شعار قسم مدونات

المفكر العربي.. والانبثاق الحضاري المرتقب

جانب من احتجاجات سابقة للمعارضة ضد الرئيس قيس سعيد/ذكرى الثورة التونسية/العاصمة تونس/14يناير 2023
لماذا تأجلت عودتنا؟ ومن أين نطفو من جديد على سطح الحضارة فاعلين مجددين؟ (الجزيرة)

لماذا تتأخر لحظة النهوض العربي؟ هل أخطأنا العنوان؟ هل فاتتنا شروط تحديد المعالم، ورسم مسارات الرقي والارتقاء الموعود؟

ترددت نخبنا طويلًا في طرح الأسئلة الحارقة والإجابة عنها، وما زالت كذلك وهي تعاين مظاهر تقهقر أمتها وتراجع مؤشرات شعوبها في ميادين التطور الحضاري، وظل السؤال القديم الملحّ المتكرر بعد سنوات طويلة من الاستقلال: لماذا يتخلّف عالمنا ويتقدّم غيرنا؟

لم يراود نخبَنا في عز محن الانحطاط والاستعمار حلمُ معاودة الصعود، وإشراق شمس العرب من جديد.. ومشاريع الأمم في البدء لا تعدو رؤيا مصلح، وفكرة خارج السرب لمجتهد متحرر من طاحونة التخلف والوهن المعتاد.

لم نكن نقنع بما يبديه الإعلام الرسمي الموجَّه من إشادة بمنجزات مسيرة تنمية شاملة، حققتها الدولة الوطنية على أنقاض الاستعمار والتخلف

قبل أكثر من قرن تصدّى بعض روّاد الإصلاح، مثل رشيد رضا ومحمد عبده والأفغاني والكواكبي والثعالبي، للمطالب الأساسية لمعاودة الصعود، ومن بينها التحرر والاستقلال والعودة للحضور، ونفض الغبار عن الذات.

حملتني مع فتية الجيل أحلام شباب هالَه ما عايش من مظاهر انبتات ووهن وضياع، والتهمتُ ما ظفرتُ به من وصفات جادت بها أقلام زمرة إصلاحية مجددة، بينها الغزالي والقرضاوي ويكن والجابري والمنجرة وعمارة، وغيرهم كثير.

كان بين المفكرين الذين بادروا بمحاولة جريئة لتأسيس نسق وبناء جديد للمجتمع والحضارة الإسلامية، الجزائري مالك بن نبي، ومعه فكره المجدد، وهو ينبش في واقع الأمة، ويستقدم آفاق الحلول المستعصية، ويستبين مداخل النهوض الحضاري الجديد.

إعلان

لم نكن نقنع بما يبديه الإعلام الرسمي الموجَّه من إشادة بمنجزات مسيرة تنمية شاملة، حققتها الدولة الوطنية على أنقاض الاستعمار والتخلف البائدين. وقد تبدّت لنا أوجه الانسلاخ الحضاري وعاينّا سوءات التبعية والتقليد السلبي والارتهان للأجنبي، والارتباط الحيوي بالآخر المتقدم.. والمغلوب مجبول على اتّباع الغالب.

استبدّت بكثير من الشباب عُقد الانبهار بالغرب والانخراط في العيش للحظة لا تفوت، والسعي لتحقيق نجاح لا يعدو الخلاص الفردي، ولو بإهداء ثمرة الجهد وزهرة العمر في رحاب مؤسسات الغرب.

لا أدري من أين جاءني التوق لأتتبع معالم طريق أخرى، بعيدًا عن مشيئة الأمر الواقع وطاحونة الشيء المعتاد.

الشعب – على حد قول الأستاذ راشد الغنوشي، عجل الله بفرجه – مسلم حضاري أصابته غيبوبة حضارية أفقدته وعيه.. ثم ماذا؟.. كيف السبيل إلى عودة الوعي؟

كنت في تلك السنوات – شأني شأن كثير من أبناء جيلي- مفتونًا بخوض غمار البحث عن طوق نجاة، والظفر به في أقرب وقت ممكن.. كنا نلعن الظلم والظالم والظلام.. وندعو الله أن يريحنا منها دون تحديد الطريقة، غير أن الشفقة تغلب علينا، فنرثي لحال أمتنا التي كانت تسود الدنيا وتسوس الأمم.

دأبتُ على التهام كتبه مع أدبيات متنوعة رسمت المستقبل على شكل نكوصٍ، واستعادة حرفية لأمْسِ تليدٍ، وذهب بعضها إلى حتمية اقتلاع الحاضر من الجذور، والاستعاضة عنه بنسخة طبق الأصل من العصر الذهبي.. مزجت تلك المدونة الغاضبة مسحة من السعي لطلاق الراهن، والسفر إلى زمن آخر بلا قوارب ولا مجاديف..

