص من القرآن والسنة النبوية لكل حالة أو مسألة، أم أنها تشير إلى وجود نصوص في بعض الحالات دون غيرها؟ الإجابة التي يتفق عليها العلماء والمفكرون، سواء المتقدمون أو المعاصرون، تميل نحو الخيار الثاني. وهذا يثير تساؤلات حول التفاصيل الدقيقة لهذا المفهوم وتطبيقاته العملية في مختلف مجالات الحياة.
الشمولية -في مفهومها الخاص- تُوفر للمسلمين منظومة قيمية شاملة، وهذا بدوره يُساهم في غرس قيم أخلاقية صلبة كالعدل والإنصاف والصدق والأمانة، التي تُشكل إطارًا عامًّا للسلوك في مختلف المجالات
إذن، مفهوم الشمولية في الإسلام يتبع نظامًا يصنف المسائل الحياتية إلى فئات متنوعة، مع تطبيق منهجيات مختلفة لكل فئة؛ فبعض المجالات تتميز بوفرة النصوص الشرعية التفصيلية، بينما تقتصر أخرى على المبادئ العامة والقواعد الكُلية. هذا التنوع يفتح المجال للاجتهاد العقلي في بعض القضايا، تماشيًا مع مبدأ "حيثما وجدت المصلحة فثمة شرع الله"، وهذا إقرار واعتراف بتفاوت مستويات هذه الشمولية عبر المجالات المختلفة.
ويمكن ملاحظة هذا التباين في درجة التفصيل والتحديد التي تقدمها التشريعات الإسلامية في مختلف المجالات الحياتية.. ستجد مثلًا في مجالي العبادات والشعائر، سواء الفردية أو الجماعية، وكذلك في نطاق الأحكام المتعلقة بالروابط الأسرية، أنّ التشريعات الإسلامية تتسم بدرجة عالية من التفصيل والدقة، لكن هذا النهج يختلف بشكل ملحوظ عند النظر إلى مجالات المعاملات المالية والاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى قضايا السلوك العام؛ في هذه المجالات الأخيرة، التي تتسم بتغير مستمر نتيجة لتطور الحضارة، سيُلاحظ أي قارئ منصف أنّ التشريعات الإسلامية تميل إلى تقديم مبادئ عامة وقواعد كلّية، مصحوبة بأمثلة عملية محدودة.. هذه الأمثلة تُستخدم كأساس للقياس والاستنباط في القضايا المستجدة، سواء في سياق الأمر أو النهي.
ثم إن الشمولية -في مفهومها الخاص- تُوفر للمسلمين منظومة قيمية شاملة، وهذا بدوره يُساهم في غرس قيم أخلاقية صلبة كالعدل والإنصاف والصدق والأمانة، التي تُشكل إطارًا عامًّا للسلوك في مختلف المجالات. هذا النهج أدى إلى القول إن الإسلام يُوفر حكمًا شرعيًّا لكل مسألة، حتى في ظل اتساع دائرة المباحات أو المسكوت عنه. ومع ذلك، فإن وجود هذه الدائرة الواسعة يُشير إلى أن سكوت الشرع عن بعض الأمور ليس غفلة، بل حكمة ورحمة، كما ورد في الحديث النبوي.
ومرةً أخرى، ساهم هذا الفهم في توفير إطار مرن للتعامل مع القضايا المستجدة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، مع الحفاظ على الأسس الأخلاقية والتشريعية الأساسية، وهو ما يفتح مجالًا واسعًا للبحث في كيفية تطبيق هذه المرونة على التحديات المعاصرة. والحقيقة أن هناك فلسفة عميقة وراء هذا الفهم المرن والحكيم تنبع من مفهوم أساسي في النظام المعرفي الإسلامي، هو مفهوم "الفطرة"، كما يصفها القرآن الكريم، والفطرة تُمثل الطبيعة الأساسية للإنسان، التي خلقها الله.
لنعد إلى مفهوم العدل في الإسلام، الذي جعله الدكتور معياريًا وجعله متفاوتًا ومتغيرًا بحكم المحيط والتاريخ، ما يجعله مفهومًا سائلًا، لا باعتباره قيمة ثابتة ومبدأ أساسيًّا يحفرُ التغييرات في أفهام الناس وأفعالهم ضمن منظومة قيم متماسكة، ما أدّى إلى تفجير ثورة مفاهيمية أخلاقية
هذه الفطرة تشمل نوازع ورغبات وميولًا فطرية تدفع الإنسان نحو السلوك والفعل، والقرآن يمتدح هذه الفطرة ويصفها بأنها "الدين القيم". وتتجلى الفطرة في دوافع مثل الرغبة في الإعمار والتملك، والميل إلى التنظيم والاجتماع، واستثمار الأوقات والجهود والموارد.. هذه الدوافع الفطرية تعمل كطاقة ذاتية لا تحتاج إلى محفز خارجي، ودور الوحي هنا ليس تحريك هذه الطاقة، بل ضبطها وتوجيهها وحمايتها من الانحراف.
لماذا نتحدّث عن الفطرة في سياق حديثنا عن الشمولية؟ إن هذا الفهم يساعد في تفسير تفاوت مفهوم شمولية الإسلام في مختلف مجالات الحياة؛ فالشمولية تكون مباشرة في بعض المجالات، وغير مباشرة في أخرى، ومزيجًا بينهما في حالات ثالثة.. فمبدأ الشمولية في الإسلام ليس جديدًا، كما حاول الدكتور برهان أن يُصوره، بل هو في غاية العمق في تاريخ الإسلام وتطبيقاته عبر التاريخ.
الآن، فلنعد إلى مفهوم العدل في الإسلام، الذي جعله الدكتور معياريًا وجعله متفاوتًا ومتغيرًا بحكم المحيط والتاريخ، ما يجعله مفهومًا سائلًا، لا باعتباره قيمة ثابتة ومبدأ أساسيًّا يحفرُ التغييرات في أفهام الناس وأفعالهم ضمن منظومة قيم متماسكة، ما أدى إلى تفجير ثورة مفاهيمية أخلاقية قائمة على المساواة بين الناس باعتبار وحدة أصلهم، وجعْل المفاضلة بين الناس على أساس الفضيلة لا على أساس القومية أو اللون أو العرق أو الجنس، مع ضرب عرض الحائط بكل التقاليد البالية والاعتبارات الجاهلية التي كانت تعكس الطبيعة القبلية لجزيرة العرب قبل الإسلام، حيث كانت القبيلة أو العائلة الوحدة الأساسية في المجتمع، وارتبطت بالقوة والقرابة، وكانت القبائل والعائلات الأقوى تُحدد معايير العدل بما يخدم مصالحها، ما أدى إلى تمتع القبائل القوية بحقوق وامتيازات أكبر مقارنة بالقبائل الضعيفة.
وقف الإمام الأوزاعي حصنًا منيعًا أمام قرار إجلاء المسيحيين من جبل لبنان، الذي اتخذه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ردًا على تمرّد فئة منهم، فوقف الأوزاعي جبلًا ثابتًا مستندًا إلى مبدأ العدل، وعدم تحميلهم مسؤولية أفعال فئة منهم
ثم أتى الإسلام بهذه الثورة الأخلاقية والقيمية، التي ساهمت في إزالة الحواجز التي تمنع رؤية الإنسان لأخيه الإنسان بواقعيّة، وكشفت زيف الفوارق المصطنعة وغير الأخلاقية التي تعيق العدالة. لقد أكّد الخطاب القرآني على المساواة ونفى المعايير التمييزية، ممهدًا لمعيار أخلاقي جديد يعتمد على التقوى والفضيلة. قال تعالى: ﴿يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليمٌ خبيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
فالناس يتفاضلون بناءً على درجة تقواهم، والتقوى لها درجات كثيرة وفضائل عدّة أعلاها وأثمنها احترام الإنسان للحقوق، وتقديره لأخيه الإنسان، وانفصاله عن معاني العنصرية، وعدم تقديم حسابات القرابة وانتماءات القبيلة على حساب الحقوق والواجبات والقيم، والامتثال للعدل لا للظلم أو الحسب والنسب.
يقول تعالى: ﴿وإن قلتم فاعدلو ولو كان ذا قربى﴾ [الأنعام 113]. هذا مع اعتراف الإسلام الحكيم والذكي بالفوارق الطبيعية بين الشعوب كالاختلافات الثقافية والتفاضل في الأرزاق على سبيل المثال: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم، إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم﴾ [الأنعام 167].
لا شك أنّ هذه الفِكَر الثورية وهذه الثقافة الجديدة آنذاك كانت مثار معارضة شديدة من قِبل أصحاب النفوذ والقوة والثقافة القديمة، من القبائل والمجتمعات التي رأت فيها ذهاب مصالحها، ولذا ستجد تطبيقات إسلامية متدرجة للحدّ منها والتخفيف من نتائجها، للوصول بالناس شيئًا فشيئًا إلى الحالة النموذجية المرجوّة، وهي حالة مفتوحة على المستقبل، إذ هو كفاح وجهاد مستمر للقضاء على كلّ مظاهر العنصرية والظلم والانحراف والاستبداد، انطلاقًا من القانون الإلهي الثابت، والمرجعية الإسلامية القيمية المقاصدية، والنظام الشامل لكافة مناحي الحياة.
لقد قدّم التاريخ الإسلامي أمثلة رائعة، تعكس ثبات المنظومة القيمية ورسوخها أمام تعنّت السلطة أو تبدّل المصالح. ويكفي لمن أراد الاستزادة الاطلاع على مآثر شخصية فذّة ممن أطلق عليه بعضهم لقب "شفيع المسيحيين"، وهو الإمام الأوزاعي (رحمه الله)، كمثال واحد فقط على ما نقول، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
فقد وقف الإمام الأوزاعي حصنًا منيعًا أمام قرار إجلاء المسيحيين من جبل لبنان، الذي اتخذه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ردًا على تمرد فئة منهم، فوقف الأوزاعي جبلًا ثابتًا مستندًا إلى مبدأ العدل، وعدم تحميلهم مسؤولية أفعال فئة منهم، ونتيجة لموقفه تم إلغاء قرار الإجلاء، ما أدى إلى حماية سكان جبل لبنان من إجراءات السلطة التعسفية.
لماذا نذهب بعيدًا؟ تشرشل عام 1945م أمر الطيران بقصف مدينة دريسدن الألمانية بمن فيها من المدنيين، بل استهدفت الطائرات المناطق السكنية حصرًا وإبادتها بشكل كامل، ولم تطلق صاروخًا واحدًا على المناطق الصناعية. وعندما سُئل الجنرال الإنجليزي آرثر هاريس، قائد طيران الحلفاء، عما يمكن أن يحققه هذا القصف، قال بكل صلافة: كل ما بقي من مدن ألمانيا لا يساوي عظام جندي إنجليزي واحد
ولكن لماذا نذهب بعيدًا؟ ها هو الأمير عبد القادر الجزائري يضرب مثالًا حيًّا على الأخلاق الثابتة، التي تنعكس في كل الأزمان كمواقف صلبة ضد الظلم والاستبداد والفوضى، وبرز في الفتنة الطائفية بين المسيحيين والدروز، التي اندلعت عام 1860م، ووصلت بنيرانها إلى دمشق، ولقي على إثرها أكثر من عشرة آلاف مسيحي مصرعهم. فهبّ الأمير لمساعدتهم بالتعاون مع أعيان المسلمين وفتحوا للناس قلعة دمشق لإيوائهم، بل فتح الأمير داره لاستقبالهم، وحمل الرجل سيفه، وخرج أمام الجموع التي وصلت إلى باب داره، صائحًا: "أهكذا ترضون نبيكم محمدًا؟ لن تنالوا من مسيحي واحد هنا، فجميعهم إخوتي".
بينما في الضفة الأخرى، نجد الغرب الذي يُمجّده البعض، ويُمجّدون تبعًا لذلك منظومات الحقوق والحريات وبنى القوانين التي استحدثها، والتي يمكن بكل بساطة انطلاقًا من حالة النسبية والسيولة تغييرها إذا اقتضت المصلحة ذلك. فما كان قانونًا في وقت ما يمكن أن يتغير، وما استقرّ في أذهان الناس على أنه فضيلة، يمكن وفق إجراءات محددة أن يصبح جُرمًا في حال اتفق الناس على ذلك. أي إنّ قانونًا ما يقرّه الناس في بلدهم ليحفظ الدماء والكرامة والحقوق، يمكن أن يُقرّ نقيضه تمامًا في بلدٍ آخر.
فما هي مرجعية الحقوق والفضائل والقوانين في هذه الحالة؟ أهي مرجعية فوقية متعالية، أم إنها متغيرة طبقًا للمصالح والأهواء؟ وفي هذه الحالة كيف يمكن ضمان العدل المتبدّل أو تفسيره؟ إذ هو يميل حيث تميل المصلحة ومصادر النفوذ، لا عملًا بالمبادئ والحقوق..
فها هو البابا يُرسل عام 1209م حملة صليبية ضد مجموعة مسيحية أخرى خالفت تعاليم الكاثوليك في جنوب فرنسا، والهدف منها الاستئصال والاجتثاث والإبادة، فلما وصل قائد الحملة إلى مشارف مدينة بيزيه الفرنسية، قال لجنده: اقتلوا كلّ من في المدينة. فلما استدرك أحد القادة قائلًا: إن هناك أتباعًا للكاثوليك في المدينة، ردّ عليه القائد بكلمة اشتهرت بعد ذلك: اقتلوهم جميعًا، والربّ سيتعرف على عبيده.
ولماذا نذهب بعيدًا؟ تشرشل عام 1945م أمر الطيران بقصف مدينة دريسدن الألمانية بمن فيها من المدنيين، بل استهدفت الطائرات المناطق السكنية حصرًا وإبادتها بشكل كامل، ولم تطلق صاروخًا واحدًا على المناطق الصناعية. وعندما سُئل الجنرال الإنجليزي آرثر هاريس، قائد طيران الحلفاء، عما يمكن أن يحققه هذا القصف، قال بكل صلافة: كل ما بقي من مدن ألمانيا لا يساوي عظام جندي إنجليزي واحد. بل ينقل المؤرخون قول تشرشل المشهور "دع الألمان يتذوّقون"!، في تلاعب أخلاقي يجعل من الجريمة فضيلة ومن الفضيلة جريمة، إذا ما شاء أصحاب النفوذ ذلك، متجاهلين قيم العدل والمساواة التي صدّعوا بها رؤوس العباد والبلاد.
كلّ ما تحتاجه لتكتشف حالة التناقض الفجّ هو تحويل ناظريك نحو فرنسا، أمّ الحرّيات والديمقراطية في العالم اليوم، كما يزعمون، لمتابعة تقارير العنف والقمع لمطاردة الحجاب في المدارس وملابس السباحة على الشواطئ، أو طرد نائب في البرلمان لمجرّد رفعه علم فلسطين
وتكفي التفاتة بسيطة إلى الحرب الأوكرانية الروسية، وما نتج عنها من تصدّع للرواية الغربية، حينما وقف رئيس الوزراء البلغاري متحدثًا عن اللاجئين الأوكرانيين وقال: هؤلاء لا يشبهون اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، إنهم أوروبيون وأذكياء ومتعلمون. بل انظر إلى الإجراءات التي تم اتخاذها مع الاتحادات الرياضية الروسية، وطردها من الفعاليات والمؤسسات، حتى وصل بهم الأمر إلى طرد القطط الروسية منها أيضًا، بينما كلّ ما كنا نسمعه في الغرب يدعو إلى فصل الرياضة عن السياسة.
في المقابل، قامت روسيا بتدمير سوريا أيضًا وقمع الناس فيها، وقتل الأبرياء دون جريرة، ثم خفتت الأصوات، فلم نسمع عن أية عقوبات وحالات طرد من الأندية والمؤسسات الرياضية على أقلّ تقدير. وتكرر الموضوع ذاته في الحرب الأميركية الظالمة على العراق، التي مرّت مرور الكرام دون حساب، بل نشاهد جورج بوش يُستضاف في المؤتمرات واللقاءات والمحافل الدولية، ويتقاضى آلاف الدولارات ليُصمّ أسماعنا بشعارات الليبرالية والديمقراطية والحقوق، بينما ما يستحقّه هذا الرجل هو السجن والمحاسبة كمجرم حرب من الطراز الوضيع.
