تجمعك الحياة بأطياف متعددة من البشر، ووسط أمواجها المتلاطمة تتلقى لكمات الكلمات السامة التي تورث قلبك بعض الجروح! وربما تسمع تلك الكلمات الجارحة تقال لآخرين أمامك، فتشعر وكأنها قيلت لك، فتقفز من مكانك وكأنك ستنقذ شخصًا يواجه الغرق في مياه الكلمات السلبية، المليئة بالمواد السامة التي تعكس سوء قلب صاحبها، وقلة وعيه بذوق العلاقات الرفيع!
قبل الدخول في عالم المجروح؛ أقول للجارح: أين إحساسك بالآخرين حينما تفوّهت بسموم كلماتك؟ وما هو حال ضميرك وقد تركت المجروح خلفك يعاني؟
تعالوا معي لنأخذ نماذج مما يتكرر علينا سماعه بشكل دائم مثل: أنت فاشل وضعيف، ولا تستطيع، ودنيء، وغبي، ولن تحقق شيئًا في حياتك، وليس بمقدورك القيام بتلك المهمة، ومثلك لا أفخر به، وفلان أحسن منك، وأنت تراوح مكانك، ولن تنجح أبدًا، وستسقط قريبًا.
وغيرها من العبارات التي ينطق بها أهل الخيبة ممن يعشقون التحطيم، وهتك الجروح المعنوية التي تترك ندوبًا في القلب لا يشيفها سوى الانتقام الذي قد يأتي ولو بعد حين، وقد يتجلى في مظاهر لا تعبر بوضوح عنه، مدخلةً المتسبب فيها في متاعب مختلفة! كما قال سبحانه في سورة الروم: {ليذيقهم بعض الّذي عملوا لعلّهم يرجعون}.
وقبل الدخول في عالم المجروح؛ أقول للجارح: أين إحساسك بالآخرين حينما تفوهت بسموم كلماتك القاتلة؟ وما هو حال ضميرك وقد تركت المجروح خلفك يعاني؟ وأين مروءتك وأنت تتركه ينزف دون أن يشعر به أحد، كما قال الشاعر "أصرخ بكل حسي، وما سواي انتبه"؟ وكيف يمكنه التخلص من نفاياتك التي أغرقتْه في وحلها القذر؟
ولكي تعرف خطورة ما فعلت، دعني لأشير إلى قصة فيلم تابعته، ملخصها أن شخصًا تنمّر على آخر في مرحلة الدراسة الجامعية، وألحق به الكثير من الأذى والتهم التي لا أساس لها من الصحة! وبعد ربع قرن من الزمان انتقم منه شر انتقام. وقس على هذا قصصًا كثيرة تصف قوة تأثير الكلمة السلبية على كل شيء في الحياة.
ومن المبررات الغريبة التي نسمعها قول الجارح: "أنا قلت له هذه الكلمات الجارحة لكي أحفزه بها!! فكم من ناجح حقق المستحيل بسبب كلمة سلبية قيلت له فدفعته نحو النجاح"!. وهذا تمامًا عكس المنهج الرباني الذي يدعونا إلى الكلمة الطيبة بقوله تعالى في سورة إبراهيم: {ألم ترَ كيف ضرب الله مثلًا كلمةً طيّبةً كشجرةٍ طيّبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السّماء}، وفي سورة البقرة: {وقولوا للنّاس حسنًا}. وحتى الذين يتعرضون للكلام المؤذي، قال فيهم سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}، ووصف سبحانه وتعالى أهل الجنة بقوله في سورة الحج: {وهُدوا إلى الطَّيِّب من القول}.
مزاجك يا "خليفة الله في الأرض" لا يستحق أن يعكره نكرة يرمي بسموم كلامه هنا وهناك، وكأنه لا يعرف أن الكلمة لها تأثير كبير يفصل بين الحياة والموت
ولو كان الكلام السلبي مقبولًا لما تضايق منه النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد خاطبه الله سبحانه وتعالى في سورة الحجر: {إنّا كفيناك المستهزئين}، وبعدها بآية قال جل في علاه: {ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون}.
وهي فرصة ثمينة أن أذكّر المجروح بقولهم: "أنت لا تستطيع أن تمنع الآخرين طرق بابك، ولكن بإمكانك ألا تفتح لهم"، فلا ترفع سقف توقعاتك من البشر الذين يتلقون الجروح أيضًا في مواطن أخرى لا يستطيعون فيها المواجهة لضعفهم، فيجمعونها ويقذفون بها الأبرياء في ساحة رديئة، كل واحد فيها يتقوى على من هو أضعف منه، وكأننا في غابة لا يسود فيها التوقير والاحترام!
ودعنا معًا نفكر خارج الصندوق قليلًا متمثلين قول ابن عطاء الله السكندري: "كل نارٍ تستبطن نورًا"! إذ ربما كان لهذه الكلمات الجارحة أثر إيجابي في حياتك، كما قال الشاعر:
بعض الجروح إن صابت القلب تنهيه .. وبعض الجروح تـزوّد القلب قوّة
ويصادق عليها جلال الدين الرومي حينما يقول: "لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك".
وقد قالت العرب: "إذا هبّت رياحك فاغتنمها"، فاللحظة التي تواجه فيها عكس الجرح (وهو المدح)، عليك أن تمتلئ بها، وتشحن بها رصيدك النفسي والمعنوي جيدًا؛ لكي تكون رابط الجأش أكثر في مواجهتها حينما تواجه لاحقًا كلمات سلبية، فتمر على قلبك مرور الكرام؛ لأنك تملك القوة اللازمة لمواجهة سفيه الكلام، وقبيح الكلم؛ وحينها ستنزل إلى الساحة لكي تراقص جروحك، وتحتفل بالجرح تلو الآخر، وكأنك تُخرج قلبك من جسدك، وتتأمل مكان الجرح لترتقه بضماد السكينة، وتطهّره من آثار جرحه، وتعيده إلى جسدك نقيًا من الشوائب، صافيًا من كل نقيصة، نابضًا بالحياة.
فمزاجك يا "خليفة الله في الأرض" لا يستحقّ أن يعكره نكرة يرمي بسموم كلامه هنا وهناك، وكأنه لا يعرف أن الكلمة لها تأثير كبير يفصل بين الحياة والموت، كما قال سبحانه في سورة المائدة {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا}، وكما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه البخاري: {وإنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط اللّه، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنّم}.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.