ورغم ما كان يستهوينا، وينعش نفوسنا الغضة التواقة للنصر السريع الحاسم في تلك المقاربة الأصولية، الجانحة للمفارقة والقطع والهدم الشامل لصروح جاهلية القرن على أمل إعادة البناء، فإن أمرًا ما ظل يوحي بوجود ثغرةٍ ما، ونداء خفيًّا خافتًا كان ينبجس مع أصواتٍ وأقلام خَبِرتها صفحات مجلة الأمة تحت عنوان.. "أين الخلل؟".

حملت تلك الجهود التي اشترك فيها دعاة ومفكرون ومصلحون روحًا جديدة، أسست لمنحى فكري أصيل يدعو للتشخيص المتأنّي، ويوصي بالنأي عن طريقة شاعر الثورة أبي القاسم الشابي الساخط على شعبه، والزافر في لحظة يأس …ليتني كنت حطّابًا فأهوي على الجذور بفأسي..

إعلان

فالشعب -على حد قول الأستاذ راشد الغنوشي، عجل الله بفرجه- مسلم حضاري أصابته غيبوبة حضارية أفقدته وعيه.. ثم ماذا؟.. كيف السبيل إلى عودة الوعي؟.. وكانت مقولته تلك سمة معظم خطبه ومعالم نهجه التي تجمعت عندي بعد عشرات المحاضرات والدروس التي حضرتها مع المئات، مطلع الثمانينيات في جوامع الزراعية وصاحب الطابع وغيرها.

حصلت لدينا قناعة بأن العتمة موحشة، وأن مبارحة القمقم واجب وفرض عين.. لم يبقَ إلا إيقاد شمعة الفكر الهادي لوعي الواقع بعلاته، وتحديد خط مسارات لإعادة الصعود، ورفع الجسم المريض ليأخذ بقعة تحت الشمس

لم يتواتر بالقدر الكافي الحديث عن مالك بن نبي واستحضار فكره الإصلاحي الذي رشحت به مدونته المزهرة بـ"ميلاد مجتمع" و"شروط النهضة" و"الظاهرة القرآنية". ولو اكتفينا من رحلتنا في رحاب فكره ورؤاه لاقتصرنا على نظرته لشروط بناء المجتمع والحضارة، ولفتته المتفردة للذات، والعناصر المشكلة للقابلية للاستعمار، قبل إدانة الآخر ولعن الوافدين والغزاة..

تفيأنا الظلال، ونهلنا من ينابيع تلك السيول الزلال، وبقينا على ذات الظمأ.

حصلت لدينا قناعة بأن العتمة موحشة، وأن مبارحة القمقم واجب وفرض عين.. لم يبقَ إلا إيقاد شمعة الفكر الهادي لوعي الواقع بعلاته، وتحديد خط مسارات لإعادة الصعود، ورفع الجسم المريض ليأخذ بقعة تحت الشمس.

كانت سنوات مضنية مضطربة، تعذر فيها وفاق المفكرين والتقاء النخب والمذاهب برغم المحاولات والتضحيات والمبادرات، ومن بينها مشروع رائد للقاء وحوار بين السنة والشيعة..

أمثال تلك المبادرات مضت بعيدًا.. وقد تثمر لاحقًا.

ببد أن زهرة العلماء ومزهرية اتحادهم جففت ينابيعها.. هم ملح البلد، ولكنهم أول من يعاني الجور والنكد..

وبصرف النظر عن سيد قطب الذي اختلفت حوله البراءات وأُعدم.. بعض المفكرين المصلحين لوحقوا وحوصروا ممن ساءهم أن يكتبوا، وأذى نفوسهم أن يفكروا..

بن نبي مات غريبًا وحيدًا.. الغنوشي الثمانيني سجين.. وجل الدعاة المجتهدين مغتربون..

بعد نصف قرن على رحيله، وأربعة عقود على سلسلة "أين الخلل؟" في مجلة الأمة، تعود الأسئلة ذاتها بإلحاح أشدّ!. أين الخلل؟ وكيف ننهض؟ ولماذا تأجلت عودتنا؟ ومن أين نطفو من جديد على سطح الحضارة فاعلين مجددين؟..

إعلان

أسئلة مؤجلة في زحام الحوادث الدامية المتسارعة وأمواجها العنيفة المتلاطمة.. مكدسة على أبواب نخبتنا الموقرة إلى حين..

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان