في المقال السابق "كامالا هريس وحركة النجوم الخمسة ومستقبل الأمة" تناولنا فكرة مهمة ولدت في إيطاليا من رحم الرغبة في التغيير، وهي إنشاء حركة شعبية تعبّر عن الواقع الشعبي وآلامه وطموحاته، في ظل الفساد المستشري في الطبقة السياسية الإيطالية، والذي جعل عامة الشعب يبحثون عن الخلاص.
الفكرة تلقّفها بعض المواطنين، وقادها الممثل الكوميدي بيبي غريللو، ورجل الأعمال جيانروبرتو كاساليجيو، واتخذوا من منصات التواصل الاجتماعي وسيلة لإيصال الفكرة وإسماع الحكومة والسياسيين صوت الطبقات المهمّشة، والتي أصبحت الشريحة الكبرى في المجتمع، نتيجة السياسات الفاشلة للحكومات المتعاقبة.
أولويات السياسات الوطنية تقف حائلًا دون هذه الوحدة أو التكامل، فمصالح بعض الدول قد لا تتماشى مع مصالح الدول الأخرى، بل قد تمس – من وجهة نظر السياسيين – أولويات الأمن الوطني واستقلاليته
وبعيدًا عن تجاذب الأيديولوجيات، اتخذت الحركة من المشتركات مبادئ رئيسة لها تجتمع عليها كل فئات المجتمع، فأطلقت أهدافًا رئيسة لها تسعى لتحقيقها، تمثلت في الشفافية والحوكمة، فالحركة بالأساس تعارض الفساد السياسي، وتسعى لتحقيق شفافية أكبر في إدارة الدولة، وهذه مطالب لا يختلف عليها اثنان، فبالشفافية والحَوكمة يمكن ترشيد حالة الهدر الذي يطيح بأغلب موارد الدولة، فالشفافية تصنع رقابة ذاتية ومتابعة حقيقية من قبل الشعب، ومن ثم فإن الحوكمة تقطع الطريق بالأساس أمام الفساد، وتئده في مهده.
كما هدفت الحركة إلى الحفاظ على البيئة، والاتجاه للعمل بالطاقة المتجددة والحفاظ على الموارد الطبيعية، وفي السياق وضعت الحركة نصب عينيها رفع كفاءة الاقتصاد، والعمل على تنمية الاقتصاد المحلي والمشاريع الصغيرة، وتشجيع الابتكار والتكنولوجيا، ولعل من أهم أهداف الحركة تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال مكافحة الفقر وتعزيز الرفاه الاجتماعي.
لقد كانت محاولات الاتحاد البيني في الأمة الإسلامية مثار بحث، لما واجهته من فشل في كلّ نموذج قام بين دولتين أو أكثر، أو حتى على مستوى المنظمات، على مدى مئة عام ماضية، وهناك من وصل إلى نتائج تشمل ما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو اجتماعي أو ثقافي.
وجود الجماعات التي تتخذ من العنف سبيلًا لتنفيذ أجندتها يزيد من احتمال فشل أي مشروع وَحدوي أو نهضوي بين الدول الإسلامية
ولعلّ أولويات السياسات الوطنية تقف حائلًا دون هذه الوحدة أو التكامل، فمصالح بعض الدول قد لا تتماشى مع مصالح الدول الأخرى، بل قد تمس – من وجهة نظر السياسيين- أولويات الأمن الوطني واستقلاليته، مع عدم إغفال التدخلات الخارجية والضغوط الدولية، والتي تأخذ دورًا مهمًا في تعقيد محاولات هذه الوحدة، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على حالة التكامل الاقتصادي، ويدعم ذلك العنصر سلبًا التفاوت الكبير في مستويات التنمية بين الدول الغنية بالموارد، والأخرى التي تفتقر لموارد تجاري بها أختَها، بالإضافة بطبيعة الحال إلى التبعية الاقتصادية، في أمثلة أشهرها "البترودولار".
التحديات الأمنية في كل النماذج التي ذهبت إلى محاولات الوحدة كانت من أهم العوائق التي تحول دون إتمامها، ولعل أهم ما يغذّي هذا العامل سلبًا هو ما تعانيه الدول الإسلامية من نزاعات داخلية أو إقليمية، وصراعات على حدود وهمية خطّها المستعمر على الخرائط قبل أن يرحل فيزيائيًا ويترك للأمة وكلاءه فعليًا.
وفي السياق نفسه، فإن وجود الجماعات التي تتخذ من العنف سبيلًا لتنفيذ أجندتها يزيد من احتمال فشل أي مشروع وَحدوي أو نهضوي بين الدول الإسلامية.
يضاف إلى كل ما ذكر ضعف القيادة – ولن نذهب أبعد من ذلك- وعدم وجود رغبة حقيقية لدى تلك القيادة، وغياب إرادة صادقة لخوض حرب القضاء على هذه التحديات، وتذليل العقبات وتعبيد الطريق أمام هذه الوحدة.
لعلنا استفضنا في الكلام عن التحديات التي تقف أمام وحدة الأمة، وهربنا من ضرب الأمثلة على النماذج التي أخفقت في تحقيقها، وذلك لأنها كثيرة، والوقوف عليها مضيعة للوقت بعد أن سردنا في طيات الحديث عن التحديات أسبابَ فشل هذه النماذج، لكن الوحدة نفسها بالنسبة لأبناء الأمة تبقى حلمًا شاخصًا في ذهن وبين ناظرَي كل مخلص محب لبلده وأمته.
صناعة النواة الصلبة التي تبدأ بها مشروعَ الوحدة في بلدك هي إحدى أهم الخطوات للبدء في المشروع، والدعوة له على مبادئ جامعة تستقطب الأفراد، وتلتف حولها الكيانات
لذا، فإنّ التجارب الرسمية الفاشلة لا يمكن أن تقف حائلًا أمام الحلم، مادام أن لصاحب هذا الحلم إرادةً جادّة ترغب في تحقيقه، وتسعى لإنفاذه وتجدّ في مواجهة الصعاب التي تحول دونه، ولذلك حلاوة لا يعرف طعمها إلا من لا يرضى عن المعالي بديلًا، واتخذ من التحدي سبيلًا، لغاية هي أعلى من مكسب قريب.
نموذج حركة النجوم الخمسة التي شرحناها في صدر المقال حاضرة على المستوى المحلي والإقليمي، وصولًا إلى التكامل الإسلامي الشعبي، بعيدًا عن حسابات الحكومات وضغوط القوى الخارجيّة ومكاسب الفاعلين الدوليين ومصالح القوى الحاكمة.
فصناعة النواة الصّلبة التي تبدأ بها مشروعَ الوحدة في بلدك هي إحدى أهم الخطوات للبدء في المشروع، والدعوة له على مبادئ جامعة تستقطب الأفراد، وتلتف حولها الكيانات، مع الحرص التام من القائمين على صناعة النواة الصلبة على التأكيد المستمرّ على عدم الخوض في الأيديولوجيات سواء السياسية أو العقدية أو غيرها، حتى لو كانت رياضية، ومن ثم الجدل الذي ابتليت به الأمة، والتركيز على أهداف الفكرة لكي يُولد كيان حقيقي يحمل الفكرة، وينشر نوره في كل قُطر، كيما يهلّ الهلال على أمتنا حاملًا الخير والنماء إيذانًا بميلاد "الأهلّة الخضراء" في مشروع وحدة الأمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.