قالت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية إن رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة استقالت بعد 15 سنة في الحكم، بسبب الاحتجاجات المناهضة لحكومتها، واستقلّت مروحية عسكرية وفرّت إلى الهند، ليستقبلها مستشار الأمن القومي الهندي أجيت دوفال، وربما تحصل على اللجوء هناك، ولو كان ذلك على حساب العلاقات مع حكومة جديدة في بلادها.
حفاوة الاستقبال الهندي بالشيخة لا جديد فيها، حيث إن حكومتها حافظت على علاقات جيدة مع نيودلهي على حساب النفوذ الباكستاني في البلاد. أما اعتبار الصحيفة أن الاستقبال قد يكون على حساب العلاقات الهندية مع الحكومة الجديدة، ففيه شيء من المغالاة، لا سيما أن الهند لن تتوقّف عند الأسماء بقدر ما ستهتمّ بمستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين، لاعتبارات ترتبط بمصالح الهند القومية انطلاقًا من بنغلاديش، ولا يتوقف الأمر عند مَن يصل إلى السلطة.
استقبال الهند لحسينة، يحمل دلالة مؤكدة أنّ العلاقة بين البلدين لم تكن قائمة على حراك دبلوماسي، بقدر ما تربطهما علاقة إستراتيجية، هي جزء من الصراع على النفوذ بين الهند من جهة، وباكستان من جهة ثانية
هربت الشيخة حسينة بعد أيام من الاحتجاجات في بلادها على خلفيات اقتصادية في الظاهر، وتحت شعارات رُفعت مناهضة لسياسات الحكومة التي أوقعت البلاد في حالة الفقر. قد تحمل تلك الاحتجاجات للوهلة الأولى مطالب تصحيحية للأجور، وغيرها مما كان سبب التردي الاقتصادي في الآونة الأخيرة في البلاد، ولكن بحسب التقرير الذي ذكرته المجلة يتبيّن أن الموضوع يأخذ بعدًا مختلفًا عن الاحتجاجات، ليدخل في الصراع الحاصل على الساحة الدولية، حيث بدأ يأخذ شكل الانقسام العمودي بين الفرقاء المتحاربين.
إن استقبال الهند للشيخة، يحمل دلالة مؤكدة أنّ العلاقة بين البلدين لم تكن قائمة على حراك دبلوماسي، بقدر ما تربطهما علاقة إستراتيجية، هي جزء من الصراع على النفوذ بين الهند من جهة، وباكستان من جهة ثانية.
وجد المتابعون في المشهدية التي حصلت من إطلاق النار على المتظاهرين في العاصمة دكا، إلى اقتحامهم المقرّ الرسمي لرئيسة الوزراء، إلى بحث الجيش عن تشكيل حكومة مؤقتة، أنّ ما حصل يصبّ في خانة تراجع النفوذ الهندي في بنغلاديش، لا سيما بعد حلّ البرلمان وقيام الرئيس محمد شهاب الدين بتعيين محمد يونس، الحائز جائزة نوبل، لقيادة حكومة مؤقتة، في تحوّل مفاجئ سوف يشكّل معضلة للهند، وربما يؤثّر على التجارة والأمن الإقليمي والعلاقات الخارجية.
تربط الهند مع بنغلاديش علاقات راسخة وقديمة، فهي الجارة التي أخذت دورًا أساسيًّا في تأسيس هذا البلد واستقلاله عن باكستان عام 1971. وقبل الاحتجاجات كانت نيودلهي على استعدادٍ لتزويد بنغلاديش بمساعدات اقتصادية وعسكرية كبيرة؛ بسبب مخاوفها من أن يصل إلى الحكم الإسلاميون المقرّبون من باكستان؛ إذ تُعدّ باكستان وبنغلاديش دولتين ذواتَي أغلبية مسلمة في جنوب آسيا، حيث شكّل البلدان دولة واحدة لمدة 24 عامًا بعد نهاية الحكم البريطاني، في حين تُعدّ العلاقة الهندية الباكستانية في أدنى درجات التلاقي، لهذا فهما تعيشان حالة من العدائية الدائمة، وبنغلاديش اليوم تعتبر حلقة من تلك السلسلة التي لن تنتهي فصولها من الصراع بين الجارتين اللدودتين.
هل ستستغلّ نيودلهي الصراعات الدينية الحاصلة بعد التفلّت الأمني بحقّ الأقليات، وتتدخّل عسكريًّا على الطريقة الروسية في أوكرانيا تحت شعار حماية الهندوس هناك؟
مع استقالة حسينة، أصبحت لدى الهند مخاوف ملحّة؛ فهي أولًا قلقة بشأن طبيعة الحكومة التي قد تنشأ في البلاد، خاصة أنه من غير المرجّح أن يتمكّن حزب "رابطة عوامي" من العودة إلى السلطة في الانتخابات القادمة؛ بسبب حملة القمع التي شنّتها حكومة زعيمته. هذا ما فتح المجال لدخول تلك البلاد في دائرة الصراع على النفوذ الإقليمي، بين باكستان الطامحة لتقييد النفوذ الهندي، وبين نيودلهي ذات النظام القومي الهندوسي بزعامة ناريندرا مودي، الذي يترأس حكومة حزب التجمّع الديمقراطي بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا المعادي للإسلام بشكل كبير.
لا يختلف اثنان في أن للهند طموحًا إقليميًّا واضحًا، إن لم نقل عالميًّا، لاحتلال موقع إستراتيجي ضمن دول القرار؛ فنيودلهي داخل لعبة الأمم التي تحصل اليوم، تجد نفسها وسطية حذرة ومترقّبة للأحداث، بين غرب يعمل على ترتيب شؤون النظام العالمي بما يحافظ على قوته، وبين شرق متمثّل في روسيا والصين اللتين تهدفان إلى إعادة صياغة هذا النظام بعيدًا عن الهيمنة الغربية، وصولًا إلى فرض نظامٍ متعدّد الأقطاب. فأن تخسر نيودلهي حليفًا متينًا لها هو بنغلاديش، فسينعكس سلبًا على طموحاتها الإقليمية، وسيسمح لأعدائها باستغلال الفوضى لإعادة ترتيب أوراقهم في هذا البلد.
سقطت الحكومة في بنغلاديش ودخلت البلاد في فوضى الصراع على السلطة، حيث باتت هدفًا للتدخّلات الإقليمية والدولية على السواء؛ إذ من المرجّح ألا يتوقّف التدخّل عند الهند، التي استطاعت الحفاظ على علاقات مع بنغلاديش في زمن الشيخة حسينة، لهذا يعتبر هروبها نكسة في الإستراتيجية الهندية على أكثر من صعيد، تحديدًا على صعيد الأمن القومي الهندي، في حال استطاعت باكستان تحريك العصب الديني لإبعاد نفوذ نيودلهي.
فهل ستستغلّ نيودلهي الصراعات الدينية الحاصلة بعد التفلّت الأمني بحقّ الأقليات، وتتدخّل عسكريًّا على الطريقة الروسية في أوكرانيا تحت شعار حماية الهندوس هناك؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.