كلّ ما تحتاجه لتكتشف حالة التناقض الفجّ هو تحويل ناظريك نحو فرنسا، أمّ الحرّيات والديمقراطية في العالم اليوم، كما يزعمون، لمتابعة تقارير العنف والقمع لمطاردة الحجاب في المدارس وملابس السباحة على الشواطئ، أو طرد نائب في البرلمان لمجرّد رفعه علم فلسطين، وغيرها من التصرفات الدالة على اختلال الموازين وتخبّط القوم، وضمور المنظومة القيمية لديهم، والتي بُنيت على أساس عنصري، يتناقض مع أي نموذج إنساني يستوعب كل البشر بكل اختلافاتهم.
وقد قالها روجيه غارودي في كتابه "حفارو القبور": إنّ كل هذه المنظمات والهيئات هي مجرّد أدوات، أفرزها المنتصر عشيّة الحرب العالمية الثانية للاستمرار في نهب العالم. وليست ببعيدة عنّا تصريحات كريم خان، المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التي فضح فيها أنّ قادة سياسيين غربيين منتخبين أخبروه بصريح العبارة أنّ سبب إنشاء المحكمة الجنائية الدولية هو فقط الاهتمام بأمثال الدول الأفريقية وبوتين، وليست للغرب وحلفاء الغرب. فكيف- بربّك- يمكن لنا أن نأتمن هؤلاء بعد اليوم على إنصاف المظلوم، وترسيخ العدل، ولا ضمانة حقيقية وثابتة في التعامل مع أي مبدأ أو قيمة؟
الأحرى بالدكتور برهان غليون، وكلّ من يدور في فلك الخطاب العلماني الذي ما زال يسعى لتعزيز العدل والمساواة في أوطاننا، تمكين الحوار لا الشجار، والشراكة لا الاحتكار، مع حقّ كل طرفٍ في تبنّي الأفكار والنظريات التي يرى أنّها ستُقرّبه من الازدهار والرقيّ والمجد والحريّة للشعوب والأوطان
إذن، وبعد ذلك كله، لا يمكن بحال أن نضمن حماية حقوق الإنسان وحريته وكرامته إلا بالرجوع إلى منظومة ثابتة ومطلقة، لا تخضع لأهواء أصحاب المصالح، ولا لتقلّب أصحاب النزعات العنصرية، ولا تتبدّل بتغير الزمان والمكان، ولا وجود لهذه المنظومة القيمية المطلقة والشاملة سوى ما وضعه الخالق: ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ [الملك 14].
لذا، فالأحرى بالدكتور برهان غليون، وكلّ من يدور في فلك الخطاب العلماني الذي ما زال يسعى لتعزيز العدل والمساواة في أوطاننا، تمكين الحوار لا الشجار، والشراكة لا الاحتكار، مع حقّ كل طرفٍ في تبنّي الأفكار والنظريات التي يرى أنّها ستُقرّبه من الازدهار والرقيّ والمجد والحريّة للشعوب والأوطان.. مع دعوة صادقة لقراءة منصفة وواعية للمفاهيم الإسلامية، بعيدًا عن التحيّزات المسبقة، واجترار الخطابات ذاتها، وصنع معارك وهمية صاخبة، والبحث بصدق عن مثالب النموذج العلماني اليوم، والانشغال بإصلاحه وتحمل المسؤولية لإجراء مراجعات جادة للبنية المعرفية والمفاهيمية، وتقييم بعض التجارب العلمانية القاسية التي ولّدت العديد من الأزمات من خلال تثبيت الاستبداد والظلم والعنصرية، وتبرير قمع الشركاء وسحقهم من أجل انتصارات خاوية على عروشها.
إنني على قناعة بأننا إن فعلنا ذلك، كلّ في ميدانه، وكلّ حسب قدرته، فإنّ هذا سيؤدي بالفاعلين وأصحاب الفكر للالتقاء في مشاريع ومبادرات ونقاط اشتراك عدّة يتقاسمها كلّ الأحرار في الوطن. وستكون هذه النقاشات الفكرية الصريحة وسيلة لتعزيز الفهم والوعي، والعمل على بناء مجتمع متماسك ومزدهر